النّظام العالمي الجديد بين مخطَّط الماسونيَّة والبعث الإسلامي 10 من 10
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
حربا أفغانستان والعراق وملاحقة “شرطي العالم” لرعاة الإرهاب
انتهج الرَّئيس الأمريكي جورج دابليو بوش (يناير 2001-يناير 2008م) سياسة جديدة تجاه العالم الإسلامي، اعتبرها كثيرون إعلانًا صريحًا للعداء واتّهامًا مجحفًا برعاية الإرهاب وتفريخ ميليشياته، بإعلانه حربًا مقدَّسة على الإرهاب في أفغانستان لتطيرها من بؤر الإرهاب. جاءت تلك الخطوة ردًّا على هجمات 11 سبتمبر 2001م، ومن المثير أنَّ إعلان الحرب تمَّ من داخل أروقة الكاتدرائيَّة الوطنيَّة، وبعد ترديد نشيد “The Battle Hymn of the Republic-ترتيلة الجمهوريَّة للحرب”، الَّذي تتحدَّث أبياته عن المجيء الثاني للمسيح ليسحق قوة الشَّر المعادية لأتباعه. وكما ذُكر من قبل، أفتى أسامة بن لادن، في رسالة نشرتها جريدة القدس العربي في 23 فبراير من عام 1998م، بجواز قتْل الأمريكيين والاستيلاء على متاعهم حيثما وُجدوا في جزيرة العرب. وكانت فتوى زعيم القاعدة، إلى جانب اتّهام التَّنظيم بتدبير الهجمات، من أهمّ الذَّرائع الَّتي استندت إليها إدارة بوش الابن لإعلان حرب أفغانستان، بعد أسابيع من هجمات سبتمبر، وبعد عدم استجابة حكومة طالبان الأفغانيَّة لمطالَبة الرَّئيس الأمريكي بتسليم عناصر تنظيم القاعدة المختبئين في أفغانستان والإرشاد عن أماكن تدريبهم. لم ينسَ جورج دابليو بوش التَّعهُّد بإعادة تأسيس نظام الحُكم في أفغانستان على أساس ديموقراطي تعدُّدي نزيه، بعيدًا عن التَّشدُّد الإسلامي الَّذي فرضه نظام طالبان؛ والمفارقة أنَّ ذلك التَّعهُّد اعتُبر مشابهًا لعمليَّة “بناء صرْح الدّيموقراطيَّة في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالميَّة الثَّانية”، كما يدَّعي كسنجر (ص311)! غير أنَّ الواقع أثبت تعرُّض الأفغانيين إلى حملة من الإبادة الجماعيَّة والقمع اتُهمت القوَّات الأمريكيَّة بارتكابها. وقد نشَرت منظَّمة هيومن رايتس ووتش الأمريكيَّة، المعنيَّة بالتَّحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، تقريرًا في 20 نوفمبر 2017م اعترفت فيه بتأكُّد تورُّط القوَّات الأمريكيَّة ووكالة المخابرات المركزيَّة (CIA) في أعمال وحشيَّة ضدَّ الأفغانيين.
يُرجع كسنجر عجْز بلاده عن إحداث النَّقلة الدّيموقراطيَّة المأمولة في أفغانستان إلى استمرار حركة طالبان في تهديد المدنيين وممارستها ضغوطًا قويَّة عرقلة مساعي الإصلاح الأمريكيَّة، مُلمحًا إلى أنَّ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والَّذي كان قيد الدّراسة أثناء إعداد هذا المؤلَّف ولم يكتمل إلى الآن، ينذر بإعادة تكوين بؤر إرهابيَّة في المناطق البعيدة عن نفوذ الحكومة في العاصمة، كابول. وكان السناتور ميتش ماكونيل، زعيم الأغلبيَّة في مجلس الشُّيوخ الأمريكي قد حذَّر دونالد ترامب من عواقب الانسحاب الأمريكي في أفغانستان والعراق، الَّذي قد يمنح الفرصة للجماعات الإسلامويَّة لإعادة نشاطها الإرهابي.
اتُّهم نظام حزب البعث في العراق، بزعامة الرَّئيس العراقي الأسبق صدَّام حسين (1979-2003م)، بالتَّستُّر على الإرهاب، وبالمشاركة في تمويله، وبتصنيع أسلحة دمار شامل، وقبل ذلك كلّه بالاستبداد والاستئثار بالحُكم وقمْع المعارضين. وكان البيت الأبيض قد أصدر عام 2002م، في خضمّ حرب أفغانستان، وثيقة تحمل اسم “استراتيجيَّة الأمن القومي”، شدَّدت على أهميَّة التَّحوُّل الدّيموقراطي وتعزيز مفاهيم الحريَّة والتعدُّديَّة الحزبيَّة والمشاركة الآمنة في الحياة السّياسيَّة في الدُّول الخاضعة لأنظمة حُكم استبداديَّة؛ وقد اتُّخذ نظام صدَّام حسين نموذجًا حيًّا لتلك الأنظمة. وكان الكونغرس الأمريكي قد أقرَّ عام 1998م قانون “تحرير العراق”، بتأييد بالغ من أعضاء مجلس النُّوَّاب وبإجماع من أعضاء مجلس الشُّيوخ. وينقل كسنجر تصريح الرَّئيس الأمريكي حينها، بيل كلينتون (1993-2001م)، تعليقًا على تمرير القانون “تريد الولايات المتَّحدة إعادة العراق إلى أسرة الأمم بوصفه عضوًا محبًّا للحريَّة وملتزمًا بالقانون. يصبُّ هذا في مصلحتنا كما في مصلحة حلفائنا في المنطقة”؛ ويعترف كلينتون بدعم عناصر منشقَّة عن نظام صدَّام بوصفها معارَضة نزيهة تريد الخير لبلادها، بقوله “توفّر الولايات المتَّحدة دعمًا لجماعات معارضة من سائر قطاعات المجتمع العراقي، قادرة على قيادة الأمور وصولًا إلى حُكم مدعوم شعبيًّا” (ص316).
تجدر الإشارة إلى استغلال المؤرّخ والمستشرق اليهودي الشَّهير برنارد لويس فتوى بن لادن آنفة الذّكر في التَّنديد بالتَّشدُّد المنسوب إلى الإسلام، في مقال نشرته مجلَّة الشؤون الخارجيَّة-Foreign Affairs، الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجيَّة الأمريكي، في عددها 77، الصادر في نوفمبر/ديسمبر عام 1998 ميلاديًّا، تحت عنوان “ترخيص بالقتل: إعلان بن لادن للجهاد”، كان له تأثيره في تهيئة الرَّأي العام الأمريكي لغزو أفغانستان لاحقًا. واتَّبع لويس المنهج ذاته في إثارة الرَّأي العام ضدَّ نظام صدَّام حسين، في مقال تحت عنوان “وقت الإطاحة”، نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكيَّة في 27 سبتمبر 2002م، أي قبل الاجتياح الأمريكي للعراق بـ 6 أشهر في 20 مارس 2003م، تزامنًا مع ذكرى عيد البوريم اليهودي، وهو عيد نجاة بني إسرائيل في السَّبي البابلي من مجزرة دبَّرها لهم وزير الإمبراطور الأخميني أحشويرش. شجَّع لويس الإدارة الأمريكيَّة على اتّخاذ قرار إعلان الحرب على صدَّام ونظامه، مدَّعيًا أنَّ العراقيين سيرحّبون بالغزو الأمريكي، المفترَض أن يخلّصهم من استبداد نظام حزب البعث ويُحدث نقلة ديموقراطيَّة. ويبدو أنَّ تشجيع لويس آنذاك جاء للتَّشويش على نداءات من باحثين أمريكيين بعدم خوض تلك الحرب الَّتي لم تكن لتخدم المصالح الأمريكيَّة. فقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكيَّة في 26 سبتمبر 2002م، أي قبل نشْر مقال لويس بيوم واحد، خطابًا حمَل توقيع 33 باحثًا معارضًا للحرب. وعلَّقت مجلة The National Interest-ناشيونال إنترست الأمريكيَّة على مقال نيويورك تايمز في تقرير لها بتاريخ 19 أبريل 2019م، على تحقُّق ما حذَّر منه الباحثون قبل 17 عامًا، وهو إحداث حالة من عدم الاستقرار في منطقة الشَّرق الأوسط نتج عنها فرار قوَّات تنظيم القاعدة إلى سوريا وظهور حركات جهاديَّة أخرى.
في تعبير عن تردّي الأوضاع في العراق في أعقاب الغزو الأمريكي وفشْل النّظام الحالي في تحسين أوضاع العراقيين، اختارت مجلَّة ناشيونال إنترست لمقالها صورة لعراقيَّة مُسنَّة في حالة من الأسى تمدُّ يدها بالسُّؤال، ومن خلفها جندي أمريكي يرمقها بلا مبالاة. ويذكر مقال ناشيونال إنترست كذلك أنَّ أمريكا أنفقت 800 مليار دولار في حربها على العراق منذ عام 2003م وحتَّى عام 2016م، إلى جانب مقتل حوالي 8 آلاف جندي، وإصابة 32 ألفًا.
دور التّقنيات الحديثة في تشكيل النّظام العالمي
يخصّص هنري كسنجر فصلًا كاملًا في كتابه لتناوُل التَّأثير الَّذي مارَسه التَّطوُّر التّقني في العقود الأخيرة على حياة سُكَّان العالم، بما أعاد تشكيل النّظام العالمي، بعد ظهور مفردات جديدة لم تكن معهودة من قَبل أعادت تعريف وسائل مباشَرة المهام اليوميَّة. لن نحصي الأدوات الجديدة الَّتي أعادت بواسطتها التّقنيات دائمة التَّطوُّر تشكيل حياة النَّاس؛ فهناك أنظمة الحوسبة، ومعها شبكة الإنترنت، ووسائل الاتّصال فائقة السُّرعة، ووسائل النَّقل المتطوّرة. غير أنَّ التّقنيات كما غيَّرت بعض جوانب الحياة إلى الأفضل، فقد أتت بسلبيَّات أضرَّت بالملايين وتمارس تهديدًا شرسًا على السَّلام العالمي، وعلى رأسها الأسلحة الحديثة، لا سيّما النَّوويَّة والبيولوجيَّة منها. لن ننسى أنَّ الأمم المتَّحدة أشرفت على إبرام معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النوويَّة عام 1968م، لكنَّ ذلك لم يقضِ على التَّهديد الملازم لتلك الأسلحة، خاصَّةً وأنَّ التَّجارب أثبتت صعوبة تعقُّب إنتاج الأسلحة النوويَّة، ممَّا ينذر بمواجهات مستقبليَّة بين الدُّول الحائزة على حقّ امتلاك سلاح نووي في سبيل فرْض الزَّعامة.
يرى كسنجر أنَّ دخول تكنولوجيا المعلومات إلى كافَّة مجالات الحياة أهمُّ ما يميّز هذه الحقبة الزَّمنيَّة، ممَّا أغنى عن التَّعامل اليدوي في مباشَرة العديد من المهامّ اليوميَّة، مثل التَّسوُّق والقراءة وإجراء البحوث والتَّعلُّم وإجراء التَّعاملات المصرفيَّة. ومع مواصلة الإقبال البشري على استخدام شبكة الإنترنت والدُّخول اليومي عليها، يتوقَّع باحثون تطوُّر استخدامات الإنترنت في العقود المقبلة وإتاحة الاتّصال بتلك الشَّبكة عبر أبسط الأدوات الشَّخصيَّة، بما فيها فُرش الأسنان وأقفال الأبواب والألعاب والأغراض المنزليَّة. ويعني ذلك خضوع سُكَّان العالم لرقابة متواصلة خلال أداء أبسط الأنشطة الحياتيَّة؛ حيث أنَّ “الأشياء كلَّها ستُربط بالإنترنت وستُبرمج لتبقى على تواصُل مع مخدّم مركزي أو أجهزة تشبيك أخرى”، ممَّا يتيح الرَّصد المستمر للبشر في كافَّة تحرُّكاتهم (ص334). ليس بجديد إثارة حقيقة أنَّ الهواتف الذَّكيَّة المتَّصلة بالإنترنت، مع ما توفّره من قدرات فائقة في التَّحليل ومعالجة البيانات، تفرض حصارًا صارمًا على مستخدميها من خلال رصْد تحرُّكاتهم والتَّجسُّس على كافَّة الوثائق الَّتي يطَّلعون عليها أو يشاركونها، هذا إلى جانب جمْع الهاتف المقاييس الحيويَّة (Biometrics) من خلال برامج يمكنها التَّعرف على الهويَّة للأشخاص تلقائيًّا بعد رصْد الصّفات الشَّكليَّة والفسيولوجيَّة والتَّشريحيَّة لكلّ شخص؛ وبالطَّبع لذلك تأثيره في التَّحكُّم في الأشخاص عن بُعد؛ وهذا ما يدفع الأجهزة الاستخباراتيَّة على مستوى العالم إلى الاعتماد على مثل تلك البرامج والتَّزوُّد بكلّ حديث منها. حتَّى الأنظمة الخارجة عن منظومة الدُّول الدّيموقراطيَّة الليبراليَّة لم تمتنع عن اقتحام عالم التّقنيات والبرمجة.
وكما يُستخدم الاتّصال بالإنترنت في التَّجسُّس والمراقبة، يمكن كذلك استخدامه في إجراء اختراقات أمنيَّة للأنظمة المعلوماتيَّة للمؤسَّسات والمرافق لتعطيلها أو الاستيلاء على بيانات هامَّة تمتلكها؛ ويدخل ضمن أهداف الاختراق الأمني المصارف وشبكات التَّواصل الاجتماعي وبرامج البريد الإلكتروني والحواسيب والهواتف الشَّخصيَّة. ويمكن من خلال برامج الاختراق الأمني التَّجسُّس وتعطيل منشآت حيويَّة عبر القارَّات؛ وينقل كسنجر عن أحد الخبراء الأمنيين رأيه بأنَّ “الحرب القادمة ستبدأ في الفضاء المعلوماتي” (ص337). ويحضرنا في هذه الآونة واقعة تعرُّض الحكومة الأمريكيَّة إلى هجوم اختراقي اتُّهمت روسيا بتدبيره، وقد ألحق الضَّرر بأكثر من 50 شركة أمريكيَّة.
مستقبل النّظام العالمي الحاليّ
يصرُّ هنري كسنجر على أنَّ هدف أمريكا، منذ نجاتها من ويلات الحرب العالميَّة الثّانية منتصف أربعينات القرن الماضي، كان إفشاء السَّلام؛ وكان في ذلك ما برَّر خوضها حروبها الخمس التَّالية، أملًا في القضاء على أسباب النّزاع والفُرقة في سبيل تكوين “أُسرة عالميَّة” كان الجميع بحاجة إليها، ومن الممكن تأسيسها تطبيق “مُثُل عليا وممارسات” تعتبرها بلاده “قابلة للتَّطبيق على العالم كلّه” (ص351). أرادت أمريكا منذ عقود نشْر الدّيموقراطيَّة والحريَّة وتحقيق العدل والسَّلام الدَّائمين؛ ووجدت في تحقيق تلك الغاية ما يبرّر استخدام العنف بإشعال الحروب، المفترَض أنَّها كانت تسعى إلى الإطاحة بالأنظمة المتشدّدة الرَّاعية للإرهاب؛ وإن كان الواقع أثبت كذب ذلك الادّعاء، كما أثبت فشل أمريكا في إرساء قواعد الدّيموقراطيَّة في البلدان الَّتي غزتها. صاغ سياسات أمريكا الخارجيَّة “رجالات الدَّولة من المتنوّرين”، كما يقرُّ السّياسي اليهودي المحنَّك، مضيفًا أنَّ مساعي التَّغيير في البلدان الأخرى قادها فئة من المثقَّفين المتوافقين فكريًّا مع الغرب والمُعاد تشكيل وعيهم بحسب الرُّؤية الأمريكيَّة للنّظام العالمي (ص351). وقد افترضت سياسة التَّغيير الأمريكيَّة في النَّاس العقلانيَّة الفطريَّة والنَّزعة إلى التَّوافق السَّلمي، معتقدةً أنَّه من الممكن التَّخلّي عن ثوابت الدّين والقيم المتوارَثة واستبدالها بالفكر الغربي تحت مسمَّى الانفتاح على العالم وإزالة الحدود الثَّقافيَّة بين البشر، وإن كانت تعادي الدّين!
يتأثَّر النّظام العالمي بالأحداث الفارقة الَّتي تطرأ دون تخطيط مسبق؛ وحينها يفقد النّظام قدرته على استيعاب التَّغيُّر في موازين القوَّة. يشير كسنجر إلى ظهور الإسلام وتأسيس دولته الأولى وتوسيع حدودها خلال القرنين السَّابع والثَّامن للميلاد؛ وإلى اندلاع الثَّورة الفرنسيَّة وتأثيرها في إعادة تشكيل السّياسة الأوروبيَّة في القرن الثَّامن عشر للميلاد؛ وإلى انتشار الشُّيوعيَّة والفاشيَّة مطلع القرن العشرين؛ وإلى تطوُّر الفكر الإسلاموي في الآونة الأخيرة وتهديده الصَّريح للنّظام الدّيموقراطي الليبرالي المُراد تعميمه، باعتبار كلّ ذلك مؤثّرات أحدثت تغييرات فارقة في النّظام العالمي الحاليّ. لا يفوتنا التَّنبيه إلى أنَّ التَّقدُّم الهائل، وبخاصَّة في مجالي التَّسليح والتّقنيات المعلوماتيَّة، قد عزَّز من قدرات الدُّول العظمى على إحكام السَّيطرة على النّظام القائم، بل ودفْع الدُّول الفقيرة إلى الالتزام به، بالتَّرغيب أو بالتَّرهيب. ولن ننسى كذلك إنَّ تطوُّر أنظمة الاتّصال أحدث ما يُعرف الآن بـ “العولمة الاقتصاديَّة”، بعد أن صار الاقتصاد الدُّولي عالميًّا، لمَّا أزيلت الحدود السّياسيَّة بين دول العالم افتراضيًّا. غير أنَّ السّياسة الدُّوليَّة لم تصل إلى تلك المرحلة من إذابة الحدود بين الدُّول؛ حيث لا تأمن الدُّول العظمى على استقرارها، إذا تعارضت مصالحها مع مصالح الدُّول الأخرى.
في النّهاية، يؤكّد كسنجر أنَّ “إعادة بناء النّظام الدُّولي” وفْق المغيّرات الَّتي طرأت على العالم في العصر الحديث هو التَّحدي الأكبر للسّياسة الدُّوليَّة، منذرًا بمواجهة حامية بين النّظام الوستفالي والنّظام الإسلاموي المتطرّف، وغير مستبعد وقوع أن يكون نتيجة الفشل في إعادة تشكيل النّظام القائم “حربًا كبرى بين دول” (ص360). يعتقد السّياسي الكبير أنَّ تكوين نظام عالمي موحَّد لا بدَّ وأن يبدأ بترسيخ مفهوم ذلك النّظام في شتَّى أقاليم العالم، ثمَّ الرَّبط بين تلك الأنظمة الإقليميَّة عبر منظومة تغربل الأهداف والأفكار المتناقضة مع مفهوم النّظام الموحَّد، على أن تمرَّ الأنظمة الإقليميَّة بفترة انتقاليَّة تتخلَّص فيها تدريجيًّا من تلك الأهداف والأفكار. ويعرّف كسنجر النّظام الجديد المأمول بأنَّه “نظام عالمي مؤكّد للكرامة الفرديَّة” يقوم الحُكم فيه على المشاركة، و “متعاون دوليًّا وفق قواعد متَّفَق عليها” (ص361). أمَّا عن التَّحدّي الأكبر الَّذي يواجه أمريكا، إذا ما أرادت تولّي مهمَّة تطوير النّظام العالمي الجديد، كيفيَّة تعميم رؤيتها للنّظام العالمي، مع عدم المساس بتاريخ الأمم الأخرى وثقافاتها.
المصدر: رسالة بوست