بدعة الإبراهيميَّة: لماذا لا يمكن إقران الإسلام بملَّة أهل الكتاب؟ – 3 من 3
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
محاولات نشْر الإبراهيميَّة في الواقع
أعلنت دولة الإمارات العربيَّة المتَّحدة في سبتمبر 2019م أنَّها بصدد تنفيذ مشروع بناء مجمع ديني يضمُّ ثلاثة صروح تمثّل الإسلام واليهوديَّة والمسيحيَّة، سيحمل اسم “بيت العائلة الإبراهيميَّة” أو “البيت الإبراهيمي”. وقد جاء الإعلان عن المشروع بعد انعقاد اجتماع اللجنة العليا للأخوَّة الإنسانيَّة اجتماعها العالمي الثَّاني في مدينة نيويورك الأمريكيَّة في 20 سبتمبر 2019م. وقد صرَّحت وكالة الأنباء الإماراتيَّة بأنَّ المجمع الدّيني الجديد سيكون “مجتمعًا مشتركًا تتعزَّز فيه ممارسات تبادُل الحوار والأفكار بين أتباع الديانات”.
وكان الدَّاعية التَّنويري من أشدّ المشيدين بذلك المشروع، ووصل به الأمر أن اعتبره “قِبلة” جديدة للنَّاس.
ويبدو أنَّ ذريعة نشْر السَّلام وإنهاء الخلافات الدّينيَّة ستكون مبرّر دولة الاحتلال الإسرائيلي للحصول على شرعيَّة إشغالها لجزء من المسجد الأقصى المبارك. فبحسب ما نشَره موقع مصر العربيَّة بتاريخ 31 أغسطس 2020م، أعلن مركز “القُدس الدُّنيويَّة” الإسرائيلي، المعنيّ بشؤون القُدس المحتلَّة، أنَّ ما سُمي “اتّفاق أبراهام” لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات يتضمَّن بندًا غير معلَن ينصُّ على أحقيَّة غير المسلمين في الصَّلاة فيما سُمي “الحرم الشَّريف” أو “جبل الهيكل”، إلى جانب البند المعلَن الَّذي ينصُّ على أحقيَّة كافَّة المسلمين في الصلاة في “المسجد الأقصى”.
يتَّضح لنا أنَّ ذلك البند المخفي من الاتّفاق صوَّر المسجد الأقصى باعتباره مجرَّد جزء ممَّا يُطلق عليه اليهود “جبل الهيكل”؛ أي أنَّ مساحة المسجد الأقصى، البالغة 144 دونم، قابلة للتَّقسيم، بحيث تُخصَّص مساحة لصلاة غير المسلمين، على أن “تبقى الأماكن المقدَّسة الأخرى في القُدس مسموحة للمصلّين السلميّين من أتباع الدّيانات الأخرى”، كما أورد التَّقرير. يتحدَّى ذلك البند المزعوم في اتّفاق التَّطبيع الإسرائيلي-الإماراتي حقيقة أنَّ ما يطلق عليه اليهود بهتانًا “جبل الهيكل” هو في الأصل يوازي المسجد الأقصى بأكمله، وأنَّ المسجد ليس مجرَّد جزء منه “جبل الهيكل” المزعوم.
جدير بالتَّذكير أنَّ الكاتب الصُّهيوني الأمريكي-الإسرائيلي جويل روزنبرغ قد تعمَّد في روايته The Jerusalem Assassin-قاتل القُدس (2020م) الإشارة إلى ما يطلق عليه اليهود “جبل الهيكل” باسم “الحرم الشَّريف“، المكوَّن من”قبَّة الصَّخرة والمسجد الأقصى” (ص144)، في محاولة لطمْس حقيقة أنَّ قبَّة الصَّخرة أحد مُصليَّات المسجد الأقصى، وليس مسجدًا مستقّلًا. والسُّؤال: هل المنطقة الَّتي يريد اليهود فصلها عن المسجد الأقصى هي المنطقة-المشار إليها في الصَّورة أعلاه-الَّتي تضمُّ مصلَّى قبَّة الصَّخرة ومصلَّى باب الرَّحمة المقابل له، على أساس الاعتقاد بأنَّ باب الرَّحمة هو باب دخول الماشيح إلى الهيكل؟ وهل لاختيار مصلَّى قبَّة الصَّخرة موقعًا للهيكل علاقة بالاعتقاد بأنَّ الصَّخرة المعلَّقة معبر إلى السَّماوات، كما تخبر رؤيا يعقوب في سفر التَّكوين “فَخَرَجَ يَعْقُوبُ مِنْ بِئْرِ سَبْعٍ وَذَهَبَ نَحْوَ حَارَانَ. وَصَادَفَ مَكَانًا وَبَاتَ هُنَاكَ لأَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ قَدْ غَابَتْ، وَأَخَذَ مِنْ حِجَارَةِ الْمَكَانِ وَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَاضْطَجَعَ فِي ذلِكَ الْمَكَانِ. وَرَأَى حُلْمًا، وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَ ذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا. وَهُوَ ذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «أَنَا الرَّبُّ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ. الأَرْضُ الَّتِي أَنْتَ مُضْطَجِعٌ عَلَيْهَا أُعْطِيهَا لَكَ وَلِنَسْلِكَ” (سفر التَّكوين: إصحاح 28، آيات 10-13)؟
وقد نشرت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيليَّة في 13 سبتمبر 2020م، تحت عنوان “هل حان الوقت لتطبيع جبل الهيكل؟”، دعَت فيه إلى إقامة صلاة مشتركة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وولي عهد أبو ظبي، الشَّيخ محمَّد بن زايد، في “جبل الهيكل”، عند زيارة الأخير لدولة الاحتلال؛ بهدف تدشين مرحلة جديدة يصير فيها “جبل الهيكل” مقصدًا لصلاة كافَّة النَّاس، تحقيقًا لنبوءة العهد القديم الَّتي تقول “لأَنَّ بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى لِكُلِّ الشُّعُوبِ” (سفر اشعياء: إصحاح 56، آية 7)، داعيةً إلى تصحيح ما اعتبرته مفهومًا خاطئًا عن عدم جواز صلاة اليهود في المسجد الأقصى.
بإبرامها اتّفاق التَّطبيع مع دولة الاحتلال الصُّهيوني، تعترف دولة الإمارات بشرعيَّة الكيان المغتصب، الَّذي يستند إلى وعْد إلهي مزعوم يمنح بني إسرائيل حُكمًا أبديًّا على الأرض المقدَّسة: “وَأُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ، عَهْدًا أَبَدِيًّا، لأَكُونَ إِلهًا لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ. وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا. وَأَكُونُ إِلهَهُمْ” (سفر التَّكوين: إصحاح 17، آيتان 7-8). ويصطفى الرَّبُّ إسحق وذريَّته من بني إبراهيم لميراث الأرض المقدَّسة، “إِبْرَاهِيمُ للهِ: «لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ!». فقال الله “بل سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ” (سفر التَّكوين: إصحاح 17، آيتان 18-19). والسُّؤال: أليس في قول الله تعال “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ” (سورة الأنبياء: الآية 105)، وفي قوله “إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (سورة الأعراف: الآية 128) ما يدحض هذا الزَّعم؟ ويخبرنا الكتاب المقدَّس أنَّ يعقوب وأبناؤه، ورثة الأرض المقدَّسة بعد إسحق، عاشوا في أرض كنعان ثم رحلوا منها إلى مصر، ليعود بني يعقوب إلى أرض كنعان مع النَّبي يشوع: “فَقَامَ يَعْقُوبُ مِنْ بِئْرِ سَبْعٍ، وَحَمَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ أَبَاهُمْ وَأَوْلاَدَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ فِي الْعَجَلاَتِ الَّتِي أَرْسَلَ فِرْعَوْنُ لِحَمْلِهِ. وَأَخَذُوا مَوَاشِيَهُمْ وَمُقْتَنَاهُمُ الَّذِي اقْتَنَوْا فِي أَرْضِ كَنْعَانَ، وَجَاءُوا إِلَى مِصْرَ. يَعْقُوبُ وَكُلُّ نَسْلِهِ مَعَهُ” (سفر التَّكوين: إصحاح 46، آيتان 5-6). والسُّؤال: إذا كان الله تعالى يخبرنا في قرآنه أن يعقوب وبنيه عاشوا حياة الارتحال في “الْبَدْو“، أي الصَّحراء، بحثًا عن القوت “وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” (سورة يوسف: الآية 100)، وقد أقرَّ بنو يعقوب بذلك أمام أخيهم يوسف “مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا”(سورة يوسف: الآية 88)، أليس في هذا التَّحريف الواضح لكلام الله ما يدحض نبوءة المُلك الأبدي لذريَّة إسحق على الأرض المقدَّسة؟
تساؤلات ختاميَّة
1. مع قول الله تعالى “إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ” (سورة البقرة: الآية 159)، هل يجوز تكوين عقيدة دينيَّة مشتركة مع مَن كتموا الوحي الإلهي وألبسوا الحقَّ الباطل وحرَّفوا صحيح رسالة الله لإصابة أهداف دنيويَّة؟
2.في ضوء قول الله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ” (سورة آل عمران: الآية 100)، هل يجوز اتّباع ملَّة أهل الكتاب بكلّ ما تشتمل عليه من عقائد تختلف جذريًّا مع صحيح رسالة الإسلام، نصًّا وهديًا؟
3. مع أمْر الله تعالى “قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ” (سورة التَّوبة: الآية 29)، هل تجوز موالاة المسلمين لأهل الكتاب الَّتي تخالف ملَّتهم صحيح الإسلام بزعم إفشاء السَّلام وإنهاء الخصومات بين بني البشر؟
4.مع أمْر الله تعالى “فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ” (سورة الشُّورى: الآية 15)، هل يجوز تعديل الشَّريعة الإسلاميَّة بما يتَّفق مع ملَّة أهل الكتاب، أو إيقاف العمل بها بزعم تطبيق نظام علماني؟
(المصدر: رسالة بوست)