الهدي النبوي في حسن المعاملة مع غير المسلمين
بقلم د. رشيد عبد القادر لخضر
اتصف خير البشرية بشمائل وخلال عديدة بلغت الكمال البشري، فكان أن اجتمعت فيه ما تفرَّق من وجوه المحاسن والفضائل في الخلق أجمعين، وتكفيه شهادة رب العالمين إلى يوم الدين؛ إذ يقول: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وقال سبحانه: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
ولما كان دين الإسلام دينًا عالميًّا للناس جميعًا، كذلك كانت بعثة خير من مشى على الأرض إلى البشرية كافة، فلا غرابة أن تكون الرحمة والرأفة بالغير من أهم سمات الكمال التي تحلى بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: “أنا نبي الرحمة”[1].
وتبدو تجليات السماحة والرحمة والرأفة وحسن المعاملة مع غير المسلمين – في سيرته صلوات الله عليه لائحة واضحة، وقد غلط بعض من فهِم أن علاقة المسلمين بغيرهم مبنية على العنف والغلظة والشدة، فأخذ يبيح لنفسه القتل والتعنيف والقسوة بادعاء أن هؤلاء كفار مخالفون لنا في العقيدة، فوجب النيل منهم والتنكيل بهم في مخالفة صريحة للهدي النبوي في معاملة الكافرين.
لقد أمر الله تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالعدل بين الناس جميعًا دون تمييز بين أجناسهم أو دينهم أو حسبهم، جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58]، وقد ورد أكثر من حديث تشديد محمد صلى الله عليه وسلم على أصحابه على حق المعاهد، وهو مَن ارتبط مع المسلمين بمعاهدة، فمنها قوله: “مَن قتل نفسًا معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا”؛ (رواه البخاري)، كما نهى محمد صلى الله عليه وسلم عن تعذيب أي نفس ولم يشترط فيها الإسلام؛ فقال: “إن الله عز وجل يُعذِّب الذين يعذبون الناس في الدنيا”[2]، لذلك استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يضمن لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي الأمن والأمان والسلام.
كما عرف عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو إلى حسن جوار الكفار وعدم التعرض لأذيَّتهم، وضرب أمثلة رائعة في السماحة وحسن المعاملة، وليس أدلُّ على ذلك من قصة ثقيف، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب “ميقات أهل نجد”، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، ولقد أرسل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين “الجبلين”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا[3].
كما تجلَّت رحمته صلى الله عليه وسلم بهم في يوم فتح مكة، وتمكين الله تعالى له، حينما تجاوز عن مخالفيه ممن ناصبوا له العداء، فقد كانت سماحته غاية ما يمكن أن يصل إليه صفح البشر وعفوهم، فكان موقفه ممن كانوا حربًا على الدعوة، ولم يضعوا سيوفهم بعد عن حربها أن قال لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وأعلنها صريحة واضحة: “اليوم يوم المرحمة”.
وتبلغ السماحة مبلغها، ويجسد الصبر على أذى غير المسلمين من خلال عدة مواقف تعرض فيها الرسول صلى الله عليه وسلم لأذى لحق نفسه؛ كوضع التراب على رأسه، وإلقاء فضلات الإبل على ظهره وهو ساجد لربه، بل إنه صبر صلى الله عليه وسلم على أذى أقرب الناس إليه نسبًا وجوارًا، وهما عمه أبو لهب وزوجه، فعمه كان يمشي خلفه وهو يطوف على الناس في المواسم، يعرض عليهم دعوته؛ ليصدَّ الناس عنه، وزوجته تحمل الشوك والأذى وتضعه في طريقه صلى الله عليه وسلم، كل ذلك قابله الرسول صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح الجميل، والإعراض عن الجاهلين، والطَّمع في هدايتهم.
لذلك كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم دعوة غير المسلمين بالرفق واللين، وهو ما ظهر في كتبه إليهم؛ حيث تضمنت هذه الكتب دعوتهم إلى الإسلام بألطف أسلوب وأبلغ عبارة، فكانت دعوة الكافر بحكمة ورفق من أعظم القربات إلى الله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لَمَّا بعثه إلى خيبر، وأمره أن يدعو إلى الإسلام، قال: “فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا خير لك من حُمر النَّعم”[4]، وكان صلى الله عليه وسلم يغشى مخالفيه في دورهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: انطلقوا إلى يهود، فخرجنا معه حتى جئناهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم، فقال: (يا معشر يهود، أسلِموا تسلَموا)، فقالوا: قد بلَّغت يا أبا القاسم؛ الحديث[5].
كما أن رفقه وسماحته ومعاملته الحسنة لغير المسلمين، ظهرت حتى في ساحات القتال معهم، ومن ذلك أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل الضعفاء أو الذين لم يشاركوا في القتال من الكافرين؛ كالرهبان والنساء والشيوخ والأطفال، أو الذين أجبروا على القتال، كالفلاحين والأُجراء (العُمَّال)، ومن ذلك ما ورد عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا بعث أميرًا على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، وقال: اغزوا بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا[6]، وفي رواية أخرى: “لا تقتلوا وليدًا، فهذا عهدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وسنتِه فيكم”.
وتتعدد صور السماحة وحسن المعاملة مع غير المسلمين في الهدي النبوي، ويمكن القول: إن العدل والرفق والرحمة، كانت سمات للكمال البشري في حياته كلها، وتتضح هذه الخصال أكثر في تعامله صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين، وخاصة أن الله تعالى أمر نبيه صلوت الله عليه ومن خلاله الأمةَ جميعًا بالبر والقسط مع غير المسلمين ما سالمونا ولم يبدؤونا بقتال، قال سبحانه: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].
ومهما عدَدنا من شمائله وخصاله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع غير المسلمين، فلن نحصي ذلك عددًا، فهو قد جمع الفضائل والمحاسن كلها، وكلما تأملنا سيرته صلى الله عليه وسلم وجدنا الكمال في أخلاقه واضحًا صريحًا، وما كل ذلك إلا تصديق وتأكيد لنبوته وبعثته للناس كافة، وأن قيمه وأخلاقه وكل ما اتَّصف به من شمائل، تدل على سماحته وحسن معاملته لكل البشر مهما اختلفت أجناسهم وأعمارهم وألوانهم، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين.
[1] رواه الإمام مسلم.
[2] رواه الإمام مسلم.
[3] رواه الإمام البخاري.
[4] رواه الإمام البخاري.
[5] رواه الإمام مسلم.
[6] رواه الإمام مسلم.
(المصدر: شبكة الألوكة)