مقالاتمقالات مختارة

المُسلّمات الشرعيّة في خطر

المُسلّمات الشرعيّة في خطر

بقلم الشيخ محمد خير موسى

في مجموعة على إحدى وسائل التّواصل الاجتماعي للحوارات الشرعيّة تضمّ عشرات العلماء والدّعاة طرح أحدهم سؤالًا حول حكم تغطية شعر المرأة، وهل الحجاب فرض؟!

سارع العديدُ من العلماء الكرام إلى استغراب طرح السّؤال، واستهجان الحديث في هذه القضيّة كونها من “المُسلّمات” المفروغ منها فلا حاجة للحديث فيها أصلًا.

المسلّمات الشرعيّة في مهبّ رياح الشّكّ والتّشكيك

في عصر الانفتاح المطلق على كلّ شيءٍ فكريًّا وأخلاقيًّا، وفي زمن تفجّر المعلومات والثورة التقنيّة، وتحت وطأة هيمنة وسائل التّواصل الاجتماعيّ التي غدت أداةً مفتوحةً للجميع لإعادة صياغة وعي الجمهور.

إضافة إلى ما أثمرته مرحلة ما بعد ثورات الرّبيع العربي والثّورات المضادّة من اهتزازاتٍ فكريّة عميقة، وتفجُّرٍ للأسئلة بطريقة تنسجم مع هدم كلّ شيء والانعتاق من الخضوع لأيّة سلطة على الإطلاق.

كلّ ذلك جعل الكثيرَ من المسلّمات الشرعيّة؛ الإيمانيّة منها والفقهيّة على حدّ سواء محلًا للشّك أو عرضةً للتشكيك

فلم تعدُ مسألةٌ مثل وجود الله تعالى وما يترتّب عليها من قضايا الاعتقاد من المسلّمات عند شريحة من الشّباب الجديد

ولم تعد قضيّة صلاحية الإسلام لكل زمان وزمان من المسلّمات، وكذلك غدت قضيّة مثل وجوب الحجاب مثار جدال ونقاش جديدٍ، ومسائل مثل هل الإسلام في ذاته شريعة الحق أم لا؟!

وغير ذلك الكثير من القضايا التي كانت عند المشتغلين في حقل الدّعوة والعلم الشرعيّ من المسلّمات التي لا حاجة للحديث فيها.

معضلةٌ في الخطاب الدّعويّ

عدم الالتفات إلى هذا التّطوّر الكبير جعل الخطاب الدّعويّ والشّرعيّ العام القائم على الاعتقاد ببقاء هذه المسلّمات في الوعي الجمعيّ ينتقل تلقائيًّا إلى مرحلة ما بعدَ المسلّمات.

وهذا ملحوظ في البرامج الدينيّة في القنوات الفضائيّة وفي الدّروس المسجديّة، وكذلك يحضرُ بقوّة في المناهج التربويّة للجماعات الإسلاميّة المختلفة؛ حيث يتمّ التركيز على قضايا ما بعدَ المُسلّمات من القضايا الشرعيّة والتربويّة.

هنا يغدو الخطاب الدّعوي والشّرعيّ حاله كحال من يبذل جهده لبناء الطابق الثّاني والثّالث، دون أن ينتبه إلى أنّ الطّابق الأرضيّ غير موجود أصلًا؛ فيكون كمن يبني في الهواء لا يستقرّ له بناء ولا يجني غير المزيد من الرّكام.

فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ كيف يمكن أن يكون للحديث عن “علوّ الهمّة” أيّة جدوى إن كان المتلقّي عنده شكّ في أنَّ الإسلام هو الدّين الحقّ، أو عنده شكّ أصلًا في الجدوى من الوجود أو الغاية من الرسالات؟!!

وكيف يمكن أن يكون للكلام عن فضائل الصّلاة وأثرها في الحياة أيّة قيمة والمتلقّي يشكك في أنَّ الصّلاة أصلا أمر يريده الله تعالى، ويتفجّر في أعماقه سؤال؛ ما حاجة الله تعالى لصلاتنا حتّى يفرضها علينا؟!

تألِيهُ العقل

من أهمّ الأسباب العميقة التي أدّت إلى حالة التّشكيك بالمسلّمات ما نراه من استفحال ظاهرة تأليه العقل.

بحيث يغدو العقل من القداسة بمكان فيكون هو الحاكم على النّصوص الشرعيّة والمهيمن عليها

ويغدو الباب مُشرَّعًا تحت عنوان إعمال العقل وعدم قبول الاتّباع بغير اقتناع عقليّ لهدم المسلّمات الشرعيّة التي تستند أصلًا إلى نصوص واضحة وقطعيّة الثّبوت والدلالة؛ فلا حرمة لشيءٍ أمام العقل المقدّس.

يسير جنبًا مع هذا هجومٌ شرسٌ على كلّ من يحاول وضع العقل في نصابه ومعرفة حدوده وطاقته، فيغدو معطّلًا للتّفكير ومنغلقًا وقامعًّا مستبدًّا!!

وكأننا محكومون بالقسمة الثّنائيّة بين تألِيه العقل أو تعطيله، والمطلوب هو إعمال العقل إلى غايته القصوى دون تعطيلٍ ولا تأليه!!

ورحم الله الإمام السّفاريني الذي يقول في كتابه “لوامع الأنوار البهية”:

“فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعُقُولَ، وَأَعْطَاهَا قُوَّةَ الْفِكْرِ، وَجَعَلَ لَهَا حَدًّا تَقِفُ عِنْدَهُ مِنْ حَيْثُ مَا هِيَ مُفَكِّرَةٌ، لَا مِنْ حَيْثُ مَا هِيَ قَابِلَةٌ لِلْوَهْبِ الْإِلَهِيِّ

فَإِذَا اسْتَعْمَلَتِ الْعُقُولُ أَفْكَارَهَا فِيمَا هُوَ فِي طَوْرِهَا وَحَدِّهَا وَوَفَّتِ النَّظَرَ حَقَّهُ، أَصَابَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى

وَإِذَا سُلِّطَتِ الْأَفْكَارُ عَلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ طَوْرِهَا وَوَرَاءَ حَدِّهَا الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ لَهَا، رَكِبَتْ مَتْنَ عَمْيَاءَ، وَخَبَطَتْ خَبْطَ عَشْوَاءَ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا قَدَمٌ، وَلَمْ تَرْتَكِنْ عَلَى أَمْرٍ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ

ثمّ يقول: فَإِنَّ تَسْلِيطَ الْفِكْرِ عَلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ حَدِّهِ تَعَبٌ بِلَا فَائِدَةٍ، وَنَصَبٌ مِنْ غَيْرِ عَائِدَةٍ، وَطَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَكَدٌّ مِنْ غَيْرِ مَنْجَعٍ، وَقَدْ أَمَرَنَا بِالْإِيمَانِ بِالْمُتَشَابِهِ”

لَبرَلَةُ الإسلام

من الأسباب العميقة التي تقود إلى هدم المسلّمات وإذكاء التشكيك فيها؛ التّعامل مع الإسلام وأحكامه وقضاياه بنزعةٍ ليبراليّة.

بحيث يتمَّ إخضاع المسلّمات الشرعيّة للأفكار الليبراليّة التي تهيمن اليوم على الواقع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ للمنظومة العالميّة ممّا يجعل هذه النّزعة تتسرّب إلى آليّة ومنهجيّة تفكير الكثير من الشّباب في التعامل مع المسلّمات الشرعيّة.

فعلى سبيل المثال غدت المسلّمة القائلة بأنَّ الإسلام منهج يحكم الحياة بكلّ تفاصيلها في مهبّ الرّيح عند كثير من الشباب “الإسلامي” الذين غدوا يرون أنَّ الشّريعة لا علاقة لها بالسّياسة والعمل السياسيّ، ويرون في الميكافيللية نهجًا سياسيًا لا يتعارض مع الإسلام الذي ينتمون إليه.

 ومنهم من غدا يعتقد بأنّ الإسلام لا نظامَ للحكم فيه وليس فيه نظام دولة، وليس فيه نظام اقتصاديّ

ومنهم من يعلي من شأن الحريّة إلى درجةٍ يجعلها حاكمةً على النّصوص والأحكام فيتحلل من بعض الأحكام الشّرعيّة كونها تتعارض وحريّة الفرد بناء على وجهة نظره.

ممّا ينتج دعواتٍ مبطّنةٍ إلى فصل الدّين عن السّياسة والاقتصاد بل عن عموم أخلاقيّات الحياة.

قضيّة عادلةٌ ومحامٍ فاشل

ما أصدق عبارة الشّيخ محمّد الغزالي: ” الإسلام قضية عادلة وقعت بين أيدي محامين فاشلين!”

فلا يكاد يمرّ يومٌ إلّا وتتعرّض فيه مسلّمات الشريعة للهجوم عليها من “ميليشيات” فكريّة يجمعها العداء للإسلام؛ فترمى الشّبهات، وتنتشر عبر الشاشات وفي وسائل التّواصل الاجتماعيّ، فلم يبقَ ثابتٌ من ثوابت الإسلام ولا مسلّمةٌ من مسلّمات الشّريعة إلّا أثيرت حولها الزّوابع

ولا تجد هذه الهجمة العدد الكافي ممن يتصدّى لها ويدحضها وينقض عراها؛ فالأصوات والأقلامُ الخيّرة العاقلة الرّاشدة في هذا المجال موجودةٌ لكنّها قليلةٌ جدًّا

 فتنتشر الشّبهات وتغدو المسلّمات الشرعيّة عرضة للتشكيك أمام المشهد البائس من تركيز الهجوم وتكاثر السّهام وندرة الدّروع الواقية.

واجب الوقت في الخطاب الدّعويّ والشّرعيّ

إنَّ إعادة الحديث في المسلّمات الشرعيّة والبديهيّات الإيمانيّة هو من الضّرورة بمكان في هذا الوقت.

إنَّ إعادة طرح أصول الإيمان وأصول الشّريعة والقضايا الكبرى والمسائل الأساسيّة التي يعدّها الدّعاة من أوضح الواضحات هو مهمّة شاقّة لكنّها تغدو واجب الوقت إذ تتزلزل الأركان وتميد الثّوابت وتميع الأسس.

على أنَّ الطرح ينبغي أن يكون طرحًا نوعيًّا من حيث الشّكل والمضمون، بحيث يجمع بين التبسيط والتعميق، والبعد عن التّسطيح بدعوى التّبسيط.

وعلى الخطاب أن يجمع أيضًا بين المسار البنائيّ الذي يعيد طرح المسلّمات الشرعيّة بغية تثبيتها وترسيخها، وبين المسار العلاجيّ الذي يضع الشبهات المثارة على طاولة النّقض والدّحض بعمق ووضوح بلا تكلّف ولا تعقيد.

إنّها معركةٌ شرسةٌ تستهدف قواعد البنيان وأعمدة القصر، والخسارة كارثيّة المآلات على المستويات كلّها؛ فهل من مدّكر؟!

(المصدر: الجزيرة مباشر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى