النّظام العالمي الجديد بين مخطَّط الماسونيَّة والبعث الإسلامي 6 من 10
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
النّظام الموحَّد من منظور الإسلام السّياسي (الإسلامويَّة)
يعتقد المفكّر السّياسي الأمريكي أنَّ منطقة الشَّرق الأوسط تتميَّز منذ بدء الخليقة بالنُّزوع إلى إطلاق فِكر شمولي يستهدف تحقيق “طموحات كونيَّة شاملة”، استنادًا إلى عقائد دينيَّة أرادت دائمًا إخضاع العالم تحت زعامة “أنظمة استبداديَّة نبويَّة” تعجز عن تحقيق أمجاد الماضي ومسايرة التَّيَّار السَّائد في الحاضر، وبالتَّالي عن تكوين رؤية مستقبليَّة سليمة (ص100). أمَّا عن أهم العوامل المؤثّرة في أوضاع الشَّرق الأوسط في هذه الآونة التَّأثُّر بمنجزات الإمبراطوريَّات السَّابقة، وعقيدة الجهاد الإسلامي، والتَّدخُّل الأجنبي عالي النُّفوذ بسبب الهيمنة الاقتصاديَّة، والحرب الطَّائفيَّة. يعيد كسنجر إلى الأذهان تأسيس الدَّولة الإسلاميَّة في شبه الجزيرة العربيَّة والشَّام والعراق وفارس بداية من زمن دولة الخلافة الرَّاشدة (632-661م)، وتوسُّعها شرقًا وغربًا في العقود اللاحقة، على أنقاض الإمبراطوريتين البيزنطيَّة (الرُّومانيَّة الشَّرقيَّة) والفارسيَّة اللتين سيطرتا على منطقة الشَّرق الأوسط زمن ظهور الإسلام. ويعلّق السّياسي اليهودي على الدَّعوة إلى سبيل الله تعالى في القرن السَّابع للميلاد وتأسيس دولة الإسلام، زاعمًا أنَّ هدف الدَّعوة كان تأسيس نظام عالمي جديد، وليس إخراج النَّاس من الظُّلمات إلى النُّور وإثنائهم عن التَّكالب على متاع الدُّنيا في سبيل الفوز بالآخرة، بقوله “في المناطق الغربيَّة من شبه الجزيرة العربيَّة، في صحراء قاحلة خارج سيطرة أيّ إمبراطوريَّة، كان النَّبيُّ مُحمَّد (ﷺ) وأتباعه عاكفين على مراكمة القوَّة، ملزَمين برؤية جديدة لنظام العالم” (ص102).
ويصف كيسنجر الفتوحات الإسلاميَّة بأنَّها “جولة توسُّع غير مسبوقة” جعلت من تعاظُم قوَّة الدَّولة الإسلاميَّة النَّاشئة حينها “أحد أكثر الأحداث خطورةً في التَّاريخ”، بوصول الإسلام إلى الأندلس غربًا وشمال الهند غربًا في القرن التَّالي لوفاة النَّبيّ (ﷺ)، الَّذي لقي ربَّه عام 632م، مضيفًا أنَّ نظام الحُكم الإسلامي، الَّذي يقرن السُّلطة الدّينيَّة بالسّياسيَّة، جعل من التَّوسُّع واجبًا دينيًّا مقدَّسًا (ص102). كما يدَّعي المفكّر السّياسي الأمريكي، انتشر الإسلام بقوَّة السّلاح، وبفعل تهديد الأمم الأخرى بالحرب، إذا ما رفضت دخول الإسلام أو التَّسليم ودفْع الجزية مقابل الحماية، دون تنبيه إلى حقيقة دخول الأمم الأخرى الإسلام طواعيةً لاستناده إلى مبادئ العدالة والمساواة ونُصرة المستضعفين والتَّصدّي للجبابرة والطُّغاة. أمَّا عن رؤية النّظام الموحَّد في الإسلام، فينقلها كيسنجر بقوله “مدفوعًا بالإيمان بأنَّ من شأن انتشاره أن يوحّد البشر جالبًا لهم السَّلم، كان الإسلام دينًا أوَّلًا، دولة متعدّدة الإثنيَّات ثانيًا، ونظامًا عالميًّا جديدًا ثالثًا، في الوقت عينه” (ص103). يتبنَّى كسنجر رؤية المؤرّخ الأمريكي اليهودي برنارد لويس في كتابه المثير للجدل Crisis of Islam-أزمة الإسلام (2003م) الَّتي تفترض أنَّ الفتح الإسلامي كان يحوّل البلدان الَّتي تخضع إلى سيوف الجيوش المسلمين إلى دار للإسلام، بينما يعتبر الأخرى المقاوِمة للفتح دارًا للحرب. وبرغم سقوط آخر دولة للخلافة الإسلاميَّة قبل قرابة قرن من الزَّمان، تستمرُّ عقيدة الجهاد الإسلامي في ممارسة تأثيرها القويّ على الفِكر السّياسي الإسلامي، ويتجلَّى ذلك التَّأثير في تأسيس الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران على مبدأ التَّوسُّع الشُّمولي في دولة عالميَّة للخلافة؛ وفي الفِكر الموجّه لمسار تنظيم داعش الإرهابي.
لا ينكر كسنجر أنَّ النَّشاط الاستيطاني الوحشي الصَّليبي في القرون الوسطى كان نموذجًا لتأسيس نظام عالمي موحَّد، لكنَّه يعتقد أنَّ ذلك التَّوجُّه اندثر بعد أن طبَّق الغرب المسيحي نظامًا علمانيًّا حوَّل المسيحيَّة إلى مفهوم ديني فلسفي تاريخي لا يتجاوز حدود دور العبادة. أمَّا بالنّسبة إلى العالم الإسلامي، فلايزال أهلُه ينادون بعودة نظام الخلافة الإسلاميَّة، الَّذي ظلَّ مطبَّقًا حتَّى العشرينات من القرن الماضي، ولم تُقطع الأواصر بذلك النّظام المستمدّ من الشَّريعة الإسلاميَّة. على العكس، فهناك من المفكّرين الإسلاميين ودعاة الحقّ إلى سبيل الله مَن يرى أنَّ نكبة الأمَّة الإسلاميَّة بدأت بزوال دولة الخلافة على يد الزَّعيم التُّركي كمال أتاتورك، المشكوك في صحَّة انتمائه إلى الإسلام وفي انتسابه إلى الحركة الماسونيَّة. كما يذكر كسنجر، انقسم العالم الإسلامي بعد انهيار نظام الخلافة ما بين فريق يؤيّد تأسيس نظام ديمقراطي مدني يساير أنظمة الحُكم الغربيَّة الحديثة وإن استتبع ذلك تطبيق العلمانيَّة والانسلاخ من ربقة الشَّريعة الإسلاميَّة، وفريق متمسّك بضرورة إعادة نظام الخلافة “في إطار تفسير متشدّد لمفهوم نظام العالم الإسلامي التَّقليدي” (ص107).
يتناول المفكّر السّياسي كذلك مسألة انتقال السُّلطة بعد وفاة النَّبيّ (ﷺ) عام 632م إلى والد زوجته ورفيقه أبي بكر الصّدّيق (رضي الله عنه وأرضاه)، مذكّرًا بالصّراع الَّذي تذكره المراجع التَّاريخيَّة الشّيعيَّة في أعقاب عدم اختيار الإمام عليّ بن أبي طالب، ابن عمّ النّبيّ وزوج ابنته، خليفةً؛ ممَّا أفضى إلى انقسام المسلمين إلى فرقتين، وهما السُّنَّة، أي أهل التَّقليد والإجماع، والشّيعة، وهم أنصار عليّ، وإن كان قد خذلوه وأشعلوا فتنة أفضت إلى مقتله في خامس أعوام خلافته. انهار المشروع الإسلامي العالمي بزوال دولة الخلافة، كما يرى كسنجر، كما وُضع حدٌّ للتَّوسُّع الإسلامي في الغرب بعد تُراجُع نفوذ الدَّولة العثمانيَّة منذ أواخر القرن السَّابع عشر للميلاد. من الجدير بالتَّذكير أنَّ النُّفوذ الإسلامي قد هُدّد في عقر دار الإسلام بفعل الحملات الصَّليبيَّة المتوالية على الشَّرق أواخر القرن الحادي عشر للميلاد، وقد كان هدفها الأساسي إيقاف الزَّحف السَّلجوقي الإسلامي إلى أوروبا وتعطيل حركة الفتح الإسلامي. غير أنَّ الدَّولة العثمانيَّة تجاوزت المؤامرات الأوروبيَّة، ووسَّعت نفوذها لتصل إلى شرق أوروبا وتفتح عاصمة الدَّولة البيزنطيَّة، صاحبة الموقع الجغرافي الفريد، عام 1453م.
بلغ التَّوسُّع العثماني ذروته عام 1683م، مع فشْل حصار فيينا، واضطرار العثمانيين إلى عقْد معاهدات للسَّلام مع قادة أوروبَّا سمحت للأوروبيين بالتَّدخُّل تدريجيًّا في شؤون دولة الإسلام، حتَّى انهارت تدريجيًّا. لُقّبت الدولة العثمانيَّة بـ “رجل أوروبَّا المريض”، ضمن حملة دعائيَّة خبيثة قادها المتآمرون من أعضاء الحركات السّريَّة، ممَّن تسلُّلوا إلى قلب عاصمة دولة الإسلام عبر منفذ المعاهدات السّياسيَّة والاتّفاقات التُّجاريَّة. فقدت الدولة العثمانيَّة أراضيها في البلقان والشَّرق الأوسط، لتتداعى الأمم الغربيَّة على أراضي المسلمين وتمزّقها بما يخدم مصالح حكومة العالم الخفيَّة. ويعتبر كسنجر سعي الدولة العثمانيَّة إلى الانضمام إلى نظام وستفاليا أواخر القرن التَّاسع عشر بغير المجدية والمتأخّرة، حيث كانت، على حدّ قوله، “قوَّة متقهقرة بعيدة عن التَّحكُّم الكلّي بمصيرها” (ص114). وجاءت الحرب العالميَّة الأولى (1914-1919م) لتقضي على آخر مقوّمات للقوَّة لدولة الخلافة، حيث تعرَّضت الدَّولة الواهنة إلى هجوم أمريكي فرنسي روسي دفَع السُّلطان محمَّد رشاد (1909-1918م)، آخر سلاطين آل عثمان وآخر من جمَع بين لقبي السُّلطان والخليفة، إلى إعلان الجهاد الإسلامي وحشد قوى المسلمين لمواجهة العدوان الصَّليبي، كما ينقل كسنجر عن كتاب سجلَّات مرجعيَّة للحرب الكبرى (1930م) لتشارلز اف. هورن ووالتر اف. أوستن. لم تلقَ دعوة السُّلطان الأخير ردَّ فعْل شعبي يُذكر، حيث لم يلبِّ المسلمون نداء الجهاد الَّذي أطلقه السُّلطان الَّذي عطَّل الشَّريعة الإسلاميَّة وأدخل العمل بالدُّستور الوضعي؛ وقويت شوكة التَّيَّارات القوميَّة المطالبة بالانفصام عن جسم الدَّولة العثمانيَّة. بالطبع، ليس بجديد الإشارة إلى إبرام اتّفاق سايكس-بيكو الخبيث عام 1916م بين بريطانيا وفرنسا سرًّا لتقسيم ممتلكات الدَّولة العثمانيَّة، وقد جاءت معاهدة سيفر عام 1920م لتفتت آخر من تبقَّى من دولة الإسلام؛ لتُعلن الجمهوريَّة التُّركيَّة في أكتوبر 1923م، ويلي ذلك إلغاء نظام الخلافة في مارس من العام التَّالي.
بعد انهيار دولة الخلافة الإسلاميَّة، برز إلى الواجهة النّظام الدّيموقراطي العلماني الغربي ليكون بديلًا للتَّطبيق في العالم الإسلامي، دون سابقة لذلك. وقد ظهر تيَّاران متنافران؛ أحدهما كان يطالب بالوحدة العربيَّة بتأسيس كيان عنصري ولغوي وثقافي موحَّد؛ والآخر ظلَّ متمسّكًا بضرورة تأسيس نظام إسلامي، وهو ما عُرف بالتَّيَّار الإسلاموي، ويُعتبر تنظيم الإخوان المسلمين، الَّذي تأسَّس في مصر عام 1928م، بعد 4 سنوات من انهيار دولة الخلافة، أشهر نموذج لذلك التَّيَّار، الَّذي رآه البعض نتاج السَّعي إلى مسايرة واقع ما بعد الحرب العالميَّة الأولى دون التَّخلي عن قيم الإسلام والتَّماهي المطلق مع الغرب. صعد التَّيَّار القومي العروبي إلى هرم السُّلطة في مصر وسوريا والعراق في خمسينات القرن الماضي، واستمرَّ في الحُكم غير الإسلامي، بتطبيق الدساتير الوضعيَّة؛ وربَّما يُعتبر الرَّئيس المصري الأسبق أنور السَّادات (1970-1981م) الاستثناء الوحيد، بإعلانه اعتبار الشَّريعة الإسلاميَّة مصدرًا أساسيًّا للتَّشريع أواخر عهده، وبعزمه إعلان نظام للخلافة الإسلاميَّة، كما صرَّح معاصرون لتلك الفترة، وكما نشرت جريدة الوفد المصريَّة في 5 أكتوبر 2011م، عشيَّة الذّكري الثَّلاثين لاغتيال السَّادات.
مع تجاهله الإشارة إلى تلك الواقعة، يذكر المفكّر السّياسي المخضرم أنَّ “الموروث الإسلامي سرعان ما عاد إلى تأكيد ذاته”، من خلال دعوة تيَّارات وأحزاب إسلاميَّة إلى تأسيس نظام إسلامي، أو “ثيوقراطيَّة إسلامويَّة شاملة”، خاصَّةً مع ما يُؤخذ على الأنظمة العلمانيَّة من تجاوزات وإخفاقات. وصل التَّيَّار الإسلاموي إلى الحُكم في مصر عام 2012م، ولمدَّة عام واحد، في شخْص جماعة الإخوان المسلمين؛ ويعترف كسنجر بأنَّ تعامُل الأنظمة العسكريَّة مع الحركات الإسلامويَّة كان قاسيًا، حيث اتُّهمت تلك الحركات بـ “تقويض عمليَّة التَّحديث والوحدة الوطنيَّة” (ص118). لم يطبّق الشَّريعة في نظام الحُكم من البلدان العربيَّة سوى المملكة العربيَّة السعوديَّة، وإن احتفظت بعلاقات قويَّة مع الغرب، لا سيّما أمريكا، وبخاصَّة في السَّنوات الأخيرة، ومنذ تولّي الملك الحالي، سلمان بن عبد العزيز، الحُكم في يناير 2015م. وبرغم ما شهدت العلاقات البين-عربيَّة من توتُّرات وخلافات، كان الصّراع العربي-الإسرائيلي “القضيَّة الأيديولوجيَّة الموحّدة لوجهات النَّظر العربيَّة”، والَّذي أفضى إلى 4 مواجهات حربيَّة، في 1948م و1956م و1967م و1973م؛ وعلى حدّ قول كسنجر، “في كلّ منها كان السّلاح الإسرائيلي هو الغالب” (ص119).
استوجب الصّراع العربي-الإسرائيلي إبرام اتّفاقيَّات للسَّلام بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والدُّول المحتلَّة، وتزعَّمت مصر في عهد الرَّئيس الأسبق أنور السَّادات مساعي تحقيق السَّلام مع دولة الاحتلال بإبرام معاهدة كامب ديفيد عام 1979م. والمفارقة أنَّ كسنجر، وزير الخارجيَّة الأمريكي في عهدي الرَّئيس ريتشارد نيكسون (يناير 1969-أغسطس 1974م) وجيرالد فورد (أغسطس 1974-يناير 1977م) الَّذي تولَّى مهمَّة التَّنسيق بين مصر ودولة الاحتلال، يدَّعي أنَّ اغتيال السَّادات جاء نتيجة الهجوم الَّذي تعرَّض له بعد تطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل، دون إشارة إلى مسألة نشوب خلاف بين السَّادات والإدارة الأمريكيَّة وسعي الأوَّل إلى تطبيق نظام إسلاموي في مصر بعد تعديل المادَّة الثَّانية من دستور 1971م، واعتبار الشَّريعة الإسلاميَّة المصدر الأساسي للتَّشريع، بعد أن كانت أحد المصادر في السَّابق. لم تنل الحركات الإسلاميَّة الشَّرعيَّة في الحُكم، ودائمًا ما توصم بالتَّشدُّد الدّيني المفرط المبرّر للإرهاب في سبيل تحقيق أهداف سياسيّة تحت ستار تطبيق الشَّريعة.
المصدر: رسالة بوست