إعداد مجلة البيان
بينما كانت أنظار العالم تتجه نحو التخلص من تنظيم الدولة “داعش” في الموصل، كان لإيران مآرب أخرى، أبعد من مجرد السيطرة على المدينة ذات الأغلبية السُنية، وما تحرير تلك المدينة العراقية إلا خطوة مهمة على طريق مشروعها الاستراتيجي القديم الذي يتخذ منها ممراً لتأمين طريقها نحو الحدود السورية، وقد عززت نتائج المعركة التي نفذتها قوى التحالف الغربي جواً والقوات العراقية والإيرانية براً، من مساعي إيران الرامية لتحقيق أهدافها المتعلقة بتعزيز هيمنتها الإقليمية وربط طهران عبر العراق وسوريا بجنوب لبنان.
رغم تمدد النفوذ الإيراني في العراق، إلا أن طموحها تجاوز مسألة الإمساك بمفاصل النظام العراقي، فالوجود السُني مازال يمثل واقعاً ديمغرافياً صعباً وغير مريح للجمهورية الإيرانية التي سهلت لبعض الجماعات الإرهابية مسألة الدخول إلى بعض المدن العراقية ولا سيما الموصل، فتنظيم الدولة “داعش” لم يقتحم مدينة الموصل، لكنه أُدخل إليها بتسهيلات يعلمها الجميع، فرئيس الوزراء السابق نوري المالكي كان قد أمر قواته بالانسحاب من المدينة في وقت سابق، وهو ما أعطى الحكومة العراقية ومن خلفها إيران، مسوغا لإنشاء مليشيا الحشد الشعبي.
في هذه الأثناء بدأت إدارة ترامب تتحدث عن مخاوفها المزعومة على مستقبل العراق بعد “داعش”، غير أن المفارقة المثيرة للدهشة أن القلق الأمريكي دائما ما يتحول إلى واقع، فطهران لم تكن يوماً من القوى التي تُخيب ظنون واشنطن، ودائما ما تكون عند حسن الظن الإدارة الأمريكية، لذلك تكون دائماً الرابح الأكبر بعد كل معركة يخوضها الجيش الأمريكي في المنطقة، وآخرها معركة الحسم في الموصل.
ولعل ما يؤكد هذا السيناريو المكرر، ذلك المقال الذي نشرته صحيفة الغارديان البريطانية في يوليو 2016، حيث عرج “سوماس ميلين” على الدور الأمريكي في دعم وتمويل الإرهاب من أجل تفتيت المنطقة وتحويلها إلى دويلات لخدمة الكيان الصهيوني وإيران، ويؤكد الكاتب أن محكمة بريطانية كانت قد اضطرت إلى إيقاف محاكمة رجل سويدي يدعى “بيرلهين غيلدو” بتهمة ممارسة الإرهاب في سوريا، بعد الكشف عن دور المخابرات البريطانية في تمويل نفس الجماعة المعارضة التي ينتمي إليها!.
ولم يكن خفياً على أحد، ذلك الدور الأمريكي الذي تجاهل دعم المعارضة وقوى الثورة في سوريا وغض الطرف عن تنامي تنظيم داعش في سوريا والعراق، فمن يصدق أن نحو أثني عشر قاعدة عسكرية أمريكية منتشرة في العراق، كانت عاجزة عن منع الجماعات الإرهابية من الوصول إلى المدن العراقية! فذلك المنطق الأمريكي يصعب على أي متابع فهمه إلا في سياق انسجام واضح في السياسات الأمريكية ونظيرتها الإيرانية، فتبادل المصالح بين الجانبين تؤكده مواقفهما من التطورات في مناطق الثورات، فكانت طهران وواشنطن معنيتين بإجهاض أي نجاحات للثورة العراقية كما هو الحال في سوريا، وهو ما كان كفيلاً بمنح القوتين شرعية التدخل بحجة محاربة الارهاب.
رغم نجاح إيران في فرض نفوذها على مرأى ومسمع الإدارة الأمريكية، إلا أنها ماتزال تتبنى سلوك سياسي حذر تجاه الساسة العراقيين، ولا تدفع الأبواب المغلقة، وتحاول دائماً أن تَظهر للقيادة السياسية العراقية بِمظهر المُدافع عن مصالح العراق، لكنها لا تتورع عن غرس بذور التَدخل وفرض النفوذ عبر تطوير قدرات وإمكانيات المليشيات الشيعية في العراق.
وبالرغم من محاولاتها لإخفاء تطلعاتها الطائفية عبر التغطية على مشاركة ميليشياتها في معركة الموصل، وتقديم إيحاءات بعدم المشاركة العسكرية فيها، تجنباً لإثارة الأغلبية السُنية في المدينة، إلا أنها سرعان ما كشفت عن نواياها الحقيقية مطلع مايو الماضي، إذ أكدت تقارير عراقية على أن فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني كان قد بدأ في إنشاء عشرات المقرات العسكرية والمكاتب السياسية غرب مدينة الموصل، وذلك تحت غطاء الحشد الشعبي الذي أضحى بضغط إيراني جزءً من الجيش العراقي، وذلك بعد قرار حكومة العبادي الذي دمج نحو 150 ألف مقاتل موالون لإيران إلى صفوف الجيش.
بدورها أكدت تقارير مختلفة على أن أمين عام حزب الدعوة الاسلامي “نوري المالكي” هو من يتولى الإشراف على هذه المقرات ويقدم لها الدعم المالي السخي القادم من إيران، فطهران إذاً لا تنظر للموصل كمنطقة نفوذ فقط، لأن مقراتها السياسية لها مهمات أخرى تبدو أكثر أهمية، فمالها السياسي لا يتوقف عن محاولة استقطاب رؤساء العشائر والوجهاء داخل المدينة، لأنها معنيه بكسب ثقة الغالبية، أو على الأقل تحييد أي اعتراضات سُنية لتمرير مشاريعها.
لذلك أشارت تصريحات المتحدث باسم العشائر العراقية في محافظة “نينوى” الشيخ “مزاحم الحويت” إلى خطورة ذلك المخطط الإيراني، مؤكداً لصحيفة الشرق الأوسط، على اهتمام إيران بالسيطرة الكاملة على أمن مدينة الموصل عبر نشر الجماعات الشيعية المسلحة، مع حرصها على، الحصول على أكبر حصة من المقاعد البرلمانية في المدينة، وكذلك غالبية مقاعد مجلس المحافظة تمهيداً لتمزيق العرب السُنه وتشييع الموصل.
لقد وصل النفوذ الإيراني في الموصل والمناطق الحدودية مع سوريا إلى حد التحالف مع شيوخ العشائر عبر دعمهم بالمال والسلاح، فـ شيخ قبيلة شمر العراقي البارز، “عبد الرحيم الشمري” بوصفه شخصية جوهرية في أقصى الشمال، بات لديه قاعدة ونفوذ بالقرب من معبر “ربيعة” الواصل إلى سوريا، حيث يتلقى دعم مادي من وحدات الحشد الشعبي، التي استغلت شيوخ العشائر في المناطق الحدودية لتمكينها من السيطرة على الموصل، ومن تم إحكام الخناق على الأقاليم العراقية القريبة، لاسيما إقليم كردستان العراق.
إن تعزيز إيران لوجودها العسكري في الموصل سيمكنها مع مرور الوقت من تحقيق طموحاتها التي كانت تراها شبه مستحيلة في الماضي القريب، فالسيطرة على الموصل ستقرب عليها المسافات مع حلفاؤها في دمشق، خاصةً وأن الطريق البري مع سوريا ظل حلماً يراود طهران، التي واجهت الكثير من العراقيل في نقل المليشيات الشيعية والسلاح إلى الأراضي السورية عبر العراق.
ويفسر ذلك حرص إيران على تكثيف وجودها العسكري في الموصل، حيث وصلت مكاتبها ومقراتها داخل المدينة إلى نحو 43 مقر تتبع ظاهرياً للحشد الشعبي، وهو ما من شأنه أن يهيئ لها الظروف المناسبة لتحقيق تطلعاتها.
في السياق عينه وقفت إيران خلف “نوري المالكي” ومكنته من فتح مكتب لما يُسمى “ائتلاف دولة القانون”، ووفقاً لما هو متاح من معلومات، أن تلك المقرات والمكاتب لا تخضع لرقابة الحكومة العراقية، ولا حتى الحكومة المحلية في المحافظة.
لقد شهد العراق خلال السنوات الأخيرة تحول “جيو استراتيجي” بالغ التعقيد، إذ مكنت الجماعات الشيعية العراقية – المدعومة من الحرس الثوري الإيراني- طهران من ملئ الفراغ في مدن ومحافظات عراقية عدة، وكان آخرها مدينة الموصل، ومع خروج تنظيم الدولة “داعش” من المدينة، وما صاحبه من إنجازات ميدانية حققها النظام العلوي في سوريا مؤخراً على حساب قوى الثورة التي تقهقرت بفعل التحولات التي تشهدها سوريا، اندفعت إيران نحو توظيف تلك المعطيات الجديدة، حيث تسعى إلى استغلالها بشتى السُبل من خلال رهانها على شرعية وجودها في العراق وسوريا التي تحظى بقبول دولي، وذلك بهدف النفاذ إلى البحر المتوسط، خاصةً وأن الحديث الآن يجري عن مساعي إيرانية لتدشين ميناء مستقل بها على ساحل سوريا الشمالي.
ولا شك في أن أي نجاح إيراني مرتقب نحو الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، سيُعد انتصاراً استراتيجياً على حساب كافة دول المنطقة، سواءً في العالم العربي أو تركيا، فالسيطرة على العراق والشام لن يُعزز طموحاتها للهيمنة الاقليمية فحسب، بل يُجنبها حركة دوريات المراقبة التي تعج بمياه الخليج، حينها يصبح نقل سلاحها وميلشياتها إلى حلفاؤها أيسر، كما أن انفتاحها التجاري والثقافي على دول المنطقة يمثل هدف استراتيجي لإيران التي تدرك أهمية الأسواق العربية.