مقالاتمقالات مختارة

النزعة الفرعونية.. أسبابها ومظاهرها

النزعة الفرعونية.. أسبابها ومظاهرها

بقلم د. سيرين الصعيدي

يعرض علينا القرآن الكريم قصة من قصص السابقين وهي صورة من صور الصراع بين الحق والباطل، وجولة من جولات النزال بينهما، والممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والقصص في المعجزة الخالدة إنما فوائدها أعم وأجل من أن تنحصر في الترفيه عن النفس، بل فيها من الفوائد واللآلئ ما يقي المتأمل ومتَّبِع الشرعة الإلهية من التعثر والتخبط إذا اشتدت من حوله الفتن والظلمات، وفيها من السنن الربانية ما يضيء للمتشبث بها دروبه، فتهديه قبساً من الأنوار الرحمانية؛ لتكشف له من الحجب ما يجعله قادراً على التمييز بين الحق والباطل.

وفرعون الذي قص الله علينا قصّته -في كتابه العزيز- لا ينحصر في ذاك الزمان الغابر؛ لأن كل من اقتفى أثره وسار على نهجه صار فرعون زمانه، في أي مكان وجد وتحت أي مسمى كان !

فقد تجد في الزمان الواحد فراعنة كثر انتشروا في الأمصار والبلدان، واعتلوا المناصب والوظائف، على اختلاف أنواعها ومسمياتها، وجعلوا من كواهل الناس مطية امتطوها ليحققوا مآربهم وينفذوا مخططاتهم، فقد تجد فرعون مصغراً ابتداءً من البيت وإلى أعلى منصب في الدولة، فالفراعنة كثرٌ، غير أنّ القاسم المشترك بينهم واحد وهو العلو في الأرض، والاستخفاف بمن دونهم، والتأله، ولا سبيل للهداية غير الدوران في فلكه واتباع نهجه لا غير، والجبروت ديدنه ومعدنه.

الفراعنة كثرٌ، غير أنّ القاسم المشترك بينهم واحد وهو العلو في الأرض، والاستخفاف بمن دونهم، والتأله، ولا سبيل للهداية غير الدوران في فلكه واتباع نهجه لا غير

وتأمل قصة الطاغية في سورة غافر، وقارن بين نهج فرعون بين الأمس واليوم، تجد أن التاريخ يعيد نفسه، والفراعنة من نفس الكأس شربوا وعلى نفس المائدة تتلمذوا، سياستهم واحدة وهي محاربة الفكر وتقييد حريته، وفرض فكرهم ورأيهم، ومصادرة حرية الرأي والتعبير ونشر سياسة التجهيل؛ كي لا يقابل رأيَهم رأيٌ، ولا يحاور فكرَهم فكرٌ، يثبتون أركان سلطتهم وفرض آرائهم بقبضة من حديد لا يسلم منهم شجر ولا حجر ولا بشر؛ فكل ما دب على الأرض إن لم يدِن لهم ولم يخضع في بوتقة العبودية فهو عدو مستهدف من قبلهم.

وشتان بين النهج الذي يرسمونه لأتباعهم وبين نهج الله الذي ارتضاه لعباده، فعبودية الله تخرِج العزيز الأبيّ، وعبودية العباد تسفر عن ذل ومهانة لا غاية تعيش من أجلها، ولا مبدأ تثبت عليه، وهذا ما يرفضه رُسُل الرحمة لأتباعهم إذ يقول صلى الله عليه وسلم: “لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إن أَحْسَنَ الناس أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إن أَحْسَنَ الناس أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أساءوا فلا تَظْلِمُوا” [سنن الترمذي]، فبغض النظر عن مدى صحة الحديث إلا أن معناه صحيحٌ، فعلى المسلم أن يكون قوياً في عقيدته وقوله وعمله، لا أن يكون هشاً ضعيفا يتبع كل ناعق، فتأمل الهوة بين ما يصنعه الطغاة في أتباعهم؛ إذ يخبرنا الله عنهم قائلاً -جل شأنه- عن مُمثل الطغاة وأستاذهم في الجبروت والفرعونية: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54]، وبين العزة والشخصية المستقلة المستنيرة بنور الله التي يصقلها في أتباعهم دعاة الحق والهداية.

الفرعونية لا تنحصر في زمان معين ومكان محدد؛ فمجرد توافر البيئة الخصبة المناسبة لها سرعان ما تظهر وتشتد

والفرعونية لا تنحصر في زمان معين ومكان محدد؛ فمجرد توافر البيئة الخصبة المناسبة لها سرعان ما تظهر وتشتد، وهذه البيئة التي تنمو بها الفرعونية تقوم على دعامتين أساسيتين:

الدعامة الأولى/

الشعب الضعيف الذي تنازل عن معالم إنسانيته فجعل من ظهره مطية سهلةً يعتليها فرعون عصره فينصب نفسه رباً معبوداً من دون الله، والذي ما كان له أن يتجرأ على فعل ذلك لولا استعداد من هم تحت ولايته لأن يكونوا عبيداً له، فلا عجب أن تجد من يقاتل ويستميت في سبيل عبوديته؛ حرصاً منه على حياةٍ -أياً كانت هذه الحياة التي- يرنو إليها.

فالطاعة العمياء غير الرشيدة القائمة على تعطيل الفكر هي التي تخلق الفراعنة في كل زمان تأمل قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54]، فلو لم يكن في القوم من الرعونة والتسليم والطيش وهذا الاستخفاف والعقول الجوفاء، لما استخف بهم فرعون ولما استذلهم بهذا الشكل ، فأي المؤهلات التي يمتلكها لتؤهله أن يفرض عليهم عبوديته من دون الله، فما أشبه حقيقته بحقيقة العجل الذي عبده بنو إسرائيل في غيهم وضلالهم وإن دل ذلك على شيء إنما يدل على سفاهة وحماقة كل من يتخذ من دون الله ولياً ومعبوداً.

الدعامة الثانية/

الطاغية المتجبر وهو فرد ضعيف في حقيقة أمره غير أنه وجد من الغافلين من قدم له -وبكامل إرادته- مقوماته الإنسانية قرباناً على مذبح العبودية خاضعاً لمن هو مثله، لا يملك لنفسه شيئاً، ناهيك عن أن يملك لغيره أشياء، فما كان من ضعف وغفلة الغافلين إلا استنسخوا فرعون جديداً يقول لهم بكل غطرسة وجبروت: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} [النازعات: 24]، فكانت الغفلة والهوان.

ما كان للفرعونية أن تظهر وتعلو إلا بوجود أمة عندها من القابلية والاستعداد لذلك ابتداء من الفرد الذي تنازل عن كرامته وأحقيته في الحياة كإنسان حر لا يدين ولا يذل إلا لله

وهذا الاستعداد للعبودية جرم لا يقل عن جرم الفرعونية بل هو حقيقة أشد من جرم الفرعونية، إذ ما كان للفرعونية أن تظهر وتعلو إلا بوجود أمة عندها من القابلية والاستعداد لذلك ابتداء من الفرد الذي تنازل عن كرامته وأحقيته في الحياة كإنسان حر لا يدين ولا يذل إلا لله.

ولا عجب من الأساليب والحجج التي تتبعها الفرعونية فترتدي لباس الناصح الأمين الحريص على قومه؛ لتفرض سطوتها، وهي نفس الحجج من أول عهد الفراعنة حتى يومنا هذا: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] وجاء في تفسير هذه الآية: “ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب، ولا أدخر منه شيئاً، ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر، يعني أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول” [الألوسي، روح المعاني، ج24، ص65].

فالفرعونية في كل زمان ومكان تتمثل بهذه الدعاية الرائجة؛ فهم -على حد تعبيرهم- يريدون الهداية والصلاح لأقوامهم، وأية هداية يقصدون! أن يظل الناس صدى لأصواتهم -كما الببغاء- تردد ما تسمع إذ لا قول لها إلا ما يقول أولياء نعمتها، فلا عجب أن يمارسوا كل وسائل القمع من تقتيل وتعذيب وتشريد؛ للحفاظ على ولاء وطاعة أتباعهم، ولاء غير رشيد وطاعة عمياء غير متبصرة، حجتهم بذلك الإصلاح، وهل الإصلاح في نظرهم إلا أن تظل كلمتهم هي العليا وسلطتهم فوق أية سلطة فلا يغرد خارج سربهم أحد.

وفرعونية اليوم امتداد لفرعون ذاك الزمن إنما كلها تتبع سياسة واحدة في تثبيت أركانها وفرض سلطتها وأساليبها لا تختلف عبر الزمان والمكان ؛ فقد وصفها الله في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4]، [الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج20، ص27]. ويستفاد من الآية الكريمة ما يلي:

1. تشتيت قوة الأمة: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص: 4]، أي: سياسة فرق تسد، وهي سياسة باتت مكشوفة واضحة للصغير قبل الكبير تقتات على تفريق الجمع وتمزيق الصف.

2. الإرهاب والتخويف وبث الرعب في الصفوف: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4].

3. إيقاع الظلم: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ} [القصص: 4].

لنا في كتاب ربنا وسنة نبينا شرعة ومنهاجاً للنجاة من جبروت وطغيان الفرعونية، بل وللتخلص من كل السبل التي تؤدي بنا للنفسية القابلة للاستخفاف قبل كل شيء

والسبيل في مواجهة الفرعونية -بل اجتثاثها من الأساس- بيّن واضح إنما نستمده من الذي خلقنا أحراراً ابتداءً، وسخر لنا من المخلوقات ما يمكننا من العيش في عزة وإباء، ولنا في كتاب ربنا وسنة نبينا شرعة ومنهاجاً للنجاة من جبروت وطغيان الفرعونية، بل وللتخلص من كل السبل التي تؤدي بنا للنفسية القابلة للاستخفاف قبل كل شيء، وذلك من خلال بعض الإمدادات الربانية، والتي هي حقيقة جرعات وقائية تمنعنا ابتداءً من التفريط بأحقيتنا للعيش أحراراً من كل عبودية غير عبودية الله، ومن ثم التطبيقات الإسلامية التي سارت على أنوار هذه الإمدادات والجرعات الربانية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1. قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، وقد ورد في تفسير هذه الآية: “كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه” [الجوزي، زاد المسير في علم التفسير، ج3، ص425] فقد عاب الله تعالى على بني إسرائيل وألقى اللائمة عليهم، وعدّ ذلك عبودية من دون الله، فكيف بمن رضي وسكت عن قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} [النازعات: 24].

2. سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونهجه القائم على المشورة؛ فبالرغم من نبوته -عليه الصلاة والسلام- وتلقيه من الوحي، لم يدفعه ذلك للتفرد برأيه، أو أن يعرض عن آراء أصحابه الكرام ، وسيرته العطرة مليئة بالشواهد على ذلك، فما مشورته في غزوة بدر وأُحُد –وغيرهما- إلا جواهر منظومة في عقد حري بكل عاقل أن يتزين به، فيقتفي أثره في تمحيص الأمور والنظر فيها.

3. الإيمان الحقيقي بالله يفرض على صاحبه أن يكون عزيزاً لا يقبل الذلة ولا المهانة، فكيف إذن يقبل الخضوع للفرعونية، أو أن يكون سبباً من أسباب وجودها وإمدادها.

4. السياسة التي انتهجها أبو بكر الصديق عند توليته الخلافة “إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني” [الصلابي، أبو بكر الصديق، ص147]، وهذه السياسة عينها التي سار عليها الخلفاء الراشدون، إذ لم يكن معروفاً عنهم الأحادية في الرأي واتخاذ القرارات، فقد كان هناك مساحة آمنة لحرية الرأي -وإن كان مخالفاً- فالذي يخلو قاموسه من كلمة “لا” في وقتها، ولا يُحسن إلا التصفيق للظالم، وإيثار مهادنته، والسير في ركابه، على مواجهته ومراجعته، سيخطو بذلك خطواته الأولى على طريق العبودية وبداية الانسلاخ من الحرية والعزة التي أرادها الله له.

ولكل غيور على مجتمعه وأمته ويخشى من استشراء النزعة الفرعونية في زمانه فلينظر في أمر نفسه ابتداء: هل يرى في رأيه الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، وفي رأي غيره الخطأ الذي لا يحتمل الصواب؟ أم تنتفخ أوداجه إن راجعه في رأيه كائناً من كان؟ فمن كان فيه ذلك فليعلم أن به بقايا من نزعة فرعونية ظلومة جهولة، وعليه أن يتحرر من عقالها، ويتوب عن إتيانها، وإلا كان ممن يستن بها، ومن عوامل الإيلاد لها على نطاق أوسع من البيت أو العمل، فالذي لا يقلع عنها في خاصة نفسه لهو عن مواجهتها في أمته أعجز.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى