إعداد : ناصر بن سعيد السيف
تشكل الثقافة ضمن النسق الاجتماعي العام نسقاً فرعياً متميزاً ومستقلاً، لكنه يتفاعل مع بقية الأنساق الفرعية الأخرى ويتطور معها وبها. وتقوم الثقافة بتكوين جملة الطرائق والمعايير التي تحكم رؤية الإنسان للواقع؛ لذلك فإن الثقافة هي مجموع القيم والقواعد والأعراف والتقاليد والخطط التي تبدع وتنظم الدلالات العقلية والروحية والحسية، وتعمل على الحفاظ على توازن النسق الاجتماعي واستقراره ووحدته وتوحيد الأنساق الفرعية للنسق الاجتماعي، عن طريق توحيد الأنماط العقلية التي تحكمها. فالثقافة تغذي الأنساق الفرعية للنسق الاجتماعي بقيم مماثلة، فتخلق نسيجاً اجتماعياً واحداً قادراً على إعادة إنتاج نفسه. لذلك فإن الثقافة في الحقيقة ليست إلا المجتمع نفسه وقد أصبح مظهراً للوعي أو وعياً. وهذا الوعي هو في ذات الوقت وعي بالذات.
ومسألة الهُوية توحي -للوهلة الأولى- إلى المسألة الأوسع، وهي مسألة الهُوية الاجتماعية؛ إذ لا يمكننا التطرق إلى مفهوم الهُوية إلا إذا حددنا بعدها الاجتماعي. وعليه تعبر الهُوية الاجتماعية عن محصلة مختلف التفاعلات المتبادلة بين الفرد مع محيطه الاجتماعي القريب والبعيد. والهُوية الاجتماعية للفرد تتميز بمجموع انتماءاته في المنظومة الاجتماعية، كالانتماء إلى طبقة جنسية أو عمرية أو اجتماعية أو مفاهيمية. وهي تتيح للفرد التعرف على نفسه في المنظومة الاجتماعية، وتمكن المجتمع من التعرف عليه. ولكن الهُوية الاجتماعية لا ترتبط بالأفراد فحسب، فكل جماعة تتمتع بهوية تتعلق بتعريفها الاجتماعي، وهو تعريف يسمح بتحديد موقعها في المجموع الاجتماعي.[1]
مفهوم الهوية والثقافة:
مفهوم الهوية:
يُعرِّف المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية “الهوية” فلسفياً بأنها: “حقيقة الشئ أو الشخص التي تميزه عن غيره”.[2]
وأما في اللغة الإنجليزية فتعني “الهوية”: “تماثل المقومات أو الصفات الأساسية في حالات مختلفة وظروف متباينة، وبذلك تشير إلي الشكل التجميعي أو الكل المركب لمجموعة من الصفات التي تكون الحقيقة الموضوعية لشيء ما، والتي بواسطتها يمكن معرفة هذا الشيء وغيره على وجه التحديد”.[3]
وآراء المفكرين حول مفهوم الهوية لا تختلف كثيراً، وإن كانت تتصف بأنها أكثر تحديداً؛ لأنها ترتبط بالبُعد الثقافي أو الاجتماعي للمصطلح. فقد عرَّفها سعيد إسماعيل علي بأنها: “جملة المعالم المميزة للشيء التي تجعله هو هو، بحيث لا تخطئ في تمييزه عن غيره من الأشياء، ولكل إنسان شخصيته المميزة له. فله نسقه القيمي ومعتقداته وعاداته السلوكية وميوله واتجاهاته وثقافته. وهكذا الشأن بالنسبة للأمم والشعوب”.[4]
وأشار محمد عمارة: “أن هوية الشئ ثوابته التي لا تتجدد ولا تتغير، وتتجلي وتفصح عن ذاتها دون أن تخلي مكانتها لنقيضها طالما بقيت الذات على قيد الحياة. فهي كالبصمة بالنسبة للإنسان، يتميز بها عن غيره وتتجدد فاعليتها، ويتجلى وجهها كلما أزيلت من فوقها طوارئ الطمس. إنها الشفرة التي يمكن للفرد عن طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، والتي عن طريقها يتعرف عليه الآخرون باعتباره منتمياً لتلك الجماعة”.[5]
ويرى محمود أمين: “أن الهوية ليست أحادية البنية، أي لا تتشكل من عنصر واحد، سواء كان الدين أو اللغة أو العرق أو الثقافة أو الوجدان أو الأخلاق، أو الخبرة الذاتية أو العلمية،.. وحدها، وإنمـا هي محصلة تفاعل هذه العناصر كلها”.[6]
وأشار محمد إبراهيم عيد إل أن “الهوية: مفهوم اجتماعي نفسي يشير إلى كيفية إدراك شعب ما لذاته، وكيفية تمايزه عن الآخرين، وهي تستند إلى مسلمات ثقافية عامة، مرتبطة تاريخيًا بقيمة اجتماعية وسياسية واقتصادية للمجتمع”.[7]
وعرًّفها إسماعيل الفقي بـ: “أنها مجموعة من السمات الثقافية التي تتصف بها جماعة من الناس في فترة زمنية معينة، والتي تولد الإحساس لدى الأفراد بالانتماء لشعب معين، والارتباط بوطن معين، والتعبير عن مشاعر الاعتزاز والفخر بالشعب الذي ينتمي إليه هؤلاء الأفراد”.[8]
وأوضح شهيب عادل أن الهُوية الاجتماعية: “تحدد هوية المجموعة -المجموعة تضم أعضاء متشابهين فيما بينهم بشكل من الأشكال، في هذا المنظور تبرز الهُوية الثقافية باعتبارها صيغة تحديد فئوي للتمييز بين نحن وهم، وهو تمييز قائم على الاختلاف الثقافي”.[9]
ومن المفاهيم التي قدمت للهوية الثقافية ما تبنته منظمة اليونسكو: “أن الهوية الثقافية تعني أولاً وقبل كل شيء أننا أفراد ننتمي إلى جماعة لغوية محلية أو إقليمية أو وطنية، بما لها من قيم أخلاقية وجمالية تميزها؛ ويتضمن ذلك أيضًا الأسلوب الذي نستوعب به تاريخ الجماعة، وتقاليدها وعاداتها وأسلوب حياتها، وإحساسنا بالخضوع له والمشاركة فيه، أو تشكيل قدر مشترك منه، وتعني الطريقة التي تظهر فيها أنفسنا في ذات كلية، وتعد بالنسبة لكل فرد منا نوعًا من المعادلة الأساسية التي تقرر -بطريقة إيجابية أو سلبية- الطريقة التي ننتسب بها إلى جماعتنا والعالم بصفة عامة”.[10]
مفهوم الثقافة:
مفهوم (الثقافة) من المفاهيم الملتبسة في كل اللغات، لأنه يراد التعبير بكلمة واحدة عن مضمون شديد التركيب والتعقيد والتنوع والعمق والاتساع. ويضاعف الالتباس أن علم الثقافة والأنثروبولوجيا الثقافية وعلم اجتماع المعرفة ما زالت تُدرس على نطاق ضيق كتخصصات فردية، ولم تصبح من العلوم التي يقرأها كل الدارسين، كالفيزياء والجغرافيا والكيمياء والتاريخ، لذلك ظل معظم الناس لا يعرفون الحقائق الهامة التي توصلت إليها العلوم الإنسانية.[11]
والثقافة في اللغة العربية تطلق على معانٍ عدة, من أبرزها قول ابن منظور: “الحَذَقُ والفِهمُ وسُرعَةُ التَّعلُّم”[12]. ويقول فريد وجدي: “ثقف يثقف ثقافة: فطن وحذق, وثقف العلم في أسرع مدة أي: أسرع أخذه, وثقفه يثقفه ثقفاً: غلبه في الحذق, والثقيف: الحاذق الفطن”. والقواميس الحديثة تقول: “ثقف ثقافة: صار حاذقاً خفيفاً, وثقف الكلام فهمه بسرعة”. وفي هذه النصوص من التشابه ما يدعونا إلى أن نعدها نسخاً مكررة نقل بعضها من بعض.[13]
وأبرز التعريفات الغربية للثقافة الذي تردد صداه لدى الغربيين، ثم لدى العرب كثيراً، هو تعريف “إدوارد تايلر”، عام 1871م، في كتابه (الثقافة البدائية)، والذي يقول فيه: “ذلك الكل المركب -بعض الترجمات تقول المعقد- الذي يضم المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والتقاليد وكل العادات والقدرات التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع”. وفي هذا التعريف عناصر مهمة, هي:
أن قضايا الثقافة هي القضايا ذات البُعد الإنساني -لا المادي: عقائدا, وقيما, وفنونا, ونظما, وأعرافا.
أن هذه القضايا تتمثل في صورة بناء متكامل، وليست جزئيات منفصلة عن بعضها.
أنها ليست تميزاً فردياً لشخص، وإنما هي اجتماعية؛ فالشخص يعيشها في ظل مجتمع أو أمة تعيشها كذلك.
أنها ليست معارف نظرية فلسفية, أو فكراً مجرداً, ولكنها حياة اجتماعية, وواقع فكري وسلوكي يتحرك به الناس.
أنها بمجموعها مميزة لأهل ذلك المجتمع, أو لتلك الأمة، عن مجتمعات وأمم أخرى. وهذا هو الواقع. فإن التمايز بين الأمم إنما هو بهذه القضايا: العقائد, والقيم, والنظم, والأعراف؛ أي: الثقافة.
وهناك تعريفات كثيرة للثقافة لكن هذا أشهرها. ثم إنها تكاد تتفق على مضمون ما ذكر في التعريفات السابقة.[14]
ومن الخصائص الرئيسية لمفهوم الثقافة:
أنها من اكتشاف الإنسان، باعتبارها مكتسبة وليست وراثية أو غريزية. وبالاستناد إلى ذلك لا يمكن أن نجد أية ثقافة لدى الحيوان لاعتماده على الغريزة. إذن الثقافة إنسانية الملامح، ولا مجال لقيام أيةِ ثقافةٍ دون الوجود الإنساني الذي ينمي هذه الثقافة ويكتسبها عن الغير، من خلال تطور حياته الاجتماعية فناً وفكراً وسلوكاً .
الثقافة تنتقل من جيل لآخر، من خلال العادات والتقاليد والقوانين والأعراف، وعملية النقل هذه تتم من خلال التعلم، مع إضافة كل جيل لما يكتسبه مما يطرأ على حياته من قيم ومبادئ وأفكار وسلوكيات جديدة نتيجة لتغير الظروف.
الثقافة قابلة للتعديل والتغير من جيل لآخر، حسب الظروف الخاصة بكل مرحلة، ويمكن للأجيال الجديدة أن تضيف قيماً ومفاهيم جديدة لم تكن موجودة لدى الأجيال السابقة.[15]
العلاقة بين الهوية والثقافة:
ثمة علاقة وثيقة بين الهوية والثقافة, بحيث يتعذر الفصل بينهما؛ إذ أنه ما من هوية إلا وتختزل ثقافة. وقد تتعدد الثقافات في الهوية الواحدة, كما أنه قد تتنوع الهويات في الثقافة الواحدة. وذلك ما يعبَّر عنه بالتنوع في إطار الوحدة. فقد تنتمي هوية شعب من الشعوب إلى ثقافات متعددة, تمتزج عناصرها, وتتلاقح مكوناتها, فتتبلور في هوية واحدة. على سبيل المثال فإن هوية الأمة الإسلامية تتشكل من ثقافات الشعوب التي دخلها الإسلام، سواء اعتنقته أو بقيت على عقائدها التي كانت تؤمن بها. فهذه الثقافات التي امتزجت بالثقافة العربية الإسلامية، وتلاقحت معها، وانصرهت فيها باتت جماع هويات الشعوب التي انضوت تحت لواء الحضارة العربية الإسلامية, وهي بذلك هوية إنسانية، متفتحة, وغير منغلقة.[16]
وعلاقة الهُوية بالثقافة تعني علاقة الذات بالإنتاج الثقافي. ولا شك أن أي إنتاج ثقافي لا يتم في غياب ذات مفكرة، دون الخوض في الجدال الذي يذهب إلى أسبقية الذات على موضوع الاتجاه العقلاني المثالي، أو الذي يجعل الموضوع أسبق من الذات، وأن كل ما في الذهن هو نتيجة ما تحمله الحواس وتخطه على تلك الصفحة “ذهن الإنسان”، كما يذهب “لوك”، والاتجاه التجريبي بشكل عام.[17]
حدود الهوية:
يرى “بارث” أن الأهم في عملية اكتساب الهوية هو إرادة وضع حد بين “هم” و”نحن”؛ وبالتالي إقامة ما يسميه بـ”الحد” والحفاظ عليه. وبشكل أدق فإنَّ “الحد” في الموضوع ينجم عن اتفاق بين ذلك الحد الذي تزعم الجماعة بأنها وضعته لنفسها، وبين الحد الذي يريد الآخرون وضعه لها. طبعاً الحد المقصود هنا هو الحد الاجتماعي الرمزي, وإن ما يفصل بين مجموعتين عرقيتين- ثقافيتين ليس الاختلاف الثقافي كما يتصور الثقافيون خطأ، إذ يمكن للجماعة أن تعمل تماماً وفي كنفها شيء من التعددية الثقافية.
ويعود السبب في هذا الفصل، أي وضع “الحد”، إلى إرادة الجماعة في التميز واستخدامها لبعض السمات الثقافية كمحددات لهويتها النوعية. ومن شأن الجماعات القريبة من بعضها ثقافياً أن تعدَّ نفسها غريبة تماماً عن بعضها بعض، بل ومتعادية حينما تختلف حول عنصر منعزل في المجموعة الثقافية.[18]
إن تحليل “بارث” يتيح التخلص من الخلط الشائع بين “الثقافة” و”الهوية”. فالتطبع بطابع ثقافة معينة لا يقتضي امتلاك هوية خاصة بشكل آلي، فالهوية العرقية-الثقافية تستخدم الثقافة لكنها نادراَ ما تستخدم الثقافة كلها. ويمكن للثقافة نفسها أن تجيَّر بشكل مختلف، أي متعارض، في الاستراتيجيات المختلفة لاكتساب الهوية، على عكس قناعة واسعة الانتشار. فإن العلاقات التي تدوم فترة طويلة بين المجموعات العرقية لا تؤدي بالضرورة إلى الإلغاء المتدرج للاختلافات الثقافية؛ بل غالباً ما تنتظم هذه العلاقات بشكل تحافظ معه على الاختلاف الثقافي، بل أحياناً تزيد هذا الاختلاف عن طريق لعبة الدفاع “الرمزي” عن حدود الهوية, ولكن هذا لا يعني أن “الحدود” لا تتبدل.[19]
ويعتبر بارث أن الحد يشكل فرزاً اجتماعياً يمكن تجديده باستمرار من خلال التبادلات, فكل تغير يصيب الحالة الاقتصادية أو السياسية من شأنه التسبب في انزياحات الحدود. ودراسة هذه الانزياحات ضرورية إذا رمنا تفسير تنوعات الهوية. وبالتالي فإن تحليل الهوية لا يمكن أن يكتفي بمقاربة تزامنية، بل عليه أيضاً أن يخضع لمقاربة تطورية. وعليه ليس هناك هوية ثقافية بذاتها لها تعريف ثابت.
وإذا اتفقنا على أن الهوية هي بناء اجتماعي، فإن السؤال الملائم الوحيد الذي يجب طرحه هو: “كيف؟ ولماذا؟ وبواسطة من؟ في وقت ما وفي سياق معين حُصِّلَت واحتفظ بها، أو أصبحت عرضة للنقاش والجدل، إحدى الهويات الخاصة”.[20]
[1] انظر: الثقافة والهوية: إشكالية المفاهيم والعلاقة, شهيب عادل: ص2.
[2] انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
[3] انظر: الثقافة العربية الإسلامية بين التأليف والتدريس، رشدي أحمد طعيمة: ص35.
[4] انظر: التربية الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين, سعيد إسماعيل: ص95.
[5] انظر: مخاطر العولمة علي الهوية الثقافية، محمد عمارة: ص6.
[6] انظر: الهوية مفهوم في طور التشكيل، محمود أمين: ص376.
[7] انظر: الهوية الثقافية العربية في عالم متغير, محمد إبراهيم عيد: ص110.
[8] انظر: مفهوم العولمة وعلاقته بالهوية, إسماعيل الفقي: ص205.
[9] انظر: الثقافة والهوية: إشكالية المفاهيم والعلاقة, شهيب عادل: ص2.
[10] انظر: دور التربية في مواجهة تداعيات العولمة على الهوية الثقافية، حمدي حسن المحروقي: ص164.
[11] انظر: الثقافة والهوية، مرجع سابق: ص4.
[12] انظر: مادة (علم) في لسان العرب, ابن منظور.
[13] انظر: مشكلة الثقافة, مالك بن نبي: ص19.
[14] انظر: المثقف العربي بين العصرانية والإسلامية ومقومات الفاعلية الثقافية للمثقف المسلم, عبدالرحمن الزنيدي: ص14.
[15] انظر: الثقافة والهوية، مرجع سابق: ص8.
[16] انظر: الحفاظ على الهوية والثقافة الإسلامية, عبدالعزيز التويجري: ص9، بتصرف.
[17] انظر: الثقافة والهوية, مرجع سابق: ص6.
[18] انظر: مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية, دوني كوش, ترجمة قاسم المقداد: ص110.
[19] انظر: المرجع السابق: ص111.
[20] المرجع السابق: ص112.
*المصدر : مركز التأصيل للدراسات والبحوث