مقالاتمقالات المنتدى

اهتمام علم تاريخ الأديان بالطوفان

اهتمام علم تاريخ الأديان بالطوفان

 

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

شغلت قصة الطوفان العظيم حيزاً كبيراً في الفكر والتفكير، واسترعت اهتمام الكثير من الباحثين والمتخصصين في الحياة العلمية والمعرفية والإنسانية، كعلم الأديان أو علم مقارنة الأديان أو علم النفس أو علم الاجتماع، أو الانثروبولوجيا والتاريخ، مما يدل على أن حادثة الطوفان بشقيها الأسطوري والديني قد تركت وقعاً كبيراً في نفوس وعقول ووجدان الأمم اللاحقة . (مباركي، 2015، ص139)

وقد تضاربت المصادر والمراجع التاريخية في قصة الطوفان، وانفرد القرآن الكريم بالحقيقة الكاملة لقصة نوح عليه السلام والطوفان العظيم، لا يمكن أن تضاهيها أي مدرسة من المدارس الإنسانية التي اهتمت بالطوفان، فقد حفظ الله ما ينفع بني البشر من سيرة نبيه ورسوله نوح عليه السلام، ولن تجد ذلك لا في الآثار السومرية ولا البابلية، والتوراتية المحرفة ولا غيرها، فالنص القرآني بين بوضوح أن نوحاً كان رسولاً من رب العالمين وأنه قضى من الزمن ما شاء الله له أن يقضي في دعوة قومه إلى عبادة الله الواحد القهار، وأن الله جلَّ وعلا لم يأت بالطوفان إلا بعد أن تحمل النبي الكريم في دعوته كل صنوف الأذى والاضطهاد، وإلا بعد أن جرب النبي الكريم كل سبل الإقناع دونما أية نتيجة، وأن الناجين من الطوفان في القصة القرآنية إنما نجوا لأنهم آمنوا بالله العزيز الحكيم، وصدقوا بدعوة نوح عليه السلام، بعكس النصوص الأخرى التي جعلت نجاتهم إنما ترجع إلى أنهم من أهل الباطل ولكنهم نجوا لأنهم من ذوي قرباه، ويزيد القرآن الكريم الامر وضوحاً في هذه النقطة بالذات، فقص علينا حوار نوح مع ابنه، وموقف زوجته من دعوته، ويبدو واضحاً المبدأ القرآني العظيم:”من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد”، “ولا تزر وازرة وزر أخرى”، “فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره”.

إنَّ النصِّ القرآني هو النص الوحيد الذي تسامى عن مهاوي الشرك وضلال الوثنية، فهو يذكر وبصراحة تامة أن القوم قد حادوا عن عبادة ربهم وانصرفوا إلى عبادة الأوثان، وفي كل هذا يقدم لنا وصفاً لله تعالى بما يتفق مع مقام الذات العلية، فلاغ يتنزل إلى الدرك الأسفل من التفكير الوثني في قصص العراق القديم، أو يصف الله سبحانه وتعالى بما وصفته التوراة المحرف من أوصاف لا يرتضيها عقل ولا يقودها منطق، بل دحض أوصاف لا يرتضيها عقلاء الناس لأنفسهم في كثير من الأحيان. (مهران، 1988، ج 4 ص97 – 101).

وهو الوحيد الذي نزه الله سبحانه عن الندم عن إحداث الطوفان، بعكس النصوص الأخرى التي ذهبت إلى ندم الله أو الآلهة في النصوص البابلية على الإتيان بالطوفان، بل ذهبت التوراة إلى أبعد من ذلك، حين زعمت أن الله – تعالى عن ذلك علواً كبيراً – قد عزم أن لا يحدث طوفاناً بعد ذلك، وانه قد وضع علامة هي القوس في السماء ليتذكر وعده، فلا يكون طوفان يغرق الأرض أبداً. (مهران، 1988، ج 4 ص97 – 101).

لم يعتمد النصِّ القرآني على غيره؛ لأنه وحي من عند الله، بعكس المصادر البشرية القديمة، فالسومريون بعد أن كتبوا روايتهم عن الطوفان جاء البابليون من بعدهم وأخذوا منها ما أخذوا، ثم جاءت اليهود ونقلت ما نقلت عن الاثنين، وهكذا كانت كل رواية طوفانية تعتمد على رواية سبقتها في التدوين، ولكن الأمر جدّ مختلف بالنسبة إلى القصة القرآنية، والتي هي وحي من رب العالمين، ذلك في القرن السابع الميلادي وفي مكة المكرمة، وفي غار حراء بدأ نزول الوحي على مولانا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قومه على دراية لقصة الطوفان هذه، وإلى هذا يشير القرآن الكريم ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ (هود: 49).

ثم أليس كل ما جاء في هذه الدراسة يدل بوضوح على هيمنة القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية – فما بالك بالكتابات الإنسانية – مصداقاً لقوله تعالى مخاطباً الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ (المائدة: 47)، ثم أليس هو الذي ﴿ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ (فصلت:42).(مهران، 1988، ج 4 ص97 – 101).

________________________________________

مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم (ميلاد الحضارة الإنسانية الثانية)، دار ابن كثير، بيروت، 1441ه -2020م، صص374-376

هشام محمد مباركي، قصة الطوفان بين الأسطورة والدين، دار الأكاديميون للنشر والتوزيع، عمان، الأردن،1436ه- 2015م،

محمد بيومي مهران، دراسات تاريخية في القرآن الكريم، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، 1408ه- 1988م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى