انتهاك حمى العربية وتحريف النصّ الديني
بقلم شريف محمد جابر
من المشكلات التي يعاني منها عددٌ من الباحثين المعاصرين في الإسلام، ضعفهم الظاهر في اللغة العربية، وهو ما يوقعهم في كثير من الأحيان في مغالطات كبيرة وأخطاء فاحشة عند معالجتهم لنصّ قرآني أو حديثي واستنباط المعنى منه. وسأذكر في هذه التدوينة الموجزة ثلاثة نماذج صادفتها شخصيا، وكانت عبارة عن أحكام خطيرة تُبنى على أخطاء لغوية ناتجة عن ضعف الباحث في اللغة العربية، وذلك ليدرك القارئ الكريم خطورة المعرفة اللغوية على استنباط الأحكام والمعاني الشرعية، وأنّ البحث في النصّ القرآني أو الحديثي ليس ساحة مفتوحة لمن شاء بغير امتلاك الأدوات العلمية اللازمة.
قبل سنوات عديدة، وفي سياق بعض المحاورات اطّلعت على رأي عجيب لأحد التيّارات الإسلامية يرى أصحابُه حرمة عمل الجمعيات الخيرية؛ لأنّها تقوم بعمل لا ينبغي أن يقوم به سوى ولي الأمر، أي الخليفة! وعندما بحثت عن أدلّة هذا الرأي وناقشتُ أصحابه وجدتهم يستندون إلى فهم مغلوط لحديث نبوي، ويزعمون أنّ هذا الفهم صدر عن “علمائهم”! والحديث هو قوله صلّى الله عليه وسلّم: “كلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته، فالإمامُ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيتِه…” (صحيح البخاري). فاستدلّ هؤلاء بالحديث على كون الإمام هو الوحيد المسؤول عن رعيّته، أي الوحيد الذي من حقّه رعاية شؤونها، ومن ثم فإنّ أي عمل خيري (وهو من أعمال رعاية الشؤون) يقع في مسؤولية الإمام، ولذا فهو محرّم ولا ينبغي القيام به من قبل عامة الناس! فالحديث في وهمهم “يحصر” المسؤولية في الإمام، ومن ثم لا يجوز لأحد أن يتعدى على هذه المسؤولية ويمارسها.
إنّ لفظ “المسؤول” في الحديث لا علاقة له بما توهّمه قارئ الحديث مما يُستخدم له اللفظ في عصرنا الحاضر، فالألفاظ العربية تُشحن في كل عصر بدلالات مختلفة
ولو نظرنا إلى صياغة الحديث فلن نجد أي أسلوب للحصر فيه، فلم يقل “وهو المسؤول عن رعيّته” بالتعريف، وفضلا عن ذلك فلو أكملنا الحديث لوجدنا أنّ تطبيق قاعدة الحصر الوهمية هذه سيوقعنا في فهم كارثي، فتمام الحديث “والرجلُ في أهلِه راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيتِه، والمرأةُ في بيتِ زوجِها راعيةٌ وهي مسؤولةٌ عن رعيتِها، والخادمُ في مالِ سيدِه راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيتِه”. فإذا قلنا إنّ هذه الصياغة حصرٌ للمسؤولية، فهل نزعم أنّ الخادم هو وحده المسؤول عن مال سيّده، أي له وحده حقّ رعاية شؤونه ولا يحقّ لسيّده التصرّف بماله؟! هذا بالطبع جنون لا يقوله عاقل، وبهذا يبطل وجود الحصر في الحديث.
ولكن الأمر لم ينته إلى هنا، فالطامة في هذا الاستدلال أكبر؛ إذ إنّ لفظ “المسؤول” في الحديث لا علاقة له بما توهّمه قارئ الحديث مما يُستخدم له اللفظ في عصرنا الحاضر، فالألفاظ العربية تُشحن في كل عصر بدلالات مختلفة، فلفظ “الشاطر” مثلا هو “الذي أعيا أهله خُبْثًا” كما في “الصحاح” للجوهري (ت 393 هـ)، ولكنّه يُستخدم اليوم بمعنى إيجابي، فالشاطر هو الذكي المجتهد. وهذا ما حصل لمن غلط في فهم الحديث المذكور، إذ ظنّ أنّ لفظ “المسؤول” في الحديث هو ما نستخدمه في عصرنا الحاضر حين نقول “فلان مسؤول”، أي له منصب سيادي مع صلاحيات، ولكن الحقيقة أنّ المسؤول في الحديث الشريف هو الذي سيُسأل يوم القيامة عمّا استُرعيَ فيه، ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “لو ماتت شاة على شطّ الفرات ضائعة، لظننتُ أنّ الله عز وجل سائلي عنها يوم القيامة” (أبو نعيم في الحلية، 1/53). ولفظ المسؤولية هذا وارد في كتاب الله كما قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}، وكما قال سبحانه: {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}.
في سياق آخر، ينقل الدكتور مصطفى محمود رحمه الله في كتابه “من أسرار القرآن” (ص84-85) وجهة نظر للمستشار مصطفى كمال المهدوي، خلاصتها أنّ لفظ “السارق” في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} جاء معرّفا، وأن ال التعريف لا تأتي عبثا في القرآن، وأنّ السارق هنا مثل الكاتب والفارس، أي مَن احترف السرقة، فمن سرق “في ظرف انفعالي” على حدّ تعبيره لا نطبّق عليه الآية، فإذا كرر السرقة فهو حينئذ “السارق”. ثم يكرر الدكتور مصطفى محمود التحليل ذاته على حكم زنا البكر في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}، فيقول إنّ ال التعريف “تعني الرجل والمرأة اللذين أخلدا إلى الزنا واتخذاه سلوكا مختارا أو حِرفة أو حياة، ولا تعني رجلا سقط ذات مرة في لحظة ضعف تحت إغراء عارض فقارف الزنا ثم ندم”.
أدّى الخطأ في فهم دلالة بعض الألفاظ في بعض النصوص الشرعية إلى بناء أحكام خطيرة في الدين وتحريف معاني بعض النصوص، مما يؤكّد على أهمية اللغة العربية في فهم النصّ القرآني والحديثي |
وبغضّ النظر عن الإضافة “الأدبية” في وصف من سرق لمرة واحدة بأنّه “في ظرف انفعالي”، أو من زنا لمرة واحدة بأنّه كان “تحت إغراء عارض فقارف الزنا ثم ندم”. أقول: بغض النظر عن هذا الوصف الذي لا يقدّم ولا يؤخّر، فلم ينتبه الدكتور محمود ولا المستشار مصطفى كمال المهدوي إلى أنّ قوله “السارق” هو اسم فاعل لفعل السرقة، ولا يوجد اسم فاعل أقلّ درجة من هذا الاسم، وكذلك قوله “الزاني”، فهو اسم فاعل لفعل الزنا، ولا يوجد اسم فاعل أقلّ درجة من هذا الاسم لوصف من يسرق ولو لمرة واحدة. أما من احترف السرقة فيسمّى “سرّاقًا” في العربية، على وزن “فعّال”، فهل عجز الله – سبحانه وتعالى – عن استخدام اللفظ الأكثر دقة مع توفّره في العربية لو كان يريد محترف السرقة كما يزعمان؟ وهل جهل أئمة العربية من الصحابة والتابعين وفحول اللغة من علماء العربية بعدهم أنّ “السارق” و”الزاني” في الآيتين تعنيان من احترف السرقة أو الزنا، فتواطأوا جميعًا على فهم خاطئ لم يكشف خطأه إلا المستشار المهدوي؟!
ثم من أين للمستشار الفاضل أنّ دخول ال التعريف على اسم الفاعل “سارق” تفيد احتراف السرقة؟ وذلك في قوله “إنّ الآية لا تذكر سارقًا أي سارق، وإنما هي تأتي به معرّفا بال التعريف فتقول: السارق والسارقة”. فهل هناك أصلا احتمالٌ آخر لصياغة الآية لو كان الله سبحانه أراد “أي سارق” على حدّ تعبيره؟ هل هنا مثلا صياغة مثل: “وسارقٌ وسارقةٌ فاقطعوا أيدهما”؟! إنها صياغة ركيكة لا يستخدمها من لا حظّ له من البلاغة، فكيف بكلام الله الذي هو أبلغ الكلام؟! إنّ ال التعريف هنا ليست للدلالة على احتراف السرقة، بل ليستقيم الكلام في العربية، وهي الوصف الأبلغ للمعنى المُراد، كما لو قلنا: القاتِل يُقتل، فلا نعني مَن احترف القتل، بل من قتَل ولو لمرّة واحدة، ولن يقول أحدٌ إن ال التعريف تعني من احترف القتل!
وأنا أعجب حقّا ممن يتسرّع في التصريح بمثل هذه الأحكام اللغوية المتهافتة دون أن يراجع المعاجم وكتب العربية، بل دون أن يراجع كتاب الله عزّ وجلّ، فقد قال سبحانه في سورة يوسف عن إخوته: {فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}. فسمّاهم سارقين مع التوكيد باللام، ومع ذلك فالمقصود أنّهم سرقوا شيئا لا أنّهم محترفون للسرقة، فمن يسرق ولو لمرّة يسمّى سارقا، أما من يحترف السرقة فيسمّى سرّاقًا. وكذلك من يكذب لمرة واحدة يسمّى كاذبًا، كما جاء في سورة يوسف أيضا: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، فيصير من “الكاذبين” إنْ كذبَ مرة واحدة كما في هذه الحالة، وحاشاه عليه السلام. ومن يحترف الكذبَ ويكون له عادة يسمّى كذّابا، كما في قوله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ}.
وهكذا يظهر أنّه ليس في قوله “السارق” أو “الزاني” أي دليل على الاحتراف من داخل النصّ، بل في شواهد الأحاديث النبوية وآثار الصحابة وإجماع العلماء ما يؤكّد أنّ المقصود من سرق ومن زنا، ولو لمرّة واحدة.
وفي سياق إنكار حُكم الرجم للزاني المحصن، الثابت في متواتر السنّة وإجماع الصحابة ومن تبعهم من أئمة المسلمين، يأتي استدلال مغلوط وقع فيه عددٌ من الباحثين، ولعلّ أصل الخطأ من واحد منهم ثم تبعه الآخرون بلا تفكير! وذلك أنّهم قرأوا قوله تعالى في حكم من تزني من الإماء المتزوّجات في سورة النساء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}. فقالوا: إذا كان على الإماء المتزوّجات نصفُ ما على المحصنات – أي المتزوّجات – من الحرائر، فهذا يعني أنّ حُكم زنا المتزوّجة من الحرائر هو الجلد؛ لأنّ الرجم لا يمكن تنصيفه، والجلدُ يمكن تنصيفه، فيصير حكم الأمَة المتزوجة إذا زنت 50 جلدة، ويكون حكم الحرّة المتزوّجة – في زعمهم – 100 جلدة في كتاب الله.
الأخطاء الكارثية وغيرها في قراءة النصوص الشرعية تحتّم علينا إضاءة الضوء الأحمر، وتدارك هذا الضعف من خلال إعادة إحياء حبّ العربية وتعلّمها في النفوس
فظنّوا بذلك أنّهم جاؤوا بدليل قاطع على إبطال حكم الرجم للزانية المحصنة (أي المتزوجة)، ولو قرأوا الآية من أولها وراجعوا معاجم العربية لأدركوا أنهم وقعوا في وهم كبير، فنلقرأ الآية من أولها: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ ۚ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النساء: 25). وبداية الآية واضحة: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}.
أي: من لا يستطيع التزوّج من المحصنات المؤمنات، ولو كان معنى “المحصنات” في الآية “المتزوجات”؛ فلا يستقيم المعنى، إذ لا يمكن التزوّج من المتزوّجات! ولكن معنى المحصَنات في الآية هو “الحرائر” من غير المتزوجات، وهو معنى معروفٌ في العربية، ينقل ابن فارس في “مقاييس اللغة” عن أحمد بن يحيى ثعلب أنه قال: “كلّ امرأةٍ عفيفة فهي مُحْصَنة ومُحْصِنة، وكل امرأة متزوِّجةٍ فهي محصَنة لا غير”.
بمراجعة النماذج الثلاثة نرى كيف أدّى الخطأ في فهم دلالة بعض الألفاظ في بعض النصوص الشرعية إلى بناء أحكام خطيرة في الدين وتحريف معاني بعض النصوص، مما يؤكّد على أهمية اللغة العربية في فهم النصّ القرآني والحديثي، لا على المستوى النحوي فقط، بل على المستوى الدلالي أيضا. ويؤكّد أيضا على أهمية التزام الإجماع في المسائل القطعية من الدين، والقصد إجماع الصحابة الذي نقله لنا أئمة أهل السنة؛ فحين يُجمع هؤلاء على شيء، وفيهم من شهد نزول الوحي وأئمة الدين والعربية من القرون المفضّلة الأولى، حين يُجمعون على تفسير آية بمعنى معيّن؛ فلا مجال لمعاصر أن يخالفهم، وإلا وقع في أخطاء لغوية فاحشة كما وجدنا في الأمثلة السابقة.
إنّ هذه الأخطاء الكارثية وغيرها في قراءة النصوص الشرعية تحتّم علينا إضاءة الضوء الأحمر، وتدارك هذا الضعف من خلال إعادة إحياء حبّ العربية وتعلّمها في النفوس، وإعادة النظر في مناهج تدريس العربية في مدارسنا ومعاهدنا الشرعية وجامعاتنا، مع تشديد الرقابة والنقد من قبل أهل العربية تجاه كلّ من يكتب بالعربية ويخاطب الناس؛ ليعزّز ثقافته العربية، وليَرهبَ الدخول إلى حمى العربية بغير أداة.
(المصدر: مدونات الجزيرة)