مقالاتمقالات مختارة

بعد البخاري .. جاء دور القرآن

بقلم سامي فسيح

مِن آخرِ صيحاتِ الموضة، أن نجد بعضاً مِن الذين تتمثّل فيهم أعراضُ المراهقة الفكرية، والذين جعلوا عنوانهم في الحياة ”خالف تعرف”، كلما سلك العلماءُ وادياً،إلا وسلكوا واديا آخر، غايتهم الشّهرة و لو باللعنة، يسفّهون الآراء، ويلجؤون إلى شخصنة الحوار، ويسِمون كلّ من خالفهم بالظلامية والرّجعية، فهم أصحاب رسالة تنوِيريةٍ تجديديةٍ، تهدم صَرْحَ الخرافة، وتنخُلُ تراثنا الإسلاميّ وتغربله بمنخال دقيق، ولا يسمحون لأحد بأن يسفّه أفكارهم .. أو أن يعامِلهم بالمثل، وإلا شهّروا به ونعثوه بالتّحجُّر والإخلادِ إلى التّقليدِ .. واتباع ملةِ الآباءِ الذين لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، مشروعهم الأسنى هدمُ السُّنة النّبوية، فما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا ساعي بريد في نظرهم، بلَّغنا كتابَ ربّنا، ثم أفضى إلى ما قدّم.

يزعمون التّمسُّك بالقرآن، ويصرخون هذا كلامُ ربّنا لا نبغي عنه حولا، ولا نبغي عنه بديلا، وهذا لعَمري حقٌ أريدَ به باطل، فمن كانت هذه مقالته لا يضربُ عُرض الحائطِ كلّ تفسيرٍ للقرآن الكريم ورد عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو الذي من مهماته (صلى الله عليه وسلم) أن يُبيّن للنّاس ما نُزّل إليهم، وأن يحكم بين الناس بما أراه الله.

وبعد هذا العقوق تجاه النبي (صلى الله عليه وسلم) يأتوننا وقد نصّبوا أنفسهم مستنبطين ومفسرين، بدون أدواتٍ،ليس لهم حظ في العلوم الشّرعية،ولا في اللغة، و لا في أساليب البلاغة،ولا في أشعارِ العرب ولغاتهم،فالقرآن عربي نعم، لكن في نظرهم لا يعني هذا أن يتعلّموا كلّ تلك الأشياء حتى يتسنّى لهم الخوض فيه، فما تلك الخطوات العلمية إلا شروط تعجيزية سطّرها العلماءُ ليحتكروا العلم.

فها نحن نراهم يخبطون خبط عشواء، بدون منهج علمي ولا قيود، فما أسهل أن تكون مفكرا وباحثا في زماننا هذا، زمن أصبحت فيه العلوم الشرعية سُورا يتسَوَّرُهُ من هبّ ودب ..

أما عن حُجِّية السُّنة، وكونها المصدر الثاني في التشريع، فما هو إلا ضربٌ من جهل السّلف و الخلف، فهم يدركون تمام الإدراك أنها لو كانت حُجّة لدوّنها النبي بيديه،ولما تركها تتقلب بين صدور الحُفّاظ،حتى تصل إلى كتب الأعاجم أمثال البخاري و مسلم وغيرهما، وقد ظهر العديد من هؤلاء حقيقة، ممن أصبحوا زبيباً قبل المرور بمرحلة التحصرم، مرحلة الجدّ والاجتهاد في طلب العلم، فتصدّروا للظهور،وأوعيتهم العلمية خاوية على عُروشها، وقد نبخسهم حقهم إن نسينا أن نذكر أهم ما يميزهم،وهي الثقة في النفس:

وإني وإن كنت أخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل

ثم نطّلع لنرى جديد ما جاؤوا به، فلا نجد جديدا،ا للهم تحديثات جديدة لأساليب السّرقة العلمية، فيتلقَّفون الأقوال من هنا و هناك، ويوهمون القارئ أنها من بنات أفكارهم، فما زلنا نسمعُ منهم من يقول لو كانت السُّنة وحيا .. لما نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن تدوينها، وبعد هذا إما يخفون عن الناس أحاديث إباحة الكتابة، وإما يدعون أنها ضعيفة، وإما يذكرونها ثم يعممون القول بنسخ النهي عن الكتابة مثلا على جميع العلماء، ومن ثَم يُسَفّهون هذا الرأي وهذا ما فعله صاحب الأسطورة، الذي ذكر رأي النسخ، وهو لا يشكل إلا رأيا واحدا لطائفة من العلماء .. ويغطي ويستر باقي الآراء التي تجمع بين أحاديث النهي و أحاديث الإباحة .. والتي هي في غالبها آراء موفقة من علمائنا الأفذاذ .

ثم نطلع لنرى جديد دعاويهم، فلا نجد جديدا، اللهم إن كان الجهل بتركيبة عصرية جديدة: لقد أورد البخاري هذا الحديث أو ذاك في جامعه الصّحيح وهو حديث ضعيف، وتجد أن البخاري ذكره ”معلقا” أي سقط أول إسناده، فتراهم يلزمون البخاري بما لم يلزم به نفسه، وهو الذي يُشير في عنوان ”جامعه الصحيح” أنه سيورد الأحاديث المُسندة وهي فقط التي على شرطه، فكيف نحاسبه على حديث آخر ليس على شرطه؟.

ثم تجد منهم من يسخر ممن يقول أن الجامع هو أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله، نعم هو أصح كتاب بعد كتاب الله لكن هذه المقولة لا تعني أن كلّ ما فيه صحيح بل تعني أن البخاري ألزم نفسه بشروط زيادة على الشروط الخمسة التي يشترطها المحدثون: اتصال السند-عدالة الرواة-ضبط الرواة-عدم الشذوذ (أي أن لا يخالف الحديث الصحيح حديثا أخر صحيح)-عدم العلة (وتكون إما في المتن أو في السند وقد كان من منهج العلماء نقد السند والمتن على حد سواء وليس كما يزعم البعض) .. فالبخاري يضيف شرطين وهما : الملاقاة – والسماع ..

فهم لا يرون في السًّنة إلا أنها استقلت بالتشريع لتوسِّع دائرة الحرام .. فالسبيل الأقصر لتبرير حرياتهم في التفسخ والفساد، هو هدمُ السًّنّة والنّيل من العلماء الذين أفنوا أعمارهم في تمحيصها .. ثم بعدها لن أقول سيجيء .. وإنما جاء دور القرآن الكريم، الذي بدأت تطاله أيديهم بالتأويل الفاسد، وليّ أعناق النّصوص ليحلوا ما حرم الله، حتى صرنا نسمعُ، أنّ الخمر حلال، والبغاء حلال، واللواط والسحاق كذلك، فما هدم السنة إلا مطية إلى هدم القرآن الكريم.

(المصدر: مركز يقين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى