مقالاتمقالات المنتدى

الهجرة النبوية – استراتيجيات تخطيط وإعداد

الهجرة النبوية – استراتيجيات تخيط وإعداد

 

بقلم د. سلمان السعودي (خاص بالمنتدى)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين صاحب الذكرى العطرة، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرة … أما بعد .

إن الهجرة النبوية ليست حدثا عابرا، إنما هي حدث متجدد العبر والدروس رغم مرور 1443 عام عليها.

ولم تكن انعكاسات الهجرة على جزيرة العرب فقط، بل فتحت الباب أمام خروج الإسلام إلى العالم أجمع، فانطلق بها ركب أعظم الحضارات الإنسانية وذلك بتأسيس النواة الأولى في المدينة المنورة لجحافل الدعوة ليجوبوا العالم شرقا وغربا، فهي حدث غيَّرَ مجرى التاريخ، بل جعلها البعض هي الحد الفاصل بين العصور المظلمة والعصر الذهبي.

إن هذه الهجرة أسست منهجيات لسياسة المجتمع والدولة، نتناول من هذه المنهجيات استراتيجيات التخطيط والإعداد، ونذكر من هذه الاستراتيجيات:

استراتيجية التوكل على الله واستشعار معيته.

استراتيجية حسن التخطيط.

استراتيجية توزيع المهام.

استراتيجية التضحية والفداء.

استراتيجية التمويه.

الاستراتيجية الأولى: التوكل على الله واستشعار معيته:

قال تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (سورة الأنفال:30) لقد بلغ التوكل على الله تعالى في الهجرة مبلغا عظيما، كيف لا وصاحب الذكرى هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه قول الله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } (سورة الطلاق:3)  فكان صلى الله عليه وسلم خير من يتوكل على الله تعالى رغم تزاحم المصائب والاضطهاد والتنمر عليه وعلى أصحابه، ظلم العشيرة والأقربين، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان على يقين بأن الله سينجز له وعده وينصره، قال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (سورة غافر:51) فصبر واحتمل وانتظر المر الإلهي بالإذن بالهجرة إلى المدينة المنورة.

ولم يُغفِلْ النبي صلى الله عليه وسلم مع التوكل على الله تعالى الأخذ بالأسباب التي هي كِفَةُ الميزان الثانية لحسن التوكل على الله، لأنه يعلم علم اليقين عن ربه بأن التوكل دون الأخذ بالأسباب يصبح تواكلا، وهذه مذموم إلا فيما أمر الله تعالى به، فمن المواقف في رحلة الهجرة منذ بداية التفكير التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم.

 

الإسرار بخبر الهجرة:

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: لَقَلَّ يَوْمٌ كانَ يَأْتي علَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إلَّا يَأْتي فيه بَيْتَ أبِي بَكْرٍ أحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ له في الخُرُوجِ إلى المَدِينَةِ، لَمْ يَرُعْنَا إلَّا وقدْ أتَانَا ظُهْرًا، فَخُبِّرَ به أبو بَكْرٍ، فَقالَ: ما جَاءَنَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذِه السَّاعَةِ إلَّا لأمْرٍ حَدَثَ، فَلَمَّا دَخَلَ عليه قالَ لأبِي بَكْرٍ: أخْرِجْ مَن عِنْدَكَ، قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّما هُما ابْنَتَايَ -يَعْنِي عَائِشَةَ وأَسْمَاءَ- قالَ: أشَعَرْتَ أنَّه قدْ أُذِنَ لي في الخُرُوجِ؟ قالَ: الصُّحْبَةَ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: الصُّحْبَةَ، قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ عِندِي نَاقَتَيْنِ أعْدَدْتُهُما لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إحْدَاهُمَا، قالَ: قدْ أخَذْتُهَا بالثَّمَنِ. ([1])

نجده صلى الله عليه وسلم يأتي أبا بكر رضي الله عنه وقت الظهيرة حيث تنعدم الرجل في الطرقات بسبب حر الشمس، ثم يأمره أن يُخرج من عنده في البيت من أهله قائلا له: ” أخرج من عندك”، ليتم كتمان الخبر في بداية الأمر حتى عن الأهل متوكلا على الله تعالى، ومتخذا بالأسباب لعدم افشاء الأمر ويصل الخبر لقريش، ثم يخبر صلى الله عليه وسلم أبا بكر بخبر الهجرة.

ويتجلى القدر الإلهي لرسوله صلى الله عليه في الحفظ والرعاية في أبهى صوره وأروع مظاهره بع د أن حَسُنَ التوكل على الله من رسوله صلى الله عليه وسلم، ويُعَمي الله تعالى بصائر المشركين فلم يفطنوا لتهيؤة أبي بكر رضي الله عنه في إعداد الراحلتين، وهذا من رعاية الله تعالى وحفظه.

حسن التوكل على الله تعالى:

النبي صلى الله عليه وسلم يحسن التوكل على الله تعالى فيحفظه الله تعالى ويخرجه من بين خيوط المؤامرة التي أعدتها قريش والقبائل لقتله صلى الله عليه وسلم { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (سورة الأنفال:30).

الطمأنينة والسير بخطى ثابتة:

النبي صلى الله عليه وسلم يسير مع صاحبه بخطى ثابتة متزنة، ونفس مطمئنة متجها إلى الغار لنه يستشعر معية الله تعالى معه بعد أن اتخذ الأسباب مع التوكل، فمع المراقبة الشديدة لتحركاته من قبل عيون واستخبارات قريش وأعوانها، فلم ينتبه أحد إلى ما يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بفضل الله تعالى وحفظه له ورعايته.

يخرج النبي بسلام:

طلعت الشمس على فرسان قريش الأربعين الذين يحاصرون بيت النبي صلى الله عليه وسلم بانتظار خروجه ليقتلوه قتلة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، وتفطن قريش إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج من بيته وما زال نائما، فيدخلون عليه وإذ بعلي بن أبي طالب هو الذي في فراش النبي، فيطير صوابهم ويدركوا فشلهم، وهذا من حسن التوكل على الله تعالى بأن علي لن يصاب بأذى لأن الله يرعى هذه الرحلة المباركة، قال تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } (سورة الطلاق:3) فمن كان الله حسيبه فمن ذا الذي يستطيع أن يضره؟! فجن جنون قريش وأعلنوا عن جائزة قيمة لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه !!

معية الله في الغار:

وصل فرسان قريش إلى الغار والنبي صلى الله عليه وسلم يجلس وصاحبه أبو بكر بكل ثقة، فيقول أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: “لو نظر احدهم إلى قدميه لرآنا” فيرد عليه صلى الله عليه وسلم قائلا: ” ما بالك باثنين الله ثالثهما” ويتجلى هنا قول الله تعالى: { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (سورة التوبة:40)  فالله تعالى صرف بصائرهم وأبصارهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صرفهم عن الغار.

قريش ترصد مكافئة لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم:

عندما أيقنت قريش بأن محمدا أفلت من بين يديها وألبسهم ثوب الخزي والعار، رصدت مكافئة قيّمة لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتنافس في ذلك المتنافسون، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يسير في طريق الهجرة بكل ثبات وحسن توكل على الله تعالى، ويصل سراقة بن جعشم ويقترب من النبي صلى الله عليه وسلم، وتتجلى عناية الله تعالى في هذا الموقف، فساخت قائمتا فرس سراقة في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخرّ عنها ثم زجرها حتى نهضت، فلم تكد تخرج يديها حتى سطع لأثرهما غبار ارتفع في السماء مثل الدخان، فعلم سراقة أنه ممنوع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وداخله رعب عظيم، فناداهما بالأمان، فوقف عليه الصلاة والسلام ومن معه حتى وصل إليهم، فاعتذر إليه وسأله أن يستغفر له، ثم عرض عليهما الزاد والمتاع، فقالا له: لا حاجة لنا، ولكن عم عنا الخبر، فقال: كفيتم.([2])

النبي بين أنصاره في المدينة:

ويصل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو بكل ثقة من الله تعالى أنه سيجد من ينصره فيها لأنه صلى الله عليه وسلم اتخذ الأسباب في مكة بأنه بنى الساجد قبل المساجد وبني الطمأنينة في نفوس رجال باعوا أنفسهم لله تعالى.

وكل ذلك يتمثل في قول الله تعالى: { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } (سورة النمل:79)

الاستراتيجية الثانية: حسن التخطيط والإعداد:

لقد سطر النبي صلى الله عليه وسلم خير منهج في حسن التخطيط والإعداد كقائد أعلى من أجل انجاح المهام والوصول إلى تحقيق الهدف بسلام وبأقل الخسائر، وهذه هي حنكة القائد الذي أحسن التوكل على الله تعالى، ونذكر أهم المهام التي خطط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي منها:

أولا: كتم السر من إنجاح المهام:

ويتجلى ذلك بالإسرار إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه بخبر الهجرة في غير حضور أهله، حيث قال له قبل أن يخبره: ” أخرج من عندك”.

ثانيا: توقيت إعداد الرحلة:

طلب النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه بإعداد الراحلة قبل وقت طويل من الهجرة حتى لا تفطن إلى ذلك قريش وأعوانها، وكلف أبا بكر بشراء الراحلتين.

ثالثا: عدم الافصاح عن موعد الرحلة بانتظار الأمر الإلهي:

أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حبس أو فتن ، إلا علي بن أبي طالب ، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق رضي الله عنهما ، وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكون. [3]

رابعا: اختيار الصاحب المناسب:

ومن خير من أبي بكر رضي الله عنه، ذاك الرجل الرزين الهادئ الواثق الوفي الكتوم.

خامسا: صرف شكوك قريش:

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على صرف شكوك قريش عن زيارته صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في بيته، وجعلهم يألفون زيارته اليومية له، فلم يكن يخطئه يوما في أن يأتي لزيارته بعد كسر الحر، ومن ثمَّ يغير التوقيت في اللحظة الحاسمة.

سادسا: التخطيط السليم والحكيم في اتخاذ جميع الأسباب والتدابير:

لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على التخطيط السليم لنجاح المَهَمة وسد جميع الثغرات المحتملة لأداء الفشل، والوقوف على دقائق المور حتى من يمحو أثار المسير لألا تقف قريش على ادنى أثر يرشدها عن طريق سير النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه.

 

 

سابعا: القائد يَعفُّ عن أموال النَّاس:

لم يقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يركب الرَّاحلة، حتَّى أخذها بثمنها من أبي بكرٍ رضي الله عنه، كما أنه لمَّا عفا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن سراقة، وعرض عليه سراقة المساعدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لي فيها».

الاستراتيجية الثالثة: حسن توزيع المهام:

إن من فطنة القائد وحسن تخطيطه وإعداده توزيع المهام والبعد عن الوحدوية والانفراد بالقرار والعمل والتنفيذ، فإن الحمل الثقيل إذا وُزِّعَ سَهُلَ حَملَه، وتم انجازه بنجاح، وهذا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف لا وهو المكلل بعناية الله تعالى، وتتضح هذه الاستراتيجية في استخلاص الصديق للقيام ببعض المهام تحت مظلة الحس المني الذي يطمأن من جانبه على سرية مَهَمة وإنجازها على الوجه الأفضل، فنجده صلى الله عليه وسلم اتخذ من أبي بكر الصديق رضي الله عنه رفيق درب ومؤنس ومستشار في رحلته، كما انتقى صحبة تتمثل فيهم الثقة لكرم أخلاقهم وحسن وفائهم، فكان علي بن أبي طالب، وعبد الله بن أبي بكر، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم، وعامر بن فهيرة وعبد الله بن أريقط، وكانت المهام كثيرة ومتعددة أحسن النبي صلى الله عليه وسلم الاختيار لكل مَهَمة من يقوم بها على الوجه الأفضل متحرٍ في ذلك خبرة الأشخاص وأمانتهم وحسن الطاعة والانقياد، ومن هذه المهام:

  1. أمن الطريق: فلا بد من خبير للطرقات والمسالك ويكون متمرسا في المسح الجغرافي ليستطيع أن يسير بالرحلة طريق المان والسلامة، فوقع الاختيار على الخبير عبد الله بن أريقط.
  2. أمن الغذاء: فالرحلة طويلة وشاقة ولا بد من توفير الزاد لتقوية الأجساد على المسير في دروب الصحراء وبين شعب الجبال، فكانت لهذه المَهَمة ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وفي هذا يدلل النبي صلى الله عليه وسلم عن مكانة وأهمية المرأة في بناء المجتمعات، وأن الإسلام منذ اللحظة الأولى للبناء والدعوة يحترم المرأة ويشاركها في عملية البناء المجتمعي.
  3. أمن المعلومات – الاستخبارات: فلا بد من الوقوف على تحركات العدو والخصم، وجمع معلومات عن تفكيره وخططه ومؤامراته، فكان خير من يتولى هذه المَهَمة عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه، لأنه مسلم حسن اتباعه وانقياده لله ولرسوله، إلى جانب خوفه وحرصه على سلامة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسلامة أبيه رضي الله عنهما.
  4. أمن المكان – مكان السير والاختباء: من البديهي جدا أن السير يدل على المسير، وهناك خبراء أثر في قريش، ولحكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يترك أثرا لقريش يدلل على طريق سيره وهجرته لألا يلحقوا به فيمنعوه أو يفعلوا معه ما خططوا أن يفعلوا، اتخذ أعلى وسائل الحيطة والحذر في ذلك فأوكل مَهَمة اخفاء أثر السير إلى شخص لا يَشكَ به أحد من قريش، راعي أغنام، والأغنام كفيلة أن تمحو أي أثر، فكان لهذه المَهَمة عامر بن فهيرة.
  5. أمن الحقوق ورد الأمانات: وهذه كانت من أصعب المهام في رحلة الهجرة حيث أن من يقوم بهذه المَهَمة كان في نظر البشرية تقع عليه حتمية القتل، لأنه سوف ينام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة، ومن ثمَّ على هذا الشخص إرجاع الأمانات إلى أهلها.

ربما يقول قائل: كيف للنبي صلى الله عليه وسلم يرد هذه الأموال لقريش رغم حصارهم له ولصحبه، وقتلهم لبعض الصحابة وتعذيب البعض، سلبوا ونهبوا أموال الذين هاجروا ؟!

نقول وبالله التوفيق: أن رسالة الإسلام رسالة دعوة وليست رسالة انتقام، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصل رسالة إلى قريش ومن يأتي بعدهم على مر الأزمان بأن الإسلام دين أمانات وأخلاق، فلقد نقل النبي صلى الله عليه وسلم بهذا العمل الصراع القائم بين قريش والمسلمين إلى صراع ذاتي داخل نفوس معظم شباب وفرسان قريش، وقد بلغ الصراع في نفوسهم ذرته حتى وصلوا إلى قناعة أن محمد على حق وأن دين الإسلام هو الدين الحق، فتهافتت الوفود بعد ذلك من مكة إلى المدينة لإعلان إسلامهم واتباع ما جاء به نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهنا تتجلى حنكة القائد في تحييد الصراع ونقله إلى داخل الخصم، وأخطر صراع هو صراع النفس مع ذاتها.

الاستراتيجية الرابعة: التضحية والفداء:

لا بد لإنجاز المهام وخوض المعارك وتحقيق الأهداف من تضحيات، ولقد رسمت لنا الهجرة النبوية منهاجا قويما سليما للتضحيات وضوابطها، فإن التضحية الحقيقية والمحمودة ما كانت من أجل الدين، وتمثل ذلك فيما يلي:

  1. تضحية الصديق رضي الله عنه بماله ونفسه وأهله لإعلان كلمة الله تعالى والحفاظ على نبي الأمة المبعوث رحمة للعالمين.
  2. تضحية آل الصديق رضي الله عنهم حيث تعرضوا للتعذيب على يد قريش بهدف انتزاع اعترافات منهم تدلهم على نبي الله وصاحبه.
  3. مبيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة رغم علمه بأنه ربما يقضي شهيدا على يد المحاصرين من فرسان قريش والقبائل المتحالفة على الشر لدار النبي صلى الله عليه وسلم، وإعلان تأمرهم على قتله.
  4. تضحية أسماء بن أبي بكر رضي الله عنهما في تحمل العناء في حمل الزاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم رغم مشقة الطريق ووعورتها وصعود الجبل يوميا الذي يعجز الكثير من الرجال عن صعوده.
  5. تضحية عامر بن فهيرة في مهمته لمحو أثار الأقدام بواسطة أغنامه الذي لو انكشف أمره سوف يتم القضاء عليه ومصادرة أغنامه.

وكل هذا لقد تكلل بعناية الرحمن ورعايته لنبيه صلى الله عليه وسلم وفريق الهجرة.

الاستراتيجية الخامسة: استراتيجية التمويه:

جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” الحرب خدعة” [4] وخدعة العدو من أجل السلامة أو التغلب عليه أو دحره وصرفه عن جبهة القتال للنيل منه أو لتقليل خسارة المسلمين أمر واجب أن يقوم به ولي الأمر وقائد الميدان، وعليه أن يتدارس ذلك مع رجالات الدولة وأصحاب الحل والعقد، وقد تجلت هذه الاستراتيجية في عدة مواقف خلال الهجرة النبوية نذكر منها:

  1. تمويه النبي صلى الله عليه وسلم لقريش في زيارته لأبي بكر رضي الله عنه في بيته: حيث اعتادت قريش أن يروا النبي صلى الله عليه وسلم يزور أبا بكر في وقت انكسار حرارة الجو، وعندما جاء المر الإلهي بالهجرة قام بزيارته وقت الظهيرة حتى يأمن العيون التي ترصده، ولقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم متقنعا ليعمي على قريش.
  2. نومة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فراش النبي صلى الله عليه وسلم: حي أوهم القوم بأن النائم هو محمد، فجلس القوم على باب داره ينتظرون خروجه لينقضوا عليه ويضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل، ولقد حقق مبيت علي رضي الله عنه في فراش النبي صلى الله عليه وسلم هدفا أمنيا في خطة الهجرة رغم خطورة المَهَمة، فكان علي رضي الله عنه أو فدائي في الإسلام.
  3. تمويه في طريق الهجرة: المدينة المنورة تقع شمال مكة المكرمة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم اتجه في طريقه نحو الجنوب وكمن في غار ثور ثلاثة ليال، ثمَّ اتجه غربا حيث ساحل جدة ومن ثمَّ إلى الشمال متجها إلى المدينة المنورة.
  4. اتباع قواعد الحيطة والحذر: حيث كان أبو بكر رضي الله عنه شيخ معروف لدى العرب، والنبي صلى الله عليه وسلم شاب لم يعرف، فإذا سؤل أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا ؟ أجاب رضي الله عنه: هذا رجل يهديني السبيل.

الهجرة بين الأمس واليوم:

لقد ضاق بالأمس صدر كفار قريش بصمود النبي صلى الله عليه وسلم وثباته على الدعوة التي بعث بها، وإصراره على نشر دعوته، فتيقنت قريش أنه لو استمر بين أظهرهم لأقام مجتمعا صالحا نظيفا بعيدا عن القبلية الجاهلية، ينتشر فيه العدل وتحفظ فيه الحقوق، لا يأكل فيه قويهم ضعيفهم، ولا يستعبد غنيهم فقيرهم، يتساوى فيه الجميع أمام القضاء، فهذه المبادئ تقضي على تجارتهم وكبريائهم ومصالحهم التي يجنونها من فسادهم وإفسادهم.

من أجل ذلك اجتمع صناديد قريش وزعماؤها من الفجار والمفسدين في دار الندوة كما يجتمع اليوم صناديد الكفر والفساد ومن يتحكم برقاب العباد في مبنى مجلس الشيوخ الأمريكي ومجالس النواب والوزراء ومجلس الأمن وهيئة الأمم والجامعة العربية لمناقشة كيفية مواجهة دعوة الإصلاح وإلصاق تهمة الإرهاب بهم لتوفير مبرر لمحاربة أهل الصلاح، وتضيع حقوق الفلسطينيين الذين هُجروا من ديارهم وسلبت حقوقهم واغتصبت أراضيهم.

لقد اجتمعوا في دار الندوة ( دار الشر الكبر ) واتفقوا على تشريع قانون يقضي بحبس النبي صلى الله عليه وسلم، كما يفعل مجرمو اليوم من تشريع قانون الإقامة الجبرية، فعندما وجد البعض بأن هذا القانون لا يفي بالغرض تم اقتراح النفي من البلاد، وهذا ما يمارسه المحتل الصهيوني ضد أبناء فلسطين وخاصة سكان بيت المقدس لتفريغ القدس من العرب وإتمام تهويدها، فقد هجر الاحتلال الملايين من أبناء فلسطين خارج فلسطين وداخلها، ولكن بعض صناديد قريش لم يرق له هذا القانون رغم ما يحمل من إجرام وسلب للحقوق، وتم اقتراح قانون الإعدام بدم بارد، وما اكثر حالات الإعدام بدم بارد اليوم على يد الإرهاب الصهيوني المحتل لفلسطين، فلا يمر يوم إلا وفيه حالة قتل أو أكثر بدم بارد لأتفه الأسباب وبدون سبب، وبحجة التفلت من المسؤولية اتفقت قريش ليقتلوه قتلة رجل واحد وتُفرق دماؤه بين القبائل.

وما أشبه اليوم بالأمس حيث تطابق كلامهم ومؤامراتهم وأفعالهم مهما اختلف الزمان، فالفرق الوحيد هو تغيير الأسماء، من فرعون إلى قريش إلى زعماء العالم من رؤساء ومستشارين وحكومات ووزراء ونواب حتى علماء سلاطين، ولسان حالهم يقول: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } (سورة النمل:56)

هذا والله ولي التوفيق

________________________________________

[1] – صحيح البخاري

[2] – متفق عليه، والتفصيل للبخاري: 4/ 225- 256

[3] – السيرة النبوية لابن هشام.

[4] – صحيح أبي داود | الصفحة أو الرقم : 2636

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى