مقالاتمقالات مختارة

بعض ملامح السياسة الاستعمارية الإسبانية في المجال الثقافي

بعض ملامح السياسة الاستعمارية الإسبانية في المجال الثقافي

بقلم د. أحمد سوالم

لم يهدف الاستعمار الإسباني في المغرب إلى تحقيق غايات اقتصاديـة فقط، بل تعـدَّ ذلك لمشروع استعماري متكامل الأركان في إطار هيمنة الغرب على الشرق، فكانت الثقافة والهوية محور الصراع؛ إذ سعى لمحو وإقصاء الثقافة الوطنية وإحلال المشروع الثقافي الاستعماري متعدد الأشكال والأهداف.

والحديث عن السياسة الثقافية للاستعمار الإسباني بالمنطقة الخليفية[1]، يدفعنا إلى التطرق لركن أساسي من أركان تثبيتها وهو التعليم، فسياسته التعليمية منذ احتلاله للبلاد لم تكن واضحة المعالم مثل الحماية الفرنسية بالمغرب، لكون الهدف في البداية كان تهدئة المنطقة وتثبيت الوجود خصوصاً مع المقاومة الشرسة لسكان الريف وباقي مناطق الشمال، وهنا نستحضر المقاوم محمد بن عبد الكريم الخطابي[2] وانتصاره في معركة أنوال سنة 1921م.

عمد المستعمر الإسباني في مجال التعليم إلى إنشاء ثلاثة نماذج من المدارس، هي:

– المدرسة الإسبانية لأبناء المستعمر.

– المدرسة الإسبانية اليهودية المخصصة لليهود في الشمال.

– المدرسة الإسبانية العربية المخصصة لأبناء الأهالي.

    نلاحظ تباين وتعدد المدارس، وهو انعكاس لاختلاف وتنوع التعليم المقدم لكل طائفـة وتعبير عن تنوع المجتمع وتعدد قومياته المتعايشة إلا أن هذه الأصناف التعليمية، لم تكن متعادلة القيمة، ومتكافئة في ضمان المستقبل الفردي، وتحقيق الارتقاء الاجتماعي؛ وهو ما جعل التعليم الإسباني في المنطقة الخليفية ينقسم لشبكتين مختلفتين: الأولى، تستوعب الأوروبيين واليهود. والثانية، مخصصة للأهالي، ليصبح المجتمع مجتمعين متباينين: مجتمع الأوروبيين واليهود يتمتع أبناؤه بتعليم عصري ملائم، يضمن أفاقاً مستقبلية واسعة ورحبة، ومجتمع العرب المسلمين، يعاني أبناؤه من التضييق، ويقدّم لهم تعليم مختلف آفاقه محدودة، وهو ما يعكس التمييز في التعليم بالمغرب خلال الحماية الإسبانية.

أما من حيث برامج هذه المدارس، فهي تعلي من ثقافة ولغة وحضارة الآخر (المستعمر) وتحط من لغة الأهالي وحضارتهم، وتركز على الطمس التدريجي لمعالم الثقافة والحضارة الوطنية والإسلامية، وتعويضها بفكر المستعمر الدخيل في إطار سياسة الاحتواء، وهو ما عبَّر عنه الفقيه محمد داود[3] بقوله: «… ولاحظت أن الإسبانيين في شمال المغرب – كالفرنسيين في جنوبه – يفتحون المدارس في وجوه أبناء المغرب، ولكنهم يضعون لها برامج مليئة بلغتهم الأجنبية، يلقنون بها تاريخهم وآدابهم ويبثون في أذهان طلابنا ما يملأ قلوبهم تعظيماً وإجلالاً لعظمة الدولة الحامية، وإهمالاً واختصاراً لتاريخ المغرب وماضيه المجيد، ولم يكن لديننا ولغتنا في مناهج تلك المدارس إلا النزر اليسير، بل لم يكن فيها إلا ما هو ذر للرماد في العيون»[4].

فإلى حدود سنة1936 م، لم تكن السياسة التعليمية الإسبانية واضحة المعالم، وهو ما عبَّر عنه أحمد بوجداد بقوله: «… لم يكن لدى إدارة الحماية تصور متكامل ولو نسبياً حول مسألة التعليم المغربي؛ فالإجراءات والمبادرات المتخذة والمؤسسات والأجهزة المحدثة كانت أحياناً متفرقة وأحياناً أخرى متداخلة؛ فقطاع التعليم اعتبر مجرد مصلحة من مصالح مديريتها المكلفة بإدارة شؤون الأهالي والاستعلامات العامة»[5].

ومردُّ هذا الارتباك لعدة عوامل، أهمها:

مواجهة الاستعمار الإسباني لمقاومة شرسة من قبل المغاربة، ومن ثَمَّ كان همه في بداية الاحتلال هو ضمان تهدئة المنطقة.

• غياب رؤية سياسية وبرنامج محدد الأهداف؛ فالسياسات الإسبانية تتغير بتغير المندوبين الساميين، وذلك مردُّه لكون حصول إسبانيا على المغرب لم يكن بمجهود عسكري أو دبلومسي؛ وإنما نتيجة للاتفاق الودي الإنجليزي – الفرنسي.

• ضعف الإمكانيات المادية للاستعمار الإسباني؛ فهو لم يكن مدعوماً برجال الأعمال والمؤسسات البنكية، الذين لعبـوا دوراً مهماً في الاحتلال الفرنسي للمغرب، ومن ثَمَّ عدم الانسجام بين رجال المال ورجال السياسة.

• تعدد مراكز القرار السياسي الإسباني (التمثيلية الدبلوماسية بطنجة، والقيادة العامة للقوات الإسبانية بالعرائش، والإقامة العامة بتطوان)، وهو ما خلق تداخلاً وتضارباً في القرارات والتوجهات السياسية.

لكن بعد سنة 1936م، بدأت تظهر ملامح السياسة الإسبانية في مجال التعليم؛ إذ قامت بإصدار مرسوم 29 يناير 1937م لضمان مراقبته والتحكم فيه نظراً للتخوف من طابعه الثقافي، كما قامت بالفصل بين التعليم المغربي والإسباني، وأحـدثت إدارة مركزيـة أصبحت تعرف بمديرية التعليم المغربي والتي ستتحول لوزارة التعليم العمـومي سنة1946 م «واهتمت بقضايا التعليـم مثـل: التعليم القرآني والتعليم الابتدائي وإنشاء بعض المعاهد الدينية»[6].

إلا أن الخلاصة الأساسية حول السياسة التعليمية الإسبانية بشمال المغرب؛ أنها اتسمت بكونها تجهيلية! ويتضح ذلك في محدودية تعميم التعليم على الأهالي، لكون هدف المدرسة الاستعمارية، ليس نشر الوعي بين السكان؛ وإنما استغلالها لإغراض تخدم مصالح إسبانيا، فإلى حدود سنة 1956م التي تمثل سنة استقلال المغرب كانت نسبة الأميين تفـوق ما كانت عليه قبل الحمـاية سنة1912 م، حيث تجاوزت 95% من السكان، وعدد المغاربة الذين يتابعون دراستهم في البكالوريا لا يتعدى 21 مغربياً جلُّهم من أبناء البرجوازية المغربية المتعاملة مع الاستعمار[7]. فالإحصائيات الرسمية بعد نهاية الحماية الإسبانية، تحدثت عن 204 مدارس ابتدائية، فيها 568 قسماً يعمل فيه 136 معلماً ومعلمة مغربية، و 213 مدرساً و 26 معلمة خياطة و 50 مساعداً، ويتعلم في هذه المدارس حوالي 19555 تلميذاً و 7144 تلميذة.

وإجمالاً، فإن الإحصاءات المدرسية بتاريخ 31 مارس 1955م، كانت 96.229 تلميذاً و 84.773 تلميذة وحوالي 120.000 من الجنسين خارج المدرسة،[8] وهو ما يعكس محدودية العرض التعليمي للحماية الإسبانية بالمغرب.

فهذه المحدودية في استيعاب المتعلمين تجد لها سندها؛ فميزانية التعليم في المنطقة الخليفية مثلاً سنة 1956م كانت لا تتجاوز 21118 بسيطة[9]، وهو رقم بسيط لا يمكن من خلاله تحقيق سياسة تعليمية قادرة على إخراج المغاربة من براثن الجهل والأمية.

كما أسست إسبانيا معهد فرانكو لتحقيق غاياتها الاستعمارية في المجال الثقافي، كما كان يقوم كذلك بالبحث عن المخطوطات العربية الموجودة في المنطقة، عبر التنقيب عن الكتب المخطوطة القديمة بمساعدة المراقبين وأرباب السلطة فعثر على مخطوطات هامة تولى تحقيقها وإخراجها.

خلاصة القول: لقد استهدفت السياسة الثقافية الإسبانية بشمال المغرب لغة المغاربة وقيمهم الدينية، وهدفت لنشر الجهل والأمية بين صفوفهم، وهو ما حدا برجالات الحركة الوطنية في المنطقة الخليفية إلى مقاومتها عبر تأسيس الصحف والمجلات لنشر القيم الوطنية والإسلامية والدعوة لمقاومة الاستعمار، كما أحدثت المدارس الوطنية الحرة تحصيناً للغة العربية كلغة تعليم ولتنشئة الشباب المغربي على القيم الإسلامية السمحة وقيم الوطنية الصادقة الرافضة للاستعمار بكافة أشكاله.

 

[1] المنطقة الخليفية: هي منطقة النفوذ الإسباني بالمغرب خلال الحقبة الاستعمارية، وتشمل أقصى شمال المغرب ومناطق طرفاية سيدي إيفني والساقية الحمراء ووادي الذهب.

[2] محمد بن عبد الكريم الخطائي: قائد المقاومة في منطقة الريف بالمغرب، استطاع هزيمة القوات الإسبانية في معركة أنوال يوم22  يوليو 1921 م، تحالفت للقضاء على مقاومته إسبانيا وفرنسا مستعملتان الغازات السامة. وهو ما دفعه للاستسلام  سنة 1926م حفظاً لأرواح مناصريه، وتم نفيه لجزيرة لارينيون حيث قضى عشرون سنة بعدها استقر بمصر حيث ساهم في حركات التحرر المغاربي من خلال لجنة المغرب العربي. توفي في 6 فبراير1963 م.

[3] محمد داود: من رجالات الحركة الوطنية بشمال المغرب، وهو مؤرخ وأديب وأستاذ له مجموعة من الكتب أهمها موسوعته «تاريخ تطوان» في خمسة عشر مجلداً طبعت منها تسعة مجلدات.

[4] حسناء محمد داود، الأستاذ محمد داود في ميدان التعليم ضمن (حمد داود الحركة الوطنية في الشمال والمسألة الثقافية)، منشورات اتحاد كتاب المغرب سلسلة الندوات 1990 /2، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1990، ص 54.

[5] أحمد بوجداد، السياسة التعليمية للحماية الإسبانية بالمنطقة الخليفية سابقاً، أطروحة دكتوراه في القانون العام إشراف عبد الله ساعف، مرقونة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الرباط، 1992/5/4، الجزء الأول، ص120.

[6] علي بولربح، الخطاب الاستعماري حول شمال المغرب (1956 – 1850م)، مجلة المناهل، عدد مزدوج 90/89 ، يونيو 2011م، ص 102 – 101 .

[7] ميكل مرتين، الاستعمار الإسباني في المغرب 1956 – 1860م، ترجمة عبد العزيز الوديي، منشورات التل، مطبعة النجاح الجديدة، الرباط، 1988 ، ص10.

[8] دعوة الحق، الثقافة العربية المعاصرة في شمال المملكة المغربية (5)، مجلة دعوة الحق، العدد 163 متاح على الرابط:

https://2u.pw/zvc33

تاريخ الزيارة: 2020/2/12

[9] مرتين، مرجع سابق، ص 10 . والبسيطة: هي البسيطة الحسنية، اسم للعملة المغربية القديمة.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى