النخب وعلمنة الأفكار الوطنية والقومية (2 من 2)
بقلم معاذ السراج
القومية والوطنية واحدة من بين أهم الأفكار التي تعرضت للتشويه والتناقض والاستغلال، وتلاعبت بها النخب السياسية والثقافية, التي تأثرت بالغرب واحتكت به في أضعف سماته وخصائصه، ولعل مراجعة جادة لتاريخ تلكم الفترات تُظهر عمق التأثيرات التي تركتها هذه العوامل على البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية، وساهمت في الدفع بها إلى مصيرها المحتوم.
– أيديولوجيات حزبية علمانية:
تسرّبت العقلية العلمانية – إن صح التعبير – إلى الأحزاب والتيارات الأيديولوجية في فترة مبكرة، وبدأ تأثيرها يظهر بوضوح منذ أواخر ثلاثينيات القرن الفائت، حيث هيمنت الاتجاهات اليسارية على الساحة السياسية، واتسمت كلها بطابع علماني مستمد من الثقافة الغربية, وكان بعضها يميل إلى التطرف كذلك. ومن أهمها الحزب الشيوعي السوري الذي يعود تأسيسه إلى العشرينيات، وظهرت لاحقا عصبة العمل القومي العربية، والكتلة الوطنية التي شكلت الحكومة السورية في الثلاثينات, وفي تلك الفترة تأسس حزب الاستقلال والحزب القومي السوري.
وفي فترة الأربعينات انفتح الباب مجددا أمام ظهور أحزاب جديدة، مثل الحزب الوطني وحزب البعث القومي والإخوان المسلمون وغيرها، نتيجة عجز الأحزاب القائمة، والتي شكلت الحكومة الوطنية عن مواجهة المشكلات. وبرز أيضا النادي العربي بدمشق، وهو تنظيم عروبي علماني ذو توجه نخبوي, تتلخص مبادئه في إحياء تاريخ العرب، وإقامة روابط متينة بين البلاد العربية، ونشر التعليم، ووضع مناقبيات حميدة.. ” .
ومن المؤكد أن تلك الأحزاب والتيارات السياسية، فرضت رؤيتها على الفكر والثقافة في تلك الفترة، ولم يعد مفهوم القومية بالوضوح الذي كان عليه إبان حركة النهضة العربية, وبدأ يميل نحو المحلية الضيقة, واكتسب في بعض الأحيان الصبغة العنصرية, كما في حالة الحزب القومي السوري، الذي كان له شأن كبير في تلك المرحلة قبل أن تتم تصفيته في خمسينات القرن الفائت.
ومما يعنينا في هذا السياق؛ أن الإسلام ظل خارج اهتمامات الأحزاب والتيارات الفكرية كلها، وعلى اختلافها وتنوع أفكارها, حتى إن بعضها جاهر بالتنصل من الإسلام، وتبنى لهجة عدائية تجاهه. ومن النادر أن تعثر في سير الشخصيات والزعامات الوطنية والسياسية، على ذكر للإسلام في برامجها وثقافاتها, أو الدعوة إليه والتمسك بأهدابه, فضلا عن أن تقر بدوره في الدولة والمجتمع، كما فعلت تجاه الأيديولوجيات الأجنبية المستوردة, وحرصت على نقلها إلى مجتمعاتنا دون اعتبار للاختلافات البينة بينها وبين تلك البلاد.
وقد أشار إلى هذه الناحية الدكتور أديب نصّور الذي عاصر تلك الفترة وتلقى تعليمه في فرنسا، عندما قال في كتابه “قبل فوات الأوان”:
“الاحتكاك المتزايد بالغرب والتأثر الشديد بالنظريات والفلسفات السائدة، من يمين ويسار وإلحاد وفوضوية ووجودية، زلزل أركان المجتمع، وشوش أفكاره وقيمه، في فترة نشطت فيها العلمانية وتراجعت المثل والقيم المحلية بقوة، فتزلزلت أركان المجتمع واضطربت الأرض تحت أقدامه، وبقي في صراع داخلي استمر طيلة العقود التالية، بحثا عن هوية مفقودة, وفكرة جامعة، ومثال سياسي واجتماعي يتجه صوبه”.. وقال في موضع آخر:
” ذلك أن الاحتكاك بالغرب والتعرف إليه، لم يكن في نقاط قوته وتماسكه، وإنما كان في أضعف نقاطه وأوهن بيئاته، وبخاصة احتكاكنا بفرنسا التي تحوّلت فيما بعد إلى دولة منتدبة، فقلّدها السوريون كما يفعل المغلوبون عادة بحكم طبيعة الأشياء كما يقول ابن خلدون”.
ويحسن أن نشير هنا إلى أن الأحزاب ذات التوجه الإسلامي كانت قليلة العدد في تلك الفتة، وتمثلت بالإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي، وقد تأخر ظهورها على الساحة السياسية. وفي حين كان حزب التحرير يمتنع عن المشاركة السياسية، فإن الإخوان كانوا وحدهم ممثلين في البرلمان، إلى جانب عدد محدود من الشخصيات الإسلامية المستقلة، ولم تتجاوز نسبتهم في البرلمان خمسة أو ستة بالمائة، وهي نسبة بسيطة لا تغير من حقيقة هيمنة الاتجاه العلماني، كما أنها تؤكد على اتساع الفجوة الفكرية والثقافية في المجتمع السوري.
هذا الخلل الكبير لم يعد خافيًا، ونتائجه السلبية أصبحت واضحة للعيان، مما حدا بعدد من المفكرين القوميين إلى الحديث عنها كمعضلة كبيرة تواجه الفكر القومي، ومن هؤلاء ميشيل عفلق، أحد مؤسسي الحزب، والذي كتب كثيرًا حول العلاقة الوثيقة بين العروبة والإسلام. ومنهم جلال السيد، أحد مؤسسي حزب البعث إلى جانب ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وقد ورد في كتابه “الصراع بين العروبة والشعوبية في العراق”، تحت عنوان “فصل الدين عن الدولة”:
“ضرب الكتاب الغربيون على وتر خطير جدا: هو فصل الدين عن السياسة أو فصل الدين عن الدولة وتلقف كثير من المثقفين العرب هذا المفهوم على أنه مفهوم تقدمي حضاري عصري راق وقد فاتهم أن هذا المنطوق إن صح على دول الغرب فانه لا يصح على العرب”.. وقال في موضع آخر:
“وإن فصل هذا الدين عن العرب يعني الفصل ما بين جسمين التحما التحامًا وإن تقليد الأوربيين في دعوتهم إلى فصل الدين عن السياسة هو تقليد يطعن العرب به أنفسهم لأنه تفكيك لكيانهم، ويجب في هذه القضية الأخذ بمبدأ (القياس مع الفارق) المعروف في المنطق ويقيني أن الغرض في هذه الدعوة لا يقل خطورة عن الجهل وأعداء العرب لا يتركون فرصة الا انتهزوها ولا بابًا إلا ولجوه”
على أن دعوة الأستاذين جلال السيد وميشيل عفلق تلاشى صوتها وسط ضجيج الأيديولوجيات الأخرى، وإغراءات السلطة وضعف التنظير الجدي البعيد عن التقليد والتعصب ،وتغلبت في النهاية نظريات ساطع الحصري وزكي الأرسوزي بالإضافة إلى منظري العلمانية في مصر ومناطق أخرى، فكان هذا مما زاد في حدة الافتراق، وساهم في توليد صراعات مستقبلية لا تحمد عقباها، وأسهم في زعزعة مجتمعات المنطقة، وتذوب شخصيتها ومقومات هويتها، حتى أصبحت عرضة لهزات اجتماعية قوية لن تلبث أن تعصف بالعديد من دول المنطقة ومجتمعاتها.
في الفقرة التالية سنعرض لطرف من تنظيرات ساطع الحصري وزكي الأرسوزي المفكرين القوميين اللذين هيمنا بفكرهما على ثقافة أجيال عدة، وسيبقى تأثيرهما لسنوات طولية.
– ساطع الحصري (أبو القومية):
تعتمد فلسفة الحصري على التفسير الغربي للتاريخ، الذي ينظر إلى الدين على أنه ينبغي أن ينحصر في التعبد، ولا تكون له علاقة بشؤون الحياة والمجتمع. وقد تبنى ساطع الحصري لهجة عدائية تجاه الدين متأثرًا بالنمط الأوربي للقومية المعادي للكثلكة، وللدين عمومًا، نتيجة أسباب تاريخية عانت منها أوربا قبل عصر النهضة، ويقول المؤرخ والرحالة وليم ل. كليفلاند, الذي درس الحصري وفكره في مؤلفه
“ساطع الحصري من الفكرة العثمانية إلى العروبة” : “إن هذا الأمر لا مثيل له في الإسلام، لأن موقف الإسلام من القوميات يخالف موقف المسيحية في الغرب.. ذلك أن الإسلام لم ينقض العروبة بل أغناها وأمدها بكابحات حضارية جعلتها صفة وسمة خاصة بين الأمم.. وأصبحت هذه الحضارة الإسلامية عند العرب من سمات قوميتهم وملامحهم المميزة أيا كانت عقيدتهم الدينية”.
وأشار كليفلاند أيضًا، إلى تأثير تنشئة الحصري غير الإسلامية في توجهاته الفكرية والسياسية. فقد “تعلّم في المدرسة الملكية في استانبول ولم يستظهر القرآن (لم يحفظه) مثلما كان يفعل تلاميذ السلطة العثمانية في عصره”, وكان من أكبر أساتذته في فلسفة القوميات “ماكس مولر” و “نوردو” وهما فيلسوفان يهوديان سعيًا إلى إحياء القومية اليهودية.
ويورد الأستاذ أنور الجندي في كتابه “جيل العمالقة” ص151، رواية في هذا السياق فيقول:
“حدثني مختار الوكيل مدير مكتب الجامعة العربية في جنيف أنه خلال عمله زاره الاستاذ ساطع الحصري في سويسرا، ورأى السيد عبد الفتاح حسن السفير المصري هناك، دعوته إلى طعام الغداء, فلما قدِم الحصري مع مختار الوكيل حيّاهُ السفير المصري فقال: “مرحبًا بالمناضل الكبير في خدمة العروبة والإسلام”، لكن الرجلين عجبًا من ساطع الحصري الذي ردّ في عنف وحِدّة:
“عرب نعم، إسلام لا، أنا لاييك”..
“وكلمة لاييك تعني أن صاحبها علماني أو لا ديني”. انتهى ما رواه أنور الجندي.
ولاشك أن هذه الحادثة التي وقعت في العقود الأولى من القرن العشرين، لم تكن معزولة عن محيطها الثقافي والاجتماعي، وتشير بوضوح إلى أن عوامل الافتراق آخذة في التزايد والحدة..
يقول المفكر الإسلامي عدنان سعد الدين:
“في أربعينيات القرن الماضي انتشرت كتب ساطع الحصري عن القومية والوطنية، وقد لفت نظري وأنا في صفوف الإعدادية أن الحصري يردّ على أنطون سعادة مؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي الذي هاجم العروبة باعتبارها عودة إلى الإسلام من الباب الخلفي، أو باعتبارها غطاء للدعوة إلى الإسلام فقال –أي أنطون سعادة – : لقد عادت “الرجعية المحمدية” بثوب جديد، ألا وهو العروبة. فرد الحصري مطمئًنا بأنّ العروبة التي يدعو إليها لا صلة لها بالأديان ولا بالإسلام من قريب أو من بعيد.
ويستطرد سعد الدين في مذكراته:
“وقد رأى أنطون سعادة في كتابه “نشوء الأمم”: “أنّ المسيحية الشرقية (ينتمي سعادة إلى طائفة اليونان الأرثوذكس) هي هوية الأمة السورية التي لم تحسن الدفاع عن نفسها أمام غزو “الجزيريين” أي العرب المسلمين الفاتحين، وربما كانت الرسالة الحقيقية للحزب إعادة هذه الأمة إلى تلك الهوية، أو إعادة تلك الهوية إليها مرة أخرى”.
وفي تعليقه على مقولة أنطون سعادة يقول حازم صاغية: “تحسّر سعادة على هزيمة سوريا أمام العرب في اليرموك”.. والكلام لايزال للأستاذ سعد الدين.
من المفيد هنا أن نقف على شيء من ترجمة ساطع الحصري (1880-1968)، فهو أحد الرواد الأوائل في حركة القومية العربية، ولد في مدينة صنعاء اليمنية، والده محمد هلال الحصري من أهالي مدينة حلب في شمالي سورية، وتلقى تربيته في شبابه لدى جيل تركيا الفتاة ذات التوجه الطوراني، وكان منخرطًا في سلك (الاتحاد والترقي) الحزب التركي القومي المتعصب الذي حمل راية التتريك ضد العرب. لكن الحصري في لحظة ما انقلب من موقفه الطوراني ليحمل راية القومية العربية وليجعل من نفسه منظّرًا لها.
وصفه خير الدين الزركلي بأنه: كاتب وباحث من علماء التربية، تترّك ثم تعرّب. وأضاف الزركلي أنّ الحصري: نشر مقالات وكتابات عديدة في مجلة “تورك أوجاني” بتوقيع “م. ساطع” (أي مصطفى ساطع) داعيًا إلى التتريك، لكنه ما لبث أن تخلّى عن طورانيته وتحوّل إلى الفكر القومي العربي، على الرغم من أنه لم يكن يُجيد العربية جيدًا، فقد كان يتكلمها برطانة تركية”.
شغل الحصري مناصب إدارية وتربوية عُليا في الدولة العثمانية، وتبوّأ منصب قائم مقام في المنطقة الإيطالية بالنمسا التي تقع ضمن الإشراف الدولي، وهناك راقب شعوب البلقان وهي تتصارع على قضايا قومية، لذلك نما اهتمامه بهذه القضايا، كما أنه عمل في بلاط السلطان عبد الحميد الثاني في الفترة ما بين (1876-1909).
وسبق لساطع الحصري بما قام به من تغييرات في نظم التربية والتعليم، وبما نشره من مؤلفات ومقالات، أن احتل مكانة عالية لدى الاتحاديين وتمتع بمركز مرموق. وكان أول مسؤول عن التعليم العالي في الوزارة التي شكلها الاتحاديون بعد سقوط الخلافة مباشرة، وانتخب عضواً في (جمعية المطبوعات العثمانية) منذ تأسيسها، وكان رئيسًا لمؤتمر المطبوعات، وتعتبر هذه الوظيفة من آخر ما تبوأه ساطع الحصري من مناصب حتى نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918.
وبحكم تنظيره القومي يعتبر الحصري من الآباء الروحيين لكثير من الأحزاب القومية العربية، وفي الفترة التي لعبت السلطات السياسية (التي أصبحت بأيدي العلمانيين بالكلية) الدور الأهم في الصراعات الفكرية والثقافية، فإننا سنرى أن وزارات المعارف والمجامع العربية تفتح له أبوابها من قطرٍ إلى قطرٍ (سورية، العراق، مصر، لبنان، الجامعة العربية).
دعته الحكومة العربية التي تشكّلت في سورية بعد الحرب الأولى للمشاركة معها مفتشًا عامًا للمعارف ثم مديرًا عامًا للمعارف. ويوم أعلن المؤتمر السوري استقلال سورية وتُوج فيصل بن الحسين ملكًا على سورية بتاريخ 8 آذار1920، اختير الحصري وزيرًا للمعارف فيها، وأصدر مجلة باسم (التربية والتعليم) نشر فيها عدة مقالات تربوية ووطنية.
وبالجملة فقد أحرز الحصري شهرة وافرة في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية باعتباره فيلسوف القومية العربية. ويرى عدنان سعد الدين أن الشهرة التي نالها الحصري، والتسهيلات التي قُدمت له في الدول العربية، ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بموقفه الأصلي من الدولة العثمانية ومن الوحدة الإسلاميةن أكثر من ارتباطها بمقدرة الرجل وإمكاناته العلمية.
في المجلد الثاني من مذكراته يذكر الأستاذ خالد العظم أن وزارة المعارف في حكومة سعد الله الجابري عام 1949، تبنت آراء الحصري وبرامجه، ويقول: “تجلى نشاطها في تنفيذ ما اختطه السيد ساطع الحصري من برامج “.
وفي معرض نقده لتلك البرامج وحديثه عن التعليم والتعليم المهني ونوعية المواد والتعليم المهني، يرى العظم أنها كانت “كارثة على شبابنا”.. “وأدت إلى النتائج السيئة التي بدأنا نلمسها”.. ويضيف: “ولم يمض إلا ثلاث سنين حتى اضطرت الحكومة سنة 1952 إلى التراجع عنها..
ويذكر الدكتور أديب نصور نحوًا مما جاء في مذكرات خالد العظم حول الأستاذ ساطع الحري وأثره في التعليم، فيقول في كتابه “وطنيون ووطن”:
“لقد فشلت الجمهورية العربية السورية في تربية أبنائها وقصّر رجال المعارف حين قصروا همّهم على تيسير العلم لأكبر عدد من الناس دون النظر إلى موضوع العلم وغرض التربية. ويؤسفني أن ألاحظ أن محاولة الأستاذ الكبير ساطع الحصري، على جلالها، استهدفت إعداد البرامج، وتنظيم التفتيش، واختصار الإدارة، أي أنها تناولت آلة المعارف و “تكنيك” التربية ولم تتناول بصورة مباشرة فعالة روح الناشئ وشخصية المواطن”.
ولعل ما ذكره الدكتور نصور يلقي بعض الضوء على الخلل الثقافي الذي تعرضت له ثقافة ذلك الجيل والأجيال التي تلته، ويشير بطريقة أو بأخرى إلى التغييرات العميقة التي طرأت على المفاهيم والأفكار ومضامينها الثقافية والاجتماعية، وفي مقدمتها الوطنية والقومية.
ويحسن هنا أن ننقل ما قاله الشيخ علي الطنطاوي الذي عاصر ساطع الحصري وعرفه عن كثب:
“سابق من السابقين من الموجهين والمربين العرب، عاش حياته الطويلة جدًا ومات وهو لا يحسن العربية لا نطقًا ولا كتابة، مفكر ممتاز، كان شيخ المشتغلين في التربية من عام 1908، في تركيا، ثم في الشام، ثم في العراق، وقد تسلّم المعارف من بابها إلى محرابها، وأصدر يومئذ مجلة هي أولى مجلاتها، ثم أشرف على المعارف في سوريا بعد الاستقلال، وهو نسيب الزعيم سعد الله الجابري، ثم عمل في مصر في جامعة الدول العربية”.
وختم الطنطاوي بقوله: “أما هل أحسن أم أساء؟ فالجواب لا يرتضيه لو كان حيًا”.
ونختم بهذه المفارقة التي وردت في مذكرات عدنان سعد الدين:
“ساطع الحصري الذي يبالغ كثيرًا بعلمانيته في دعوته إلى العروبة في كتابه (يوم ميسلون) يذكر أن الجنرال -غوابه- الذي قاد الحملة على دمشق يوم ميسلون بأمر الجنرال غورو كتب في مذكراته: “أنا في دمشق، إن هذا الاسم كان يمثل لي شيئًا خرافيًا عندما كنت أقرأ في سجلات عائلتي، وأنا في سن الطفولة: أن جان مونغوليه الجد البعيد لجدتي من جهة أمي -جان لويز- كان قد وقع في الأسر خلال الحملة الصليبية الثانية عام 1147م، ونقل إلى دمشق، إنه كان من السواد الأعظم- أي من الجنود وليس من القادة- ولذلك لم يعامله السراقون – أي المسلمون من جنود صلاح الدين – المعاملة الحسنة التي كانوا يخصون بها الفرسان اللامعين، فجعلوا منه عبدًا يشتغل في أحد مصانع الورق التي يصنع فيها الورق من القطن، فاشتغل جان المسكين هناك شغلاً شاقًا ثلاث سنين، وبعد ذلك فرّ من دمشق، وتمكن من الالتحاق بالجيش الصليبي، بعد اجتياز آلاف المخاطر، وعندما عاد إلى مسقط رأسه بعد غياب دام عشر سنين، أسس أولى طواحين الورق التي عرفتها أوربا”.
يقول عدنان سعد الدين: “فأين هذا من علمانية الحصري؟”.
– الخاتمة.. وزكي الأرسوزي
نتوقف هنا قليلا عند مفكر آخر يعتبره القوميون من أبرز مفكريهم، لنتعرف أكثر إلى طبيعة الثقافة التي فُرضت على الأجيال خلال العقود الأخيرة.
الدكتور سامي الجندي، وهو أحد مفكري البعث وقادته وسياسييه، وكان شديد الإعجاب بالأرسوزي، ويعتبره أستاذه وملهمه، وأنه دخل معترك السياسة بسببه.. يقول الجندي:
“كنا مثاليين نقيم علاقة المجتمع على الحب، وكان الاستاذ – أي الأرسوزي- يتحدث كثيرًا عن المسيح وأظنه تأثر كثيرًا بكتاب نيتشه.. ويرى الجاهلية مثله الأعلى، يسميها المرحلة العربية الذهبية.. بل ذهب أبعد من ذلك فتبنى ما كان جاهلياً في الإسلام فقط. كان إنسان الرفض، ورفضنا معه..”.
ويضيف الجندي في كتابه “البعث”:
“ناقشته سنة 1945 بالقرآن فعاب علي نزعتي قائلا: أنت راهب في ثياب ثوري”, “وجدت في الحديث أنه لم يقرأ حتى القرآن قراءة جدية، وقد لا يعلم كثيرون أنه بدأ يدرس العربية سنة 1940، كان يفضل الحديث قبل ذلك بالفرنسية”. البعث ص 27 و 28
وظل زكي الأرسوزي منظر الأجيال لعقود وسنوات طويلة، لاسيما بعد أن انفرد بفكر البعث بثوبه الطائفي بعد حركة 23 شباط وإقصاء مفكريه ميشيل عفلق وشبلي العيسمي ومنيف الرزاز..
الأرسوزي هذا؛ كان يكتب في مجلة جيش الشعب، وينشر أفكاره وآراءه عن طريقها. كتب مرّة عما أسماه ب “أسطورة آدم”، وادعى مرة أن العصر الجاهلي هو العهد الذهبي للعرب، وأن الانحطاط والانحراف عن العروبة وقيمها، بدأ مع ظهور الإسلام. قدّمه حافظ أسد وما يُسمى بالبعث اليميني ليحل محل ميشيل عفلق، وكان يرى نفسه ألصق بالفكر القومي منه، وينسب إليه أنه اتهم عفلق بسرقة أفكاره.. قربه حافظ أسد كثيرًا، وكان يصطحبه معه إلى معسكرات الجيش ليغذيهم بأفكاره ونظرياته التي رأينا طرفًا منها على لسان واحد من أكثر المقربين منه..
(المصدر: رسالة بوست)