مقالاتمقالات مختارة

بقعة أمل

بقلم علاء الدين محمد سيف – مدونات الجزيرة

قليلةٌ هي الآمال وسط إحباطات الهزائم والخيبات، لكنها تبقى ذات الأثر الجليل، كبقعة الضوء في المحيط المظلم، أو كالفسحة بعد الضيق كما عبر الطغرائي في لاميَّته: أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها … ما أضيقَ العيشُ لولا فسحةُ الأمَلِ.
وكثيرةٌ هي المشاهد التي تمسَّكنا فيها بالأمل رغم الخطوب المدلهمَّة، وعملنا على تحجيمه إلى حدِّ أن صنعنا منه الانتصارات؛ خشية أن يطغى اليأس على واقعنا، وفي الكتاب العزيز ما يدفعنا إلى ذلك الأمل: “لا تقنطوا من رحمة الله” “ولاتيأسوا من روح الله”.

ما أجمله ذلك المشهد النادر الذي يظهر فيه عازمٌ على حبِّ الحياة في زمننا الذي تقاذفتنا فيه الإحباطات والهزائم، وتراه يقصم ظهر اليأس بالأمل ويواصل عمره دونما كللٍ أو ملل، وليس ذلك إلا شأن المؤمن الذي فقه الحياة وأيقن أن الجنة محفوفة بالمكاره.

وكيف يفقد الأملَ مؤمنٌ يقرأ عهد ربه: “وكان حَقاً علينا نصرُ المؤمنين” ويسمع قوله: “أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء”؟ بل ليس له عندئذٍ إلا أن يحسن بربه الظّنّ، ويرقب النصر. فلا يكون الأمر بعدئذٍ غير أمر وقت، وفي تعاقب الليل والنهار درس لمن أراد اليقين.

سفينة نوح قطعة فنية ألواحها ومساميرها الإرادة والأمل… هكذا قال صديقي وهو يتساءل: ياترى هل كان باستطاعة نوح -عليه السلام- أن يصنع الفلك لولا الأمل؟ وهل كانت البشرية لتستمر لولاه؟ مع إيماني بأن صنع السفينة جاء بأمر الله، وأنه ما كان لنوح إلا الإذعان لذلك الأمر سواء في وجود الأمل من عدمه، لكني أتفهم تساؤلات صديقي التي منبعها معرفته بصعوبة ما واجهه النبي الكريم في خضم صنعه الفلك والذي تمّ مصحوباً بسخرية قومه الكفيلة بإحباط أشد الواثقين وأنجح العاملين، لكنه برغم ذلك أنجز مهمته فشقَّت سفينته طريقاً للمؤمنين نحو النجاة مخلِّفة كل ساخرٍ ومحبِّط.

وأوضح من ذلك مشهد يوم الخندق والعدو متوقع أن يباغت المدينة في أي لحظة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه يحفرون الخندق؛ بغية أن يردوا الخطر المحدق عن مدينتهم وأنفسهم، وبينما هم كذلك، تعيق طريقهم صخرة كبيرة لم يقدروا عليها، فإذا بالنبي الكريم يتناول المعول ويضرب تلك الصخرة ثلاثاً، و يكبِّر مع كل ضربة تكبيرة ويغتنمها فرصة ليربي في نفوس المؤمنين التفاؤل والأمل في النصر الموعود، فيبشرهم بمفاتيح الشام وقصورها الحمراء والمدائن وصنعاء. ما أعجبه من مشهد! قوم يزحف العدو نحوهم ويتربص الموت بهم، وحديثهم عن أمر مستقبليٍّ يستبعده كل من تجرد من الإيمان وحسن الظن بموعود الله.

وفي الذاكرة مشهدان

أولهما حرب غزة الأخيرة التي عشت تفاصيلها -رغم بعد المسافة- عن كثب. أذكر أني لم يكن يخفف من حزني على الضحايا التي كانت ترتقي إلى مولاها بالأعداد الغفيرة في اللحظات القصيرة إلا مشاهد الصواريخ التي كانت تنطلق في الاتجاه المعاكس، وقد كنت أسمع عنها شذوذ الحديث؛ أنها محض عبثٍ ورد يائس، ولم تكن في جواي دون مضادٍ حيويٍ لليأس والحزن، والمؤمن متفائلٌ بطبعه، كيف لا وغزة هي آخر مدارسنا في مقاومة نسيان تراثنا من الكرامة، ولست أفتأ أنشد قول نزار: يا تلاميذ غزة علمونا،،، بعض ما عندكم فنحن نسينا.

وثاني المشهدين، ذلك الذي مثَّلتهُ محاولةُ الانقلاب الفاشلة في بلاد العثمانيين، والتي لم يطلْ أمدها فوق ليلةٍ واحدة، وإن كانت “طويلةٍ ظلماء” كما في وصف عبد الله جول، بِتُّ تلك الليلة -ومثلي كثيرون- تربصاً ووجلاً أن تنطفئ الشمعة الأخيرة التي تشقُّ الليلةَ الظليمةَ وتطمئننا أنّ الظلام غير متمكنٍ من المشهد تماماً، وأنّ الأمل مازال يزاحم على بقعةٍ وسط كلِّ معمعة الإحباطات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى