مقالات مختارة

امتحان بر الوالدين في كبرهما..الراسبون والفائزون

بقلم د. خالد رُوشه 

الأمر سهل يسير مادام الوالدان في صحة وعافية , يستطيعان القيام بأمرهما , يضحكان ويسعدان في أوقات السعادة , ويعبران عن مكنون قلوبهما في أوقات الحزن  , فيسهل فهم طرائق برهما بكلمة طيبة أو هدية مناسبة , أو اعتذار لطيف .

لكنك يا صديقي قد تواجه ما لم تكن قد حسبت له حسابا من قبل , فقد تواجه بأب مريض قد ثقل جسمه واشتدت حساسيته , وكثرت مطالبه , وأم قد كثرت آلامها , وتيبست أطرافها , وغاب عنها كثير من التعبيرات والمعاني , فتتابع غضبها وساء ظنها في كثير ممن حولها , فضلا عن ثقل جسدها وطول أنينها ..

وقد تجد نفسك مطالبا بتنازلات كثيرة ربما تكون في وقتك أو عملك أو تجاه زوجتك أو أولادك أو أصدقائك , لتستطيع رعايتهما , وقد تجد نفسك أمام تضحيات واجبة بمستحبات كثيرة لديك وعادات تعودتها , أو أمام جهد لازم عليك أن تبذله , ومال ثقيل عليك أن تنفقه , فهل تنجح عندئذ في هذا الاختبار الحقيقي للبر , أم تظهر منك الخساسة وسوء الفعال ونسيان الوفاء تجاه أغلى الناس ؟!

إنك ههنا ايها المؤمن مطالب ببر حقيقي كامل لوالديك , وليس برا كذاك الذي كنت تتحدث عنه في شبابهما وصحتهما وقدرتهما وعطائهما .

كلنا ولاشك يرتجي برا بوالديه , وكلنا ولاشك يؤمن بآيات الله سبحانه الآمرة بذلك , والحاثة عليه , والدافعة اليه بمعان كثيرة وأساليب مختلفة .

لكننا في غالب الأحيان نهون من شأن تنفيذ البر وتطبيقه , فننادي دائما بكون البر ” شىء هين , وجه طليق وكلام لين ” .. وبأن البر ” الكلمة الطيبة في اللقاء والطيبة في الوداع ” .. وبأن البر ” أن تجعلهما يشعران بحبك وحرصك عليهما ” وغير ذلك .

كلها أوصاف بسيطة وسهلة , وبالفعل هي لابأس بها إن كنا نيسر على الناس بر والديهم , وإن كنا ندفعهم نحو ابتداء البر ونحو تحبيبه إلى قلوب الناس .

لكن حقيقة البر للوالدين ليست بالشىء الهين السهل , فهي عمل هام , وعبادة كريمة , ومسئولية جسيمة , خصوصا إذا كان البر مطلوبا في عمرهما الكبير وبعدما بلغا من العمر منتهاه ..

لاتزال تلك الصورة التي اختارتها وسائل الإعلام الغربية لأحد الأبناء بينما هو في زيارة لأبيه في دار المسنين التي أودعه إياها , ماثلة أمام عيني , وبينما الابن يسأل عن ابيه سؤالا سريعا وهو منشغل بأشغاله , فينظر في جواله تاره , ويرد بالكتابة تارة , وينادي على الممرضة بأنه في عجلة من أمره , ولابأس لا يهم هذه المرة أن يلتقي بأبيه فيكفيه الآن أن يطمئن أنه بخير !

المشهد يكتمل مأساوية بينما يقول له الطبيب إن اباه قد اشتد عليه المرض وهو الآن لايكاد يهتم بما حوله , ليدخل الابن فيرى اباه بحالة يرثى لها , ويحاول أن يكلمه بدون جدوى , فالاب لايكاد يعرفه !

إنها طرقة شديدة على راس ذلك الابن الذي نسى أباه في دار المسنين , لفترات طويلة كان يكتفي فيها بمجرد السؤال عنه بالتليفون , ودفع بعض المصاريف القليلة للدار ..

مشهد آخر يحلو لوسائل الإعلام تناقله لأب قد اصابه الزهايمر , وصار لا يتحكم في قضاء حاجته , وبينما يزوره ابنه هو وبعض اقربائه , إذا بالاب لا يكاد يعرفه , وإذا به يتبول أثناء اللقاء , فيشمئز الابن , ويصيبه الحرج , وينادي على الممرضة , ويرحل مغضبا !!

هناك ولاشك  أيضا مشاهد إيجابية , لايمكن أن نغفلها , وهي تدور من حولنا , وهي تكاد تكون قاصرة على المتدينين , واصحاب القلوب الطيبة , والمبادىء الإيجابية من الأبناء , الذين يقومون برعاية والديهم في كبرهم , ويقدمون نماذج جيدة في البذل والعطاء لهم , مما يعطينا الأمل في بقاء هذا النوع من البر , وعدم اغترابه مع كل مااغترب !

إنهما هما اللذان حملانك صغيرا , وتأوها لأنينك , وخافا لتأوهك , وارتعدا لغيابك , ولم تنم جفونهما حرصا عليك , واشتد سعيهما لكفالتك والانفاق عليك , فطارت نفوسها فرحا ببسمتك الأولى واشتدت قلوبهما فرحا بحروفك الاولى وطالت اعناقهما الثريا بنجاحاتك وانجازاتك كأنما هي لهما بذاتهما ..

هذان هما اليوم ينتظرانك لترد الجميل , وتزيد عليه , ينتظرانك لترد الاحسان احسانا , وتعيد الوفاء كرما وشكرانا ..

الحقيقة انه اختبار شديد الصعوبة , يرسب فيه الكثيرون , ممن تضيق صدورهم بآبائهم وأمهاتهم , من كثرة مطالبهما , أو شدة معاناتهما في أمراضهما , فيضجرون تارة , ويبتعدون تارة , حتى إن البعض قد يتمنى رحيل الكريمين – اللذين ربياه وعلماه ورعياه – عن الدنيا ليستريح من عناء رعايتهما وثقيل برهما !

ان هذه المهمة الكبيرة والتبعة الثقيلة لتحتاج منا عدة أمور لإنجاحها والفوز بعطائها والحصول على ثوابها الكبير الجزيل :

واول ما تحتاجه  هذه المهمة هو الفهم الصحيح للبر , فليس البر مجرد كلمات تقال او اعمال مفردات تعمل , بل إنه قيمة يجب أن ترسخ في قلب وعقل الابناء , ومبدأ يجب أن يغرس في صدورهم , فيستمر عبر الايام بغير انقطاع , ويزيد قدره كلما زادت حاجتهما له .

كذلك فإن البر ينبغي ان يكون شاملا لمناحي الحياة وكل الأعمال :

فأوله بر القلب لهما بصادق حبهما , وعميق الامنيات لهما بكل خير وصحة ونفع

وثانيه بر المال بالانفاق عليهما بكل ما يقدر عليه من كرم وسخاء , فهما أحق بالبر من أي أحد , وهما أحق بالمال عند حاجتهما من اي أحد , والبر بالمال دليل وبرهان على صدق البر و واستمراره مع سخائه دليل حسن على حسن العزم وطيب المبتغى لهما .

ثم بر الجهد , من السهر  , والصبر عليهما , مهما غضبا وتاثرا وتعصبا وتألما , بل عليك أن تسعى جاهدا لتخفيف آلامهما قدرما تستطيع و وأن تربت بيديك حانيتين على أكتافهما .

ثم بر الكلمة , وهو ايسر البر, لكن اثره كبير , فالكلمة الطيبة لهما صدقة والبسمة الطيبة لهما صدقة , والوعد الصادق لهما صدقة .

إنك في حاجة ماسة ايها المؤمن للقرب من ربك سبحانه ولدعائه ورجائه أن ييسر عليك برهما وأن يعينك على ذلك البر ليكون على أفضل وجه وأكمله , وهو سبحانه يعين على الصالحات وييسرها ” والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا “.

إنه دين عائد إليك عن قريب , فإياك أن تفرط أو تستهين , فلئن قمت بحقهما عليك الآن , فإن غدا ينتظرك ليقوم أبناؤك بحقك عليهم , وإن فرطت وتهاونت وانشغلت , وآثرت حياتك الدنيا بما فيها , وأهملت أبويك , فلبئس غد ينتظرك عند كبرك , ثم في نهاية عمرك , وسينتظرك كثير الندم مهما كان بين يديك من مال او سلطان , وساعتها لن ينفعك الندم !

المصدر: موقع المسلم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى