مقالاتمقالات مختارة

انتخابات السيسي وتسفيه فكرة الاختيار

بقلم أحمد قاسم البياهوني

من الجرائم التي يرتكبها العسكر أثناء حكمهم البغيض لقطر من الأقطار لضمان بقاء دولتهم أطول فترة زمنية ممكنة؛ جريمة كبرى عابرة للأجيال هدفها تشويه الوعي الجمعي، وهي جريمة معنوية لا مادية ولكنها قد تكون أكثر ضررا من الجرائم المادية الملموسة والظاهرة والواقعة تحت نصوص قانون العقوبات، كالقتل خارج إطار القانون والعنف المفرط والتعذيب وبيع مقدرات الوطن بصورة أو بأخرى.

وهذه الجريمة من الممكن أن نسميها ولو مؤقتا بجريمة “تزييف المعاني” أو بعبارة أخرى جريمة إفراغ الأشياء من مضمونها الحقيقي، وخلق صورة مزيفة من صورة حقيقية وأصلية، كخلق ثورة مزيفة غير الثورة وبناء دولة مؤسسات شكلية لا موضوعية وحقيقية وإقامة بناء ديمقراطي مزيف وغير موجود في الحقيقة للظهور بمظهر خارجي لا يستحقونه لأنه غير حقيقي، وهذا ما نجده في كل بلد ابتلي بحكم العسكر على مستوى المعمورة من وجود فكرة حكم العسكر بصورته الحالية.

ولن تكون مصر بدعا من تلك الدول التي حكمها ولا يزال يحكمها العسكر بصورة ديمقراطية مزيفة وشرعية هي في حقيقتها مسلحة لا شعبية، هذا إذا تجاوزنا عن معقولية أن يكون للسلاح شرعية حكم، وهذا ما سوف نلاحظه إذا ما تتبعنا تاريخ حكم العسكر لمصر بصورة مباشرة، منذ ولادة فكرة الاستفتاء على وجود الرئيس من عدمه والنتيجة المزيفة التي كانت تكاد تقترب من المائة في المائة زمن عبد الناصر ومن بعده السادات.

بعد أن استوى الانقلاب على عرش مصر وقبيل التسكين الرسمي بمسرحية الانتخابات الماضية؛ كانت إضافة السيسي بجريمة تزييف المعاني متمثلة في نسف فكرة البرنامج الانتخابي التي هي عمود أي اختيار ديمقراطي حقيقي

وحتى أول انتخابات شكلية مزيفة افتعلها حسني مبارك قبل قيام الثورة عليه بست سنوات ليشارك بصورة جديدة في جريمة تزييف المعاني ولكن بصورة أوضح من سابقيه، لأنه من المفترض أنه نافس مرشحين آخرين حقيقيين حتى اختاره الشعب مرة أخرى، وهذا غير حقيقي بالطبع وإنما الحقيقة أنه أراد الظهور بشرعية جديدة أمام الغرب بعد أن تآكلت شرعية أكتوبر وإن كانت شرعية لا تعبر عن الحقيقة بالمرة.

وفيما يخص عبد الفتاح السيسي فالأمر بالنسبة له يختلف كثيرا عن سابقيه بحكم أنه جاء بعد ثورة حقيقية أيقظت الشعب من سباته، وجعلته يفكر في أمر حريته ومقدرات وطنه وكرامته الخارجية والداخلية أيضا، بعد عقود من قبضة عسكرية جعلت الأمر السياسي وكأنه قدس الأقداس الذي لا يجوز المساس به أو الاقتراب منه أو حتى التفكير فيه، كما أنه بالإضافة إلى ذلك فهو قفز إلى السلطة بعد انقلاب عسكري قام به واضح المعالم ومكتمل الأركان على أول رئيس مدني منتخب انتخابا حقيقيا وديمقراطيا ومعبرا عن إرادة الشعب المصري.

ولهذا فقد أضاف ولا يزال إلى جريمة تزييف المعاني العابرة للأجيال إضافات نوعية كبيرة، لأنه -وحتى يضمن لنفسه وللنظام العسكري البقاء والاستمرار بعد أن امتص ضربة يناير وأفاق منها- لا يريد فقط خلق صورة مزيفة من الأشياء؛ بل يعمد إلى تسفيه فكرتها في وعي الشعب وذاكرته لجعل كل معنى من معانيها في وعيه الجمعي لا قيمة له مع مرور الوقت، وحتى يعود إلى سباته العميق الذي كان عليه قبل ثورة يناير.

وهذا ما سيظهر لنا جليا عندما نتتبع خط سيره في هذا المضمار، ولتحقيق ذلك الهدف الإستراتيجي منذ أن وقع الانقلاب العسكري على يديه وحتى الآن، فقبل أربع سنوات من الآن وبعد أن استوى بالانقلاب على عرش مصر بصورة غير مباشرة وقبيل التسكين الرسمي بتلك الانتخابات المسرحية الهزلية الماضية، كانت إضافته في جريمة تزييف المعاني متمثلة في نسف فكرة البرنامج الانتخابي التي هي عمود أي اختيار ديمقراطي حقيقي.

بعد أن كفر الشعب المصري “إلا قليلا منهم” بالطريق الديمقراطي السليم، وآمن بأن حكم العسكر ضرورة حتمية وحقيقة أبدية، ينتظر إجراء انتخابات أخرى من نوع خاص جدا قد يكون فيها عبد الفتاح السيسي هو مرشحها الوحيد

فقد أطل على الشعب المصري بزيه العسكري وبخطاب غريب وبديكور يليق بمطرب عاطفي لا مرشح رئاسي ليقول ـ في خجل معهود ومصطنع منه لحاجة في نفسه ـ للشعب إنه قرر الترشح للرئاسة رغم أنه لا برنامج انتخابي له ولا يعد أحدا بشيء على الاطلاق، وهذا ما حدث بالفعل ولا يزال يحاول تكراره مرة أخرى .

وهذا قد لا يكون مرتبطا بفكرة التحلل المسبق من المسؤولية الانتخابية عند الفشل في تحقيق البرنامج المزعوم لأنه ببساطة العسكر لا يتحملون مسؤولية على الاطلاق، وعبد الناصر كان ولا يزال خير مثال على ذلك، لأنه حتى في ترهاته المضحكة كفكرة عربيات الخضار للشباب للقضاء على البطالة وغير ذلك من سفه لم يتحقق منها شيء، ولكنه كان يتعمد الوصول إلى حكم مصر بصورة ظاهرة أو أن يتم تنصيبه بشكل رسمي وهو يسفه فكرة ضرورة أن يكون للشعب اختيار حقيقي في تحقيق مصيره وتحديد مستقبله، وأن يفرغها من مضمونها الحقيقي بجعل إرادتهم لا وزن لها وما هي إلا صورة شكلية يزين بها كرسيه من أجل الخارج بالطبع.

والآن وبعد أن كفر الشعب المصري إلا قليلا منهم بالطريق الديمقراطي السليم، وآمن بأن حكم العسكر ضرورة حتمية وحقيقة أبدية، ينتظر إجراء انتخابات أخرى من نوع خاص جدا قد يكون فيها عبد الفتاح السيسي هو مرشحها الوحيد وإن شاركه في الصورة غيره؛ لتكون في حقيقتها استفتاء مضمون النتائج مسبقا في صورة انتخابات مسرحية وهزلية ينفق عليها أكثر من مليار جنيه، لا ليكتسب شرعية جديدة؛ بل ليمعن في تحطيم بقايا كل قيمة ديمقراطية لا تزال عالقة في وعي الشعب منذ ثورة يناير، ولتبقى دولته “دولة العسكر” باقية وتتمدد.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى