مقالاتمقالات مختارة

انتفاضة الأقصى الرمضانية تَقض مضاجع الصهاينة والمتصهينين وتعيد ترتيب الأولويات وتُربك المنبطحين

انتفاضة الأقصى الرمضانية تَقض مضاجع الصهاينة والمتصهينين وتعيد ترتيب الأولويات وتُربك المنبطحين

بقلم فهد السالم صقر

إن الانتفاضات والثورات الشعبية لا تُفَبرَك ولا تُصَنّع ، فهي تندلع غالبًا بشكل مفاجئ غير متوقع عندما تَنضُج ظروفها الموضوعية؛ وقد تبقى الثورة ، أي ثورة ، في حالة كُمون لسنوات وعقود طويلة ،  حتى تأتي حادثة عابرة بسيطة ، غير متوقعة وغير مقصودة، تكون بمثابة الشرارة التي تُشعل النار من تحت الرماد، فتقلب الأوضاع رأسا على عقب، لم يكن محمد البوعزيزي يعرف، وبالتأكيد،  لم يكن يُخطّط  ، هُو أو غيره ،  لتفجير ثورة في تونس في شهر يناير 2011، عندما أقدم على حرق نفسه إحتجاجا على سوء معاملته على يد شرطية تونسية، فكانت الحادثة هي االشرارة التي أوقدت ثورة تونس ،  بلا قصد، ومن بعدها كل ثورات الربيع العربي التي امتدت إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن، وغيرها.

 كذلك الأمر عندما قامت الانتفاضة الفلسطينية الكُبرى الأولى عام 1987 و قلبت كل الموازين.  جاءت إنطلاقتها عفوية بعد تراكمات 20 سنة من الاحتلال وتردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية؛  حينها كانت الشرارة جريمة صهيونية بدم بارد، حين قام سائق شاحنة اسرائيلي بدهس مجموعة من العمّال الفلسطينيّين على حاجز «إريز»، فتفجرت الاحتجاجات على أثرها وتصاعدت ، وتبلورت ثورة شعبية، استمرت الانتفاضة عدة سنوات ، قلبت فيها الأوضاع رأسًا على عقب، وخلقت واقعًا جديدًا لا يمكن إنكاره، كان له ما بعده،  حيث قامت القيادة الوطنية الفلسطينية الموحدة وبدعم من منظمة التحرير بتنظيم وإستثمار هذا النضال البطولي الأسطوري للشعب الفلسطيني، وبقية القصة معروفة للجميع ، بحلوها ومُرّها.

دون الخوض في التفاصيل، فإن الذي حدث في القدس من هبة شعبية وانتفاضة بطولية لأبناء وشبان  بيت المقدس في يوم الجمعة الثانية من رمضان للعام 1442 هجرية الموافق 23 إبريل 2021 يأتي في سياق الثورات العفوية ( الكامنة) الفاضحة والكاشفة ، التي تُعتبر بحق مُغيّرة لقواعد اللعبة،  نحن في وقت أصبح التفريط والتخلّي عن المقدسات والثوابت العقيدية وجهة نظر تخضع للبراجماتية السياسية، أو بتعبير أدق ، للميكافيلية ( الوصولية)  السياسية، في أبشع صورها.

  إنّ القدس ومسجدها الأقصى المبارك هي القنبلة الموقوتة “المرشح” لأنّ تكون الشرارة التي ستشعل التسونامي العربي القادم ، ليس فقط في فلسطين المحتلة ، وإنّما  في كل أنحاء الوطن العربي.  وأتوقع أن تكون هذه الشرارة حماقة صهيونية كُبرى تُرتَكب في القدس ، فتُشعِل بركان الغضب الكامن الذي ينتظر لحظة الانفجار ، و يُطبخ الآن تحت الرماد في كل الدول العربية ، بلا استثناء.

إن النظام العربي القائم حاليا الذي تُجسده رمزيا أفشل مؤسسة في التاريخ؛  الجامعة  العربية ( المُفرّقة العربية)، هو نظام فاسد ، مثير للشفقة ، مُهترئ ، مرهون للخارج ، وهو فوق كل هذا نظام غير قابل للإصلاح، وفي نفس الوقت غير قابل للاستمرار ؛هذا النظام مصيره السقوط الحتمي المُدّوي،  ونهايته أحد أمرين ؛ إما السقوط نحو الهاوية ومزيد من الحضيض – كما يُخَطّط له مهندسوه الأصليون-  أو النهوض على انقاضه بأيدي أبنائه الشرفاء ؛ السؤال الآن ليس إذا كان النظام العربي الراهن العفن سيسقط أم لا ؟  وإنما متى؟  لقد استنَفدَ هذا النظام  الذي بُني على باطل إسمه  “اتفاق سايكس بيكو” وعلى تقسيماته وتفاهماته الخبيثة أغراضه، وأصبح علاجه الوحيد هو اجتثاثه من جذوره ، كما تُجتَث الشجرة الخبيثة، ليقوم على أنقاضه نظاما جديدًا، يبدأ من الصفر، أو بتعبير أدق،  يعود إلى نقطة الصفر، حيث كانت البدايات ، عشية الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، قبل ولادة الطفل الحرام المُسمى باتفاق سايكس بيكو.

ومن المفارقات العجيبة أيضًا ؛أن مهندسي هذا النظام الخبيث وكفلاءه الغربيين أنفسهم ، يعتقدون أيضا – كما نعتقد نحنُ –  أن هذا النظام قد استنفد أغراضه ، وأنهى مهمته، فشرعوا بتعديله ، ليتناسب مع أحلامهم في العصر الجديد، عصر التبعية الكاملة للسيطرة الصهيونية على المنطقة والعٌلّو الإسرائيلي.  لقد بات واضحا أنّ كَهَنة سايكس بيكو وورثته بدأوا يَعدّون العدة لمرحلة ما بعد – سايكس بيكو؛  وهي تقسيم المُقّسم ، وتفتيت المُفتت ، وتأسيس دويلة أو كانتون سياسي – أو أكثر- لكل أقلية ولكل مذهب ، وإحداث التغييرات الديموغرافية اللازمة التي  تضمن لهم تحقيق ذلك ، و تهميش الأغلبية ،  تارة بحجة الدفاع عن حقوق الأقليات وتارة بمحاربة الإسلام كعقيدة تحت مسميات مختلفة، (إلارهاب ، تجديد خطاب، تجفيف منابع …الخ ) . واستبدال كلمة الدين الإسلامي بكلمة ” الإسلام السياسي” الجاري شيطنته في إطار حملة خبيثة منظمة ومدروسة،  واستبدال كلمة مسلمين بكلمة ” إسلاميين” ومرادفها الإعلامي “إرهابيين”.  كل ذلك يجري على قدم وساق لنزع صفة الأمة عن الأمة الإسلامية، وإرجاعنا إلى عهد الجاهلية الأولى ما قبل الإسلام، قبائل متناحرة متحاربة.

لقد استحضرني عند رؤية انتفاضة شبان بيت المقدس في يوم الجمعة الثانية من شهر رمضان المبارك مطلع بائية أبي تمام الشهيرة ؛ السيف أصدقُ إنباءا من الكتب، في حَدِهِ الحًدّ بين الجد واللعب. بيضُ الصفائِح لا بيضُ الصحائِف ، في متونِهنّ جلاءُ الشك والرِيب. وذلك بسبب جُرعة الفَخر والكرامة التي منحتنا إياها . عندما تصدّوا لقطعان المستوطنين الذين حاولوا اقتحام المسجد الأقصى المبارك ، ومنعوهم من الوصول إلى المسجد ؛ لقد أثلج صدورنا منظر شبان عُزّل يطاردون قطعانا مُسلّحة و مَحميّة من قبل جنود مدججين بالسلاح وهم  يفَرّون من أمامهم مرعوبين مذعورين ، كأنهم حُمُرٌ مُستنفرة فَرّت من قَسوَرَة . وعلى أثر هذه المواجهات والإصرار الشعبي قامت قوات الإحتلال بإزالة الحواجز الأمنية وفتحت الطرقات إلى المسجد الأقصى رغما عن أنفهم، وحقق المقدسيون بذلك نصرًا معنويا كبيرًا اعتز به ملايين المسلمين في كل مكان.

 يأتي هذا بالتزامن مع موجة الإنبطاح المُخزي ، والتطبيع المجاني التي تقترفه بعض الأنظمة الوظيفية، والروح الانهزامية المُستفّزة التي تشيعها وسائل إعلامهم الرسمية وأبواقهم الجوفاء (سود الصحائف ) ، ضمن حملة مُنظمة، هدفها تهبيط العزائم والمعنويات، ونشر روح اليأس والهزيمة ، وإعطاء الإنطباع الكاذب بأن التطبيع يجري برضا وحماس جماهيري و شعبي ، وهو ليس كذلك البتة . تُخطئ الأنظمة الوظيفية عندما تنضم إلى فسطاط الصهاينة ضد فسطاط الأمة، وضد رغبات شعوبها ومعتقداتهم. فمهما إستخدموا من أساليب تدليسية يبقى هذا سلام بارد مرفوض شعبيا مُصطَنع بين حكومات مغلوبة على أمرها ، أذعنت لرغبات أمريكية حفاظا على كراسيها وطلبا للرضا الصهيوني .

هذه الأنظمة فعلت ذلك نتيجة ضعف ونتيجة ضغوطات سياسية ، وليس نتيجة قناعات و قرار سيادي، كما يزعمون ويتوهمون؛ رحم الله نظامًا عرف قدر نفسه؛  أما بيضُ الصفائح، فهم بحق أبطال بيت المقدس، الذين يُبطلون هذه الصحائف الإعلامية السوداء ، الناعقة كالبوم في الخراب ، ويقولون لهم بلسان الحال لا بلسان المقال، إن حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر و أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن.

وفي ذات السياق ، تتعرض العقيدة الإسلامية نفسها لحملة شرسة لتغيير المفاهيم والمعتقدات تتلخص في تحليل المُحرّم ، وتحريم المُحلّل ، والطعن في السنة النبوية الشريفة، بحجة الحداثة وتجديد الخطاب الديني ومواكبة العصر.  العنوان العريض لهذا التجديد المزعوم هو التخلي عن القدس على إعتبار ها مجرد مدينة عادية، وأن المسجد الأقصى المبارك هو مجرد مسجد مثل أي مسجد في أوغندا !  وتصفية القضية الفلسطينية ، وفتح المنطقة على مصراعيها للسيطرة الإسرائيلية ؛الأمر الذي يُواجَه برفض شعبي كبير ، ومقاومة سلمية واستنكار على نطاق واسع ويسهم في زيادة حدة الإحتقان الجماهيري من المحيط إلى الخليج.

 ليس سرًّا بأن أمريكا هي التي تُحرّض وتقود وتُمَول ( من مال العرب) حملات ما يسمى بتجديد الخطاب الديني، وهي في جوهرها دعوات باطلة تحاول المس بثوابت الدين والعقيدة، وتحديدا في قضية الولاء والبراء، وعلاقة المسلمين بأهل الكتاب وخاصة يهود في فلسطين، وبالدول الأجنبية المعتدية علينا ،  علما بأن هذه المسألة محسومة أصلا .   ليس هناك أي جدل في ما هو معروف من الدين بالضرورة.  وقضية ” الولاء والبراء” لا تحتمل التجديد ولا الإجتهاد ولا التدليس ، لأنها ببساطة شديدة ، ليست مُستنبطة من أحاديث الآحاد، ولا من أحاديث البُخاري، على فرض جدلا أن هذه الأحاديث لا يُأخذ بها ، وهذا أيضَا غير صحيح،  بل هي مُستنبطة من صريح الآيات القرآنية التي لا تتغير. الآيتين 8 و 9 من سورة الممتحنة.  فأنى تؤفكون.

 يريد دُعاة الباطل أيضا أن يوائموا الإسلام مع ما يسمى شرعة حقوق الإنسان الوضعية Human rights charter)) التي تنادي بإنحلال المرأة بدواعي الحرية  الشخصية و الانحلال الأسروي والأخلاقي والحرية الجنسية وزواج المثليين والشذوذ ، باعتبار كل ذلك حريات شخصية كفلتها هذه الوثيقة ، ويجب على المسلمين – إن أرادوا اللحاق بركب “الحضارة العصرية” ونيل الرضا والقبول الأمريكي – تبنيها وقبولها في بلدانهم  كما هي.  ليست صُدفة  إذن ، أن أمريكا اختارت لتنفيذ هذه الأجندات التخريبية نظامين سياسيين يفتقران لأدنى متطلبات الشرعية السياسية أو الشعبية، ويعتمدان إعتمادا كليا على أمريكا في تدعيم حكمهما الدموي، فكلما كان الحاكم ضعيفا ولا يملك أي قاعدة شعبية حقيقية كلما كانت التنازلات أكبر وأسهل.

لقد جاءت هذه الهَبّة المقدسية في ثاني جمعة من رمضان المبارك 2021 كصفعة على وجوه الصهاينة والمتصهينين ، فأخذتهم على حين غرة.  وأثبتت أن قضية فلسطين والقدس هي جوهر الصراع ، وهي اللغم والقنبلة الموقوتة التي لا يمكن نزع فتيلها، وهي قابلة للإنفجار في أي لحظة، فحذاري. (القدس يا عبدة الكراسي والعروش ليست للتفريط ولا للبيع، ومن أحب أن يُجّرب فليجرب). وأثبتت أيضًا ، أن أي كلام عن سلام هزيل ومُزيف لا يُعطي الحقوق لأصحابها وأولها حق الفلسطينيين في القدس ، وحق المسلمين في جميع أنحاء الأرض في المسجد الأقصى ، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، هو كلام مرسل مصطنع وبيع هامبرغر.

إن شبان بيت المقدس لا زالوا بالمرصاد ، وهم في رباط إلى يوم الدين،  وقد قالوا كلمة الفصل، أن القدس خط أحمر. نقطة .  فليذهب كل المطبعين والمتخاذلين أصحاب بيض الصحائف ، الذين بلعوا ألسنتهم ولم ينبسوا ببنت شفه أمام الإعتداءات الصهيونية على القدس إلى الجحيم. وإعلموا أن هؤلاء الشبان ليسوا وحدهم ، فهناك عشرات الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العالم الذين يتوقون للدفاع عن المسجد الأقصى ، و لو سَنَحَت لهم الفرصة بالذهاب إلى بيت المقدس للرباط والجهاد، ولمساندة أخوانهم لشدوا الرحال وللبّوا الدعوة في طُرفة عين. نصيحة لوجه الله ؛ لا تلعبوا بالنار.

أخيرًا وليس آخرًا ، عبثًا حاول المصريون ، وقوى المعارضة الشعبية و الإسلامية وغيرهما ،  خلال 8 سنوات من  استيلاء العسكر على السلطة أن يعيدوا استنساخ ثورة 25 يناير 2011 ويخرجوا إلى الشوارع ، كما فعلوا عندما أسقطوا حكم المخلوع حسني مبارك ، ولكن ذهبت كل دعوات العصيان والخروج هباءا منثورًا ؛ فبالرغم من تسخير وسائل إعلام  مهمة ،ووسائل تواصل اجتماعي ، وتحديد مواعيد ، والاتفاق على ساعات صفر للنزول للميادين نظمتها قوى معارضة في عدة مناسبات ، إلا أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل.  وذلك لسبب بسيط، أن الثورات والهبات الشعبية لا تُصّنع ولا تُفبرك كما ذكرت، وإنما تحدث عفويا وتلقائيا عندما يحين أوانها ، وعلى أبسط الأسباب. وثورة مصر الثانية ( التسونامي القادم) لم يحن أوانها بعد  على ما يبدو.  وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ، ولكن لمن يسأل متى هذا الوعد؟ قل عسى أن يكون قريبا.

 النظام العربي القائم يحمل كل بذور فنائه في ذاته . و لن يكون الطوفان القادم إلا تسونامي يأخذ بطريقه الأخضر واليابس،  ويستهدف الكفلاء الأجانب في الخارج هذه المرة  قبل الوكلاء المحليين في الداخل. لأن الشعوب العربية قد وَعَت الدرس جيدًا وعَرَفت مكمن الخلل ،  وهو أن الغرب والأمم المتحدة  هم العدو الحقيقي اللدود للشعوب العربية ، وهم الذين يمنعون عنها أوكسجين الحرية و الإصلاح ، والمثال السوري أسطع برهان، فقد تآمر العالم كله على ثورة الشعب السوري، ووقفوا إلى جانب النظام الطائفي المجرم ضد الشعب، تارة خوفًا من الفوضى وحفاظًا على الاستقرار وتارة خوفًا من  فزاعة الإرهاب الذي صنعوه هم بأنفسهم. في نفس الوقت الذي كانوا فيه  يتظاهرون  بالتعاطف مع  الثوار ويذرفون دموع التماسيح على الشعب المسكين، كانوا يدعمون النظام ويمدونه بالشرعية وبكل متطلبات البقاء.

لقد بدأ الكأس يطفح، وعندما تُمس ثوابت العقيدة ،  انتظروا الطوفان؛  وإنا معكم لمنتظرون.

نحن قرأنا تاريخ هذه الأمة، ونعرف ماذا نقول.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى