مقالاتمقالات مختارة

بزنس الدعوة.. كيف تجمع ثروة باسم الله؟

بقلم خباب مروان الحمد

 

نعيش في عصر سُعار التسوُّق، والإقبال على الاستهلاك، وتغوُّل الرأسماليّة في تفاصيل كثير من حياتنا؛ حتى إنّها دخلت ساحة العمل الديني؛ إلى حد أن نرى الكاتب الفرنسي “باتريك ميشيل” يُصوّرها على أنّها ذات علاقة استهلاكية رأسمالية بالدين! لقد ظهر أمام أعيننا فئة من الدعاة يقومون بهذه التنميطات، حتّى صارت الدعوة لديهم عبارة عن مشروعات شخصيّة: عرض وطلب.. وبيع وشراء.. وتجارة واستثمار.. دعايات واستثمارات خاصّة.. وذلك بعد أن كوّنوا لهم جمهورهم الدعوي؛ فباتوا يطمعون بخزائن أموال التجار مما فيه تعبئة لجيوبهم الخاصة؛ أو أن تكون المؤسسات الاقتصادية الكبرى تستخدم هؤلاء للإعلان عندهم طمعاً بجمهورهم؛ فيتخذهم التجار متجراً لهم يقوم بالدعاية لهم بغلافٍ ديني مع تقديم الأموال الباهظة لمن ارتبط بهم من الدعاة في نشر وترويج منتجاتهم وسِلَعِه، وقد يكون ذلك عن حسن نيّة وسذاجة تقدير؛ لكنّ مآلات ذلك على المجتمع سيئة في نظر الجمهور إلى الدعاة !

وحين يعتاد الداعية على ذلك فسيكون مجرد مندوب تسويق للشركات والمؤسسات التجارية؛ لتصير الكلمة الدعويّة ممتزجة بالطعم المادي، تجعل الفقير منهم بعد سنين غنياً؛ حتى يلهث ويطلب من المؤسسات الأخرى أن يقوم ببعض الدعايات لهم ليربح أموالهم، ويربحوا الوصول إلى جمهوره !!يَاْمَا ضعفت نفوس كثير من الخلق أمام الأموال إلاّ من عصمه الله؛ فتكون هذه مهنة تجلب لهم الكثير من الربح والمال الوفير. ولو كان هذا تفرغاً منه لتقديم البرامج العلمية النافعة؛ وبقدر مُحدد يكفيه حاجته؛ لاختلف الحال إن على الموقف الفقهي أو المستوى العُرفي الدعوي؛ فلا إشكال في ذلك طالما لم يكن هذا هدفه وسعيه.

من أخطر الوسائل استخدام بعض من يعدُّون أنفسهم دعاة وهم دعاة زورٍ حقاً ممن يستغلّون المواسم المباركة وشهور الخير ويربطونهم بالشراء من محلات محددة لترتقي روحهم في العبادة

لكن أن يستطيل ذلك في دعوته ويكون حال الداعية طلب الأجرة من أصحاب ذلك المنتج؛ ومحاولة دمغ الجانب الديني مع الجانب الدنيوي واعتباره الأفضل من بين كثيرٍ من المنتجات؛ بسبب تكسبه مما يرشُّون به عليه من أموالهم؛ فإنّ هذا يُخالف سيرة الأنبياء والمرسلين الذين كانت من أبرز ملامح دعوتهم عدم سؤال الأجر، بل يقرنوا عدم طلبهم الأجر في حثّهم المدعويين لعبادة الله ليكون ذلك أدعى لهم في قوّة حجّتهم؛ لكي لا يشعر المدعو أنّ الداعية يتكسّب من خلف دعوته! لهذا يقول تعالى: “أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ” والآية استفهام بمعنى النفي؛ فمحمدٌ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يسأل من يدعوهم إلى الله ويُبلّغهم رسالته الأجر؛ لأنّه لو فعل ذلك سيُعرضون عن دعوته؛ فهم من أي شيء يتبرّمون ولا يرغبون أن يتحمّلوا أي تكلفة لسماع صوت الدعوة.

وهذا مبدأ يحسن بمن تولى عملاً دعوياً أن يحذر منه؛ فخطوط الفتوى مدفوعة الأجر، ونشر آيات وأحاديث وأدعية بصوت الداعية بمقابل مادي، واختلاف الدعاة مع بعض القنوات حين يعلمون أنّ آخر يأخذ أكثر منهم، أو حصريّة دعوة الداعية في قناة لقاء مقابل مادي، ورفض بعضهم تلبية الدعوة لعدم جمال المكان وفخامته، أو إعراضه عن المُحاضرة إن علم قلّة الحضور، أو مطالبته بأفضل خدمات السفر من حيث الدرجة الأولى، والفندق الأفضل، وغيرها من الأشياء…

هذه الأشياء التي سبق ذكرها وغيرها؛ ستؤثر قطعاً في قبول الناس لدعوة الدعاة؛ خاصّة إذا ارتبطت الدعوة بمصالح الداعية الشخصيّة؛ فسيؤثر ذلك على سمعته؛ فالتعفّف من أموال الناس هو مبدأ الدعوة الإسلاميّة؛ وهو ديدن الأنبياء والرسل، وهو الذي جعل دعوتهم تنتشر؛ بل إنّ الدعوة انتشرت في كثير من مصاقع البلاد؛ بسبب حسن خلق التجار، وبذلهم الخير من أموالهم للناس؛ لا طلبها منهم.

ومن أراد العمل في الدعوة فقد دخل في أعظم سوق تجاري؛ يربح المرء منه مالا يُعدُّ ولا يُحصى من الأجور بالقراريط؛ وقد ورد عند الدرامي وابن أبي شيبة بسند صحيح أنّ ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا أَلْبَسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَتَّخِذُهَا النَّاسُ سُنَّةً ؟ فَإِنْ غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ قِيلَ: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ ” قَالُوا: مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: “إِذَا كَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ). والملاحظ هنا وجود القرّاء وقلّة الفقهاء حيث يكون الهدف مجرد ظواهر سماعية من باب (القراءة والإسماع والكلام) ويُراد منه ذر الرماد في عيون البسطاء حين يظنون أنّ أولئك يريدون نصرة الدين لكنهم يريدون نصرة دنياهم؛ ولم يجدوا أفضل طريقة بالنسبة لهم ليكونوا كذلك إلاّ بالتكسب من خلال الدين!

     

وقد أدرك العلماء الربّانيون ذلك فمن ناحية تربوية وتطبيقية نرى الإمام الفُضيل بن عياض: (لأَن آكل الدُّنيا بِالطَّبل و المزمار أَحَبُّ إِلَيَّ مِن أَنْ آكُلُهَا بِديني). وقد يغفل بعض الدعاة إبّان دعوتهم في أجواء التكسُّب المادي، عن سريان الضعف في عرض مبادئ الدين وعقيدته فيضعفون عن مواقف الثبات والصلابة في الدعاية إلى الدين؛ والتركيز على عرض الدين كقِيَم ومُثُل وأفكار؛ يُمكن أن يأخذ المستمع منها ما يُريد بحسب بُغيته ليُطبّق ما هو مقتنع به لا بما يجب عليه أن ينضبط به ويستسلم له؛ مع الترويج الدائم بين كل فقرة وأخرى بعبارات الوسطية، والتسامح، والتيسير، والحريّة؛ والإفادة من الحالة الفردانيّة في عمليّة نصرة الدين؛ فإذا أردنا النصر فلنصلي الفجر؛ وإذا أردنا مقاومة المحتل فلنصم؛ وإذا أردنا أن نتعامل مع مآسي المسلمين فليس إلاّ الدعاء..! وليس المراد من ذلك التقليل من الاهتمام بالصلاة والصيام والدعاء؛ لكنّ عرض منظومة الإسلام؛ كحالة شعائريّة مظهريّة تعبُّديّة؛ بعيداً عن الحديث الجاد للنهوض بالأمّة بسائر أنواع النهوض الجماعي ؛ فكل ذلك سيُحدث حالة من التدين الخاص مِمّا سيتيح المجال لتمدد الأفكار العلمانية…!!

تسليع منتجات الآخرين في شهر رمضان
أيها الصادقون في دينكم؛ لا تنخدعوا بمن يدّعون نشر الدعوة؛ وقلوبهم تفكر بما في جيوب الآخرين؛ أكثر من تفكيرهم بإصلاح قلوبهم؛ وهذا إنّ دلّ على شيء فإنّه يدل على خواء قلوب هؤلاء

إنّ من أخطر هذه الوسائل استخدام بعض من يعدُّون أنفسهم دعاة وهم دعاة زورٍ حقاً ممن يستغلّون المواسم المباركة وشهور الخير ويربطونهم بالشراء من محلات محددة لترتقي روحهم في العبادة، أو أكل وجبات معينة لتكون صلاتهم وصيامهم صحّياً. وتغدو مواسم الطاعات كشهر رمضان المبارك شهر استهلاك، وتسليع للبضائع بالعروضات والإعلانات؛ وتحوير هذا الموسم المبارك الذي أتى لقلّة الطعام، والاهتمام بالعبادة ليكون موسم نشر كل ما لذّ وطاب وربطه بالعبادة؛ ومن خلال ينتقل الشخص من مسألة العبادة في مواسم الخير، وذلك بتحويرها تجارياً ؛ وأخطر من هذا أن يتّخذ أولئك بعض من يُسمّون أنفسهم بالدعاة ليُشجّعوا الناس على الشراء من هذا المنتج ويكون به هدف رأسمالي؛ دعك من الأموال الباهظة التي تُكب في جيوب أولئك الدعاة، والله يعلم إسرارهم!

مثل هذا الكلام قد يكون ثقيلاً على قلوب البعض؛ وقد لا يستسيغه آخرون، ولكن حراسة الدين أولى من حراسة من يزعم أنّه من رجاله إذا ما مال عن طريق المصلحين من الأنبياء والمرسلين، وخاصّة أنّ التجارة الحقيقيّة في هذه الدعوة لا يُمكن أن تمتزج بأموال الآخرين لمصلحة الدعاة؛ بل تمتزج لمصلحة الدين ليُباركها الله وينفع بها.

حتى لا نُخدع أو ننخدع!

لقد ثبت في مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: (مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ، بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ). ومعنى الحديث أنّه لا يوجد ذئبان جائعان قد أرسلا على قطيع من غنم؛ بأشدّ إفساداً لتلك الغنم من أن يكون المرء حريصاً على جمع المال واللهث خلفه بطرق مُحرّمة غير مشروعة؛ وبهذا يحصل فساد دينه؛ أشد من إفساد الذئبين لقطيع الغنم إذا أرسلا إليها وهما جائعان!

فيا أيها الصادقون في دينكم؛ لا تنخدعوا بمن يدّعون نشر الدعوة؛ وقلوبهم تفكر بما في جيوب الآخرين؛ أكثر من تفكيرهم بإصلاح قلوبهم؛ وهذا إنّ دلّ على شيء فإنّه يدل على خواء قلوب هؤلاء؛ ففاقد الشيء لا يُعطيه، فإنّهم الأكثر حاجة للدعوة؛ فكم سكر بعض الناس من الخمر؛ وكم سكرت قلوب دعوية مُزيّفة في حبّ الدنيا وأكل أموال الناس بالباطل؛ فكانوا سبباً في صدّ الناس عن طريق الله حين يظنّ كثير من الناس أنّ كل الدعاة كذلك؛ وما هم كذلك؛ فويل لقطّاع الطرق الذين يقطعون الناس عن دعوة ربّهم بأفعالهم المشينة!

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى