مقالاتمقالات مختارة

الوظيفة الجهادية للفكر المقاصدي

بقلم د. وصفي أبو زيد

لمقاصد الشريعة خصوصا والفكر المقاصدي عموما وظائف كثيرة، هذه الوظائف والفوائد تتوزع على المجالات التي تُعمل المقاصد فيها عملَها؛ فهي أهم ما يهتم به الفقيه والمفتي والمجتهد، إذ لا يمكن للفقيه أو المفتي أن ينظر في النصوص أو يفهمها أو في الوقائع والمستجدات والنوازل، ولا أن يُقنّن الأحكام، إلا في ضوء المقاصد، فالمظلة المقاصدية هي الضمان الأكبر والأمان الأهم الذي يحمي المجتهد والمفتي –إذا احتمى به– من الانحراف، أو الوقوع في الخطأ، كما أنها تقي العالم الفقيه والأصولي من الوقوع في البدع، وبها يتجدد الفقه ويتطور، والإمام الشاطبي يرى أن أسباب الابتداع مردها إلى الجهل بمقاصد الشريعة، والعلامة محمد الطاهر ابن عاشور يرى أن جمود الفقه مرده إلى إهمال الفقهاء للمقاصد.

وللمقاصد وظائف في العلوم الإسلامية (القرآن وعلومه، والسنة وعلومها، والفقه وأصوله)، ولها وظائف وفوائد في العلوم الإنسانية (علوم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والعمران وغير ذلك)، حيث تقوم بضبطها وتوجيهها وترشيدها وتجديدها وتطويرها، وتقويم حالها، وتقييم مسيرتها، وتنتهج بها منهج النفع والتأثير والحيوية والتجدد.

لكن هناك وظيفة أخرى تقوم بها المقاصد والفكر المقاصدي، وهي الوظيفة الجهادية، تلك الوظيفة التي تشمل الجهاد بمعناه الواسع، وتشمل الجهاد بمعناه القتالي كذلك.

لقد ارتبط الفكر المقاصدي بفترات تجديد وتطوير، وبأزمنة الرغبة في رد الشبهات والحفاظ على الهوية، وبعصور احتلال وقتال ومقاومة، وفي كل هذه العصور والأزمنة كان الفقهاء وأعلام الأمة يستنجدون بفكر المقاصد وفكرها، ويفكرون في ظلالها؛ حيث لا تغني النصوص الجزئية وحدها، فيستلهمون أفق المقاصد الرحيب الذي يُسعف الفقيه والمفتي حين لا يسعفه التفكير الجزئي ولا النص الجزئي وحده دون استدعاء أنواع الفقه الحضاري من فقه للواقع وموازنات وأولويات ومآلات، وعلى رأس هذه الأنواع فقه المقاصد الذي يُعدّ أبًا لكل هذه الألوان من الفقه.

ارتبط فقه المقاصد بعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي استدعى هذا الفكر حين اتسعت رقعة الدولة، وترامت مساحاتها بالفتوحات، فلم يكن أمامه بد في ملء هذه الفراغات وسد هذه الحاجات من أن يحتمي بالفقه المصلحي المقاصدي المستثمَر من النصوص الشرعية عبر مسالكه المقررة عند الأصوليين.

ارتبط بمجدد من أعظم مجددي الإسلام وهو عمر بن عبد العزيز، حينما استنجد بهذا الفقه الحضاري الذي جمع به الأمة، ونفى به الفرقة، وجدد به الملة والأمة.

ارتبط بالإمام الشافعي الذي جمع به قواعد الاستنباط، ووضع في ضوئه أصولا للفقه والنظر الشرعي، وأعمله في الأمثلة التطبيقية التي أوردها في كتابه الرائد (الرسالة)، وحفظ فهم النص الشرعي من الغلو أو التقصير، فكما حفظ الله تعالى النص الشرعي من التحريف والتبديل، فكذلك حفظ طرق ومناهج فهم النص الشرعي عبر أصول الفقه ومقاصد الشريعة.

كانت الوظيفة الجهادية للمقاصد ظاهرة كل الظهور وواضحة كل الوضوح في سيرة سلطان العلماء العز بن عبد السلام ومسيرته، سواء مسيرته الحركية والدعوية أم مسيرته العلمية والتصنيفية ..

أما مسيرته الحركية والدعوية –ولا يمكن فهم علم العالم وفكره إلا بالوقوف على سياق عصره السياسي والاجتماعي- فقد جاء في عصر اضطرابات سياسية، وعصر تغيير الولاء للأمة وتحول بعض حكام عصره للبراء من المؤمنين وولاية أعداء الدين، فوقف العز بن عبد السلام مستلهما هذا الفقه العظيم، وقال مقولاته التي سجلها التاريخ ضد هذا التغير الخطير والشر المستطير في الولاء العقدي للأمة، ومنع الدعاء لهؤلاء الحكام، وأفتى بحرمة تصرفاتهم، وعدم جواز طاعتهم ولا الدخول في سلطانهم، كما أفتى ضد حكام مصر الذين كانوا يريدون فرض مكوس على الشعب وهم يتمتعون بالذهب والمال، فمنع فرض هذه الضرائب قبل أن يتساوى الحكام مع المحكومين، ولاقى في سبيل شجاعته وجُرأته في الحق ما لاقى: نفيًا، وتضييقا، وعداء.

وأما مسيرته العلمية فقد صنف كتابه (القواعد الكبرى) الذي يُعدّ كتابا فريدا في بابه، فلم يؤلف قبله مثله، ولا بعده مثله، وهو بهذا الكتاب وغيره يعدّ –في نظري– إمام المقاصد الأول، وهذا الكتاب أعتدّه كتاب العصر للمختصين بعلوم الشريعة وعلوم السياسة وعلوم الإنسان على السواء، وتلميذه القرافي حمل هذا الفكر من بعده، وأعمله في إنتاجه الفقهي والأصولي.

اتضح الاستنجاد بالفكر المقاصدي في المسيرة العلمية والدعوية لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الأنجب ابن قيم الجوزية، اللذين كان عصرهما عصر احتلال واستلاب للأمة من الصليبيين، واستَخدم ابن تيمية فقه الموازنات وعقد له بابا في مجموع الفتاوى أسماه (تعارض الحسنات والسئيات)، وتلمس روح هذا الفقه في مجمل فتاويه وآرائه، وهذه النزعة المصلحية المقاصدية بارزة بشدة في فقه تلميذه ابن القيم الذي اهتم بشكل بالغ بالبحث عن حكمة التشريع وفلسفته فيما يتناوله من قضايا ويطرحه من أفكار.

واعتمد هذا الفكرَ الروادُ من المصلحين، والربانيين من العلماء المجاهدين حتى جاء ما سمي “عصر النهضة” العلمية والفكرية، فأحيا هذا الفكر الإمامُ المجدد محمد عبده –الذي كان في عصر الاستعمار- والذي نفض التراب عن كتاب (الموافقات) للشاطبي -باني عمارة المقاصد- وأمر تلاميذه أن يهتموا به: مُدارسة وتدريسا وتحقيقا ونشرًا، فقام بذلك تلامذته: محمد رشيد رضا، ومحمد الخضري، والطاهر ابن عاشور، وغيرهم، وقد كان هؤلاء التلاميذ مقاصديين في فكرهم وفي مسيرتهم الدعوية، والمُطالِع لتفسير المنار وفكر رشيد رضا عامة يجد هذا المنحى أضوأ من الشمس، وأبين من فلق الصبح، وأوضح من غَرَّة النهار.. وتجلت الوظيفة الجهادية للفكر المقاصدي لدى محمد عبده في الدعوة إلى التجديد والاجتهاد، والثورة على التقليد والجمود، ودعا إلى تطوير مناهج الأزهر وطرق التدريس فيه.

أما العلامة محمد الطاهر ابن عاشور الذي ألف كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية) فقد كانت مسيرته الدعوية والعلمية متشربة لهذا الفكر ومتشبعة به، فهو الذي تصدى للحبيب بورقيبه حين أراد منع الصيام، وقال كلمته الشهيرة (صدق الله وكذب بورقيبه)، وفيما ألفه من كتب وطرحه من رؤًى في كتابه هذا وفي تفسيره وفي كتبه الأخرى يتضح اعتماده هذا الفكر منهجا ومنطلقا اتضاحا ملحوظا، حتى كان أول من دعا إلى تأسيس (علم مقاصد الشريعة الإسلامية).

وجاء بعده علال الفاسي، ذلك المفكر السياسي المجاهد، الذي واكب عصر استعمار المغرب، وكان سياسيا محنكا، ومفكرا مفلقا، وكاتبا مرموقا، فوظف هذا الفكر في مسيرته السياسية، وأعمله في مسيرته العلمية والفكرية، حتى ألف كتابه المشهور: (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها) الذي يمثل مع كتاب ابن عاشور مرحلة من مراحل التحول في الفكر المقاصدي ومقاصد الشريعة.

ثم انطلقت شرارة مقاصد الشريعة والفكر المقاصدي قبل أربعة عقود من اليوم في صورة رسائل علمية، ندوات ومؤتمرات ومناهج ومساقات وكتب ومؤلفات ومراكز وملتقيات وبرامج ومشروعات، حتى أضحى علما مستقلا له تاريخه ونشأته، وقواعده وفوائده، ومسالكه وضوابطه، وأعلامه ومصطلحاته وآثاره.

وقد كان من فضل الله –تعالى- أن تنشأ هذه الصحوة المقاصدية في ظل ما تمر به الأمة وقبل أن تبدأ هذا التحول الكبير –ليس الأمة فقط بل العالم كله– الذي يشهد ظواهر سياسية واجتماعية وفكرية كبرى، واحتلالات واقتتال وجهاد ومقاومة، ومثل هذه التحولات لا يليق بها إلا الاستنجاد بهذا الفقه الحضاري، وفقه المقاصد في القلب منه، فهو الفقه الذي يضبط الموازنات، ويوجه المآلات، ويقيّم التحالفات التي تتفق مع مقاصد الشرع وتحقق مصالح الناس، فهذه الفترة التي نحياها لا يمكن الاكتفاء فيها بالتفكير الجزئي الضيق، ولكن لابد من الرجوع والاحتماء بفقه المقاصد وما يتفرع عنه من أنواع في الفقه، فهذا الذي يُستلهم في المقاومة والتحرير والجهاد الشامل، وفي القلب منه الجهاد العسكري، لتحرير الأوطان وحفظ الأعراض واستبقاء الأرواح ..

فلتكن صحوة مقاصدية تقوم بوظيفتها في هذا العصر الذي يشبه عصورا كثيرة من قبل استُدعي فيها هذا الفكر: حفظا لهوية الأمة، ودَفْعا للشبهات عن العقيدة والشريعة، ومقاومة للغزاة المحتلين، وتمسكا بالجهاد للتحرير والتمكين، وهذا وحده هو القمين ببناء حضارة حقيقية تحقق للمسلمين الاتساق مع الشرع الشريف، وتضعهم في مكان الذُّؤابة من العالمين.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى