بركة العمر
بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
كم من أناس عاشوا أعمارا طويلة ثم طواهم الموت، فلا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا، وكم من علماء ودعاة ومصلحين عاشوا أعمارا قصيرة لكن آثارهم وإشعاعاتهم وتأثيراتهم فيمن بعدهم لا تقاس بالفترة القصيرة التي عاشوها.
انظر إلى سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي عاش ثلاثا وعشرين سنة هي عمر الدعوة في مكة والمدينة، وهذان العقدان من الزمان غيرا وجه الأرض، وحولا مجرى العالم، وتشكل فيهما تاريخ جديد في المنطقة والعالم كله، لا تزال أصداؤه تتردد حتى الآن، وتنبني عليها سياسات وتتأسس عليها مواقف وأحداث شرقا وغربا.
انظر إلى أبي بكر وعمر ومن بعدهما.. كم أنجزا من الإنجازات، وكم تركا من خير وهدى، وكم حققا للإسلام من انتصارات وانتشار، فهل إذا قارنتَ هذا كله بفترة حكمهم أو حياتهم تكون كفاء ولقاءً؟! اللهم لا.
انظر إلى الإمام الشافعي (150 – 204هـ) أربعة وخمسون عاما هجريا، وأسس مذهبا كاملا لا يزال كثير من الناس يتعبدون الله عليه حتى الآن، وكتب كتابات في أصول الفقه وأصول الحديث والفقه لا يزال المتخصصون في هذه المجالات عالة عليه، ولا توجد بداية قوية لعلم من العلوم مثلما كانت بداية الشافعي في أصول الفقه وأصول الحديث.
انظر إلى سيبويه الذي عاش (32) اثنين وثلاثين عاما، وترك لنا «الكتاب» الذي يعتبر من المراجع الرئيسة في علوم العربية حتى الآن.
انظر إلى الإمام النووي، الذي عاش نيفا وأربعين عاما، وترك لنا تراثا تربويا وفقهيا يمكن أن يكون مشروعا لتكوين العلماء والمربين والفقهاء، ابتداء بالأربعين النووية، مرورا بالأذكار، ورياض الصالحين، وشرح صحيح مسلم، والمنهاج، والروضة، والتقريب والتيسير، وانتهاء بالمجموع؛ تلك المدونة الكبرى في الفقه الشافعي والفقه المقارن.
وانظر إلى عبد الحميد بن باديس الذي عاش واحدا وخمسين عاما، فقاوم الاستعمار، وقاد حركة الجهاد، وأسس جمعية للعلماء جددت واجتهدت وتطورت، ولا تزال إلى الآن، وترك آثارا لا يزال المسلمون ينتفعون بها حتى اليوم.
ثم انظر إلى الإمام حسن البنا، الذي عاش اثنين وأربعين عاما، وأسس حركة ملأت الدنيا وشغلت الناس، وأصبح لها أتباع وأشياع في العالم كله، لا توجد قرية أو نجع أو مدينة إلا وفيها إخوان مسلمون .. جدد الإسلام ورفع الله به ذكره، وأعاد له حيويته، وصحح المفاهيم المغلوطة، وربى رجالا قادوا التجديد في الفكر، والاجتهاد في الفقه، والترشيد في الدعوة، والتيسير في الفتوى، والآمال اليوم تتعلق بها ورجالاتها بعد أحداث الربيع العربي .. وغيرهم، وغيرهم.
هذه البركة في العمر والعلم والعمل والأثر، تؤكد ما قرره الإمام الرباني ابن عطاء الله حين قال: «رُبَّ عُمُرٍ اتَّسعت آماده وقلت أمداده، ورُبَّ عُمُرٍ قليلة آماده، كثيرة أمداده، ومن بورك له في عمره، أدرك في يسير من الزمن من المنن ما لا يدخل تحت دائرة العبارة ولا تلحقه الإشارة».
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)