مقالاتمقالات مختارة

اهتمامات الجماعة المسلمة بين الموضوعي والموجَّه… نحو فهمٍ أعمق لقضايانا

اهتمامات الجماعة المسلمة بين الموضوعي والموجَّه… نحو فهمٍ أعمق لقضايانا

بقلم أحمد التلاوي

في فترات التراجع الحضاري والضعف، تظهر أزمة هي الأهم بعد مشكلتَيْ التفكك والجهل، وهي مشكلة تقع ضمن سياقات ضعف مدركات الوجدان الجمعي لهذه الأمة، وهي التشويش والتخبُّط: التشويش في تحديد الأولويات وفهم الموقف الراهن وخطورته، والتخبُّط في كيفية توجيه الحِراك الجماعي للأمة، والخلاف على الأدوات.

وهذه القضية ليست من نافل القول، أو من باب الترف الفكري؛ لأنها تختزل -بدقة شديدة- الأزمة الراهنة التي تمر بها الأمة الإسلاميةُ، وربما صار لها قرنان من الزمان قائمةً.

فهذه الأزمة –خلافًا لما يتصوره البعض– ليست حديثة، وليست غريبة على حال الأمة، ففي غضون المائتي عام الماضية، وصل الانقسام الداخلي للأمة وتشتت الذهنية العامة لعموم المسلمين -بين القضايا المهمة وتلك الموجهة من هذا الطرف المستعمِر أو ذاك الحاكم- إلى مستوى أن خاضت قوى عدة من البلدان العربية والإسلامية معارك داخلية، ومعارك ضد سلطة الدولة الإسلامية المركزية الأخيرة، وهي الدولة العثمانية.

ومن وطأة ذلك – للتدليل على أهمية هذه القضية – أنها كانت بالفعل أحد أهم الأدوات التي أدت إلى تفكك الدولة العثمانية.

ففي مرحلة من المراحل، أذكى الاستعمار البريطاني -على وجه الخصوص، وبوساطة أدوات داخلية بين ظهرانينا- المشاعر القومية الضيقة في بعض المناطق والبلدان التي كانت تشكِّل الكيان المسلم الكبير ، وجعلت من خلال أنساق عمل سياسية وإعلامية وميدانية، قضية الانفصال عن الدولة العثمانية، في صيغة لها قبولها بل وذات أثر عميق على الشعوب، وهي قضية الاستقلال.

وشمل ذلك المركز العثماني، وبدا ذلك واضحًا في دعم الأحزاب والحركات القومية التركية المتعصّبة، مثل “الاتحاد والترقي” و”الحركة الطورانية”، وفي المناطق العربية، يُعَدُّ نموذج الشريف حسين ثم مشروع الدولة السعودية الثالثة في شبه الجزيرة العربية، النمط الأبرز لهذه السياسة التفكيكية.

وبطبيعة الحال -وهو ما يجب الاعتراف الذاتي به- فإن هناك عوامل داخلية تخص الدولة العثمانية في هذا الصدد، وهذه من طبائع الأمور، وهي قوانين وقواعد تحكم صعود وهبوط الدول والحضارات، كما تكلم عنها ابن خلدون والعمرانيون العرب، وعلماء الاجتماع السياسي الغربيون من بعدهم.

ولكن الشاهد أن هذه كانت سياسة مقصودة، وقد آتت ثمارها بشكل عميق، لدرجة أن “الدولة العربية” التي وُعِدَ بها الهاشميون في شبه الجزيرة العربية، خاضت الحرب ضد الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، وكانت هذه الخطوة مما ساهم في تفكيك الدولة المركزية الإسلامية، وهو كان هدفًا مركزيًّا للقوى الغربية.

ولا تزال هذه المشكلة مستمرة، وفاقمتها الكثير من الظروف والأوضاع التي شهدتها بلدان العالم العربي والإسلامي، ومن أهم هذه الظروف: غياب الثقافة الإسلامية العميقة أو المتخصصة، وكذلك ضعف التعليم الديني، وسيادة مبدأ الدولة الوطنية على حساب مفهوم الانتماء إلى الأمة، مع وجود أنظمة وحكومات لها أرضية أو أيديولوجية فكرية وسياسية بعيدة عن مبدأ الانتماء الإسلامي الجامع.

من أهم الأمور التي تضر بوحدة المسلمين في وقتنا الحالي غياب الثقافة الإسلامية العميقة أو المتخصصة، وكذلك ضعف التعليم الديني، وسيادة مبدأ الدولة الوطنية على حساب مفهوم الانتماء إلى الأمة، مع وجود أنظمة وحكومات لها أرضية أو أيديولوجية فكرية وسياسية بعيدة عن مبدأ الانتماء الإسلامي الجامع

بل إننا وصلنا إلى تعظيم الانتماء إلى حركة أو جماعة على حساب الانتماء الإسلامي، ونرى كيف وصلت بنا الخلافات على تحديد الأولويات والآليات إلى حد التكفير والاقتتال الذاتي. أمة تقتل نفسها، ولا نقول تقتل أبناءها؛ لأنه لا توجد شخصية اعتبارية للأمة الآن تجمع بين أبنائها.

وتأخذ هذه الآفة مظاهر عديدة، ومن بينها تحكُّم السياسة –المدعومة بقوة إعلامية كبيرة ومُسَيطِرة- في توجيه اهتمام الجماعة المُسلمة على حساب قضايا أخرى لها نفس حساسيتها -وربما أخطر- أو على أقل تقدير، تخص -على المستوى الإحصائي- شريحة أو مجموعة كبيرة من المسلمين.

فعلى سبيل المثال، من الملاحَظ تراجع الاهتمام بملف كان من أهم الملفات التي تتابعها وسائل إعلام وحكومات وجماعات تدعم الفكرة الإسلامية أو تُبدي أنها راعيةً للمشروع الإسلامي، وهو ملف الأقليات المسلمة في أوروبا والأمريكيتَيْن، لصالح ملفات أخرى.

وأتى ذلك بالرغم من أن هذا الملف، هو من أهم ما يكون في الوقت الراهن، في ظل ما يتعرض له مسلمو أوروبا وأمريكا الشمالية على وجه الخصوص من ضغوط وعنصرية، مع تصاعد قوة وتواجد تيار اليمين الشعبوي المتطرف، بل وأن أصبح له وجود تمثيلي في برلمانات وحكومات، وفي البيت الأبيض أيضاً.

كذلك هناك مُستَجد مهم على هذا الملف، وهو موجات المهاجرين الآتين من بلدان الأزمات في العالم العربي والإسلامي، وما ارتبط به من مظاهر أمنية واجتماعية في بلدان اللجوء، كانت لها تبعات كبيرة على مسلمين هناك، وعلى الأجيال القديمة التي هاجرت منذ عقود طويلة، وخرجت منها أجيال لا تعرف لنفسها أوطانًا سوى هذه البلدان.

بل ورأينا انعكاسات الصراعات القائمة في بلداننا على المجموعات المقيمة هناك، وألمانيا نموذج مهم في هذا الصدد، في ظل كونها أكبر بلد أوروبي يضم مهاجرين وأقليات؛ فالأزمة بين الأكراد والحكومة التركية، امتدت إلى العلاقة بين الأكراد وذوي الأصول التركية هناك، وكذلك الحرب السورية لها انعكاسات داخلية عميقة على الأقليات العربية والمسلمة هناك.

وبالرغم أن هذا الملف يشمل مصالح حوالي ستين إلى سبعين مليون مسلم موجودين في بلدان الاتحاد الأوروبي وفي الأمريكتَيْن، ويتعرضون إلى خطر وجودي حقيقي، وجرائم عنف وقتل على الهوية، وليس مجرد مشاحنات عنصرية، إلا أننا -ولأسباب لن نفسرها سياسةً؛ كي لا نكون مفتئتين على النوايا- لا نجد الآن ذات الاهتمام الموجَّه لقضايا مثل “الأويجور” و”الروهينجيا”.

ولو تخلينا عن التفكير التآمري الذي يربط بين اهتمام بعض الحركات والحكومات ووسائل الإعلام في العالم العربي والإسلامي بهذه القضايا تراجعًا عن قضايا أخرى أكثر أهمية، بالصراع الكوني القائم بين الصين وحلفائها الآسيويين وبين بلدان التحالف الأنجلو أمريكي، إلا أن هذا التفكير قائم لدى كثيرين من خارج دائرة العمل الإسلامي، وبالتالي فأثره وضرره قائم على مصداقية حملة المشروع الإسلامي، وعلى اهتمام شرائح واسعة من الرأي العام الإسلامي بطرح هذه الجهات باعتبار أن المفهوم القائم لديهم أن هذا الاهتمام “مسيَّس”.

لا نتفق مع ذلك الموقف بطبيعة الحال؛ لأن “الروهينجيا” و”الأويجور” يتعرضون إلى محاولات تصفية حقيقية تشمل محاولات تغيير الهوية بل والقتل على هذه الهوية، لكن الوزن النسبي للاهتمام لا يتفق مع الواقع القائم للمسلمين.

بل إن الجانب السياسي في الموضوع واضح في أن الاهتمام بمسلمي “الأويجور” ومشكلاتهم يأخذ حيزًا أكبر بمراحل من الاهتمام السياسي والإعلامي الموجَّه، على حساب أحوال باقي مسلمي الصين، وهؤلاء تعدادهم أكبر بكثير من أقلية “الأويجور” (لا يوجد تعداد دقيق لمسلمي الصين، ولكن الرقم المتداول بين 30 إلى 100 مليون نسمة، من بينهم 8.3 مليون من “الأويجور”)، وهم يعانون في هويتهم مثلما يعاني “الأويجور”، ولكن التناوُل الأبرز مسلَّط على جانب واحد.

وبالتالي فإننا –وهذا موثَّق علميًّا في الكثير من استطلاعات الرأي، ومنها الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة الباروميتر العربي لحساب هيئة الإذاعة البريطانية– نجد حالة من الانصراف الحقيقي لشرائح عريضة من المجتمعات المسلمة عن قضايا الأمة.

يأتي ذلك حيرةً أو انعدام ثقة – أو أيًّا كان الموقف – ولكننا لا نجد الكثير من الاهتمام السابق بالقضايا المركزية الحقيقية للأمة، مثل قضية فلسطين، وفي القلب منها القدس المحتلة، حيث قبلة المسلمين الأولى، وتمامًا كما الأزمة الحالية في الخليج بين إيران وعدد من البلدان العربية التي تدور في الفلك الغربي، والأمريكي بمعنىً أدق.

إن هذه القضية بحاجة إلى الكثير من الدراسة والتعمق، ولو اختلفنا مع أصحاب الموقف التآمري، لكن –نكرر– هذا الأمر قائم، وهذه الظنون موجوده، ولها أثرها في التشويش على حقيقة مدركات مئات الملايين من المسلمين.

ولكن العنوان الأساسي لهذه المشكلة، هو ضرورة اجتماع أهل الإعلام وأصحاب الحضور والتأثير الجماهيريَيْن، ومراكز الفكر والبحوث، على أجندة قضايا توزِّع الاهتمام، وتدحض الشبهات، وتقول بأن الأمة كيانٌ موحَّد في بوصلته، وفي أولوياته ، وإن تباعدت بينهم المسافات.

ونشير – في النهاية – إلى أن هذه القضية هي بالفعل من أهم آليات مواجهة مرض الأمة الأكبر، وهو الفرقة وعدم الاتحاد.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى