مقالاتمقالات مختارة

الموازنة بين المصالح والمفــاسد .. فقه دقيق

بقلم د. هاني بن عبدالله بن محمد الجبير

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد جاءت الشريعة بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ فكل ما دعت إليه فهو خير ومصلحة ونفع، وكل ما نهت عنه فهو شر وفساد وضرر. ومَن تتبَّع أحكام الشريعة، واستقرأ أدلتها ونصوصها وجدها وضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل؛ فإن الله – تعالى – يقول: {رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، ويقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْـمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7]، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ}. [الذاريات: 56]

وكذلك في سائر تفاصيل الأحكام يُعقِبُها الله – تعالى – بذلك: كقوله بعد آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6]. وبعد الصيام: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179].

ومن ضرورة هذه القاعدة أن ما كان شراً وفساداً فالشريعة لا بدَّ ناهية عنه، زاجرة عن ارتكابه، وما كان خيراً وحسناً فالشريعة آمرة به حاثَّة عليه، (وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقرِّباً إلى الله ولم يشرعه الله ورسوله؛ فإنه لا بد أن يكون ضرره أعظم من نفعه، وإلا فلو كان نفعه أعظم غالباً على ضرره لم يهمله الشارع؛ فإنه حكيم لا يهمل مصالح الدين ولا يفوت المؤمنين ما يقرِّبهم إلى رب العالمين)[1].

ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها يدركها الإنسان؛ فلا يخفى على العاقل أن تحصيل المصلحة ودفع المفسدة حَسَنٌ مطلوب، ومعرفة كون الشيء مصلحة أو مفسدة ظاهرة؛ وإنما الذي يحتاج إلى النظر هو اجتماع (المصالح أو المفاسد) أو (المصالح والمفاسد) في الشيء الواحد وهو محل ما نتناوله منحصراً في خمس مسائل.

أولاً: العمل عند تعارض مصلحتين:

إذا تعارضت مصلحتان وازدحتما بحيث لم يمكن الجمع بينهما وكان لا بد من ترك واحدة منهما للإتيان بالأخرى؛ فالمتعين فعل ما مصلحته أرجح وترك ما مصلحته أقل.

قال – تعالى -: {فَبِشِّرْ عِبَادِ17 الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17-18].

وقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} [الزمر: 55].

وقال: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } [الأعراف: 145].

قال ابن تيمية: (التعارض بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما، فتقدَّم أحسنهما بتفويت المرجوح كالواجب والمستحب، وكفرض العين وفرض الكفاية، مثل تقديم قضاء الدين المطالَب به على صدقة التطوع، وتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعيَّن وتقديم نفقة الوالدين عليه، كما في الحديث الصحيح: «أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها. قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قيل ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله»[2].

وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسُّنة متعين على متعين، ومستحب على مستحب، وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان، وتقدم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب، وإلا فقد يترجح الذكر بالفهم والوجَل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر، وهذا باب واسع)[3].

وقد ذكر العز بن عبد السلام هذه القاعدة ثم مثَّل لها بأمثلة كثيرة، كالمفاضلة بين طالبي الإمامة والأذان، والإحسان إلى الأبرار أو الفجار، وتقديم إنقاذ الغرقى على أداء الصلوات، وما شرعت له الجماعة على ما لم تُشرَع له[4]، وكالمفاضلة بين طلب العلم والعبادة، أو الدعوة إلى الله.

ومن تطبيقات ذلك ما رواه عبد الرحمن بن يزيد قال: (ما رأيت فقيهاً قط أقلَّ صوماً من عبد الله بن مسعود فقيل له: لمَ لا تصوم؟ قال: إني أختار الصلاة على الصوم، فإذا صمت ضعفت عن الصلاة)[5].

فإذا تساوت المصلحتان، أو لم يمكن الترجيح بينهما، فإن الإنسان يخيَّر بينهما فيفعل أيهما شاء إن كان الأمر متعلقاً بذات الإنسان، وإن تعلَّق بغيره فإنه يختار بينهما باستعمال القرعة؛ لأن فيها فضّاً للنزاع وسدّاً لباب العداوة، ومثال ذلك: لو تشاحَّ اثنان في إمامة أو أذان، ولم يكن لأحدهما مرجِّحٌ، َأُقرِعَ بينهما، فمن خرجت له القرعة قُدِّم على غيره. قال – تعالى -: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44].

وقد كان النبي # إذا خرج في سفر يُقرِع بين نسائه فمن خرج سهمها خرجت معه[6].

قال ابن حجر: (فائدة القرعة ألَّا يْؤثِر بعضَهُن بالتشهي؛ لما يترتب على ذلك من ترك العدل بينهن)[7].

ثانياً: العمل عند تعارض المفاسد:

إذا اجتمعت مفسدتان بحيث لم يمكن دفعهما جميعاً، بل كان في دفع إحداهما ارتكاب للأخرى ولا بد، فالمتعين ارتكاب أخفِّهما وأيسرهما لدفع أشدهما.

قال ابن تيمية: (التعارض بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما… كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب، كما فعلت أم كلثوم. وكتقديم قتل النفس على الكفر، كما قال – تعالى -: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]. فتُقتَل النفوس التي تحصل بها الفتنة عن الإيمان؛ لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس، وكتقديم قطع السارق ورجم الزاني وجلد الشارب على مضرة السرقة والزنا والشرب، وكذلك سائر العقوبات المأمور بها؛ فإنما أمر بها – مع أنها في الأصل سيئة وفيها ضرر – لدفع ما هو أعظم ضرراً منها، وهي جرائمها؛ إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير…)[8].

ومن تطبيقات ذلك ما فعله عبد الله بن حذافة السهمي، – رضي الله عنه – لما عرض عليه ملك النصارى أن يقبِّل رأسه ويخلي له مئة أسير، فقبَّل رأسه[9].

وفي قصة الخَضِر مع موسى لما خرق السفينة، ولما قتل الغلام شواهد لذلك.

وإذا تساوت المفاسد من كل وجه فيتخير الإنسان.

ثالثاً: العمل عند تعارض المصالح مع المفاسد:

إذا تعارضت المصلحة مع المفسدة بحيث لم يمكن فعل المصلحة وتحصيلها إلا بارتكاب المفسدة، ولم يمكن دفع المفسدة إلا بتفويت المصلحة، فإنَّ المتعين الموازنة والترجيح بين المصلحة المفوَّتة، والمفسدة المرتكبة، والعمل بمقتضى الترجيح.

يقول العز بن عبد السلام: (إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله فيهما؛ لقوله – سبحانه -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16].

وإذا تعذر الدرء والتحصيل؛ فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوت المصلحة. قال – تعالى -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْـخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219].

حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما… وإذا كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة)[10].

وقال ابن تيمية: (التعارض بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما، بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة، فيرجَّح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرَّة السيئة… مثل أكل الميتة عند المخمصة؛ فإن الأكل حسنة واجبة، لا يمكن إلا بهذه السيئة ومصلحتها راجحة، وعكسه الدواء الخبيث؛ فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج؛ لقيام غيـره مقـامه، ولأن البُـرْء لا يتيقن به… وجنس هذا مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه، وإن اختلفت في أعيانه، بل ذلك ثابت في العقل، كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر؛ وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين، وشر الشرين، ويرجِّحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان، كما قال بعض العقلاء: ستون سنة من سلطان ظالم، خيرٌ من ليلة واحدة بلا سلطان… ثم الولاية وإن كانت جائزة ومستحبة، أو واجبة، فقد يكون في حق الرجل المعيَّن غيرها أوجب، أو أحب، فيقدم حينئذٍ خير الخيرين وجوباً تارة، واستحباباً أخرى، ومن هذا الباب تَوَلِّي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان الملك وقومه كفاراً كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ} [غافر: 34]. وقال – تعالى – عنه: {وَقَالَ الْـمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ 54 قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 54 – 55].

ومعلوم أنه مع كفرهم لا بدَّ أن يكون لهم عادة وسُنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون جاريةً على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كما يريد، وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين ما لم يكن يمكنه أن يناله بدون ذلك)[11].

ولهـذه القـاعدة أمثلـة وتطبيقـات وشواهد مـن الشرع لا تحصى، منها: أن مفسدة الخمر والميسـر أعظـم من النفـــع فيهما ولذا حُرِّمتا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْـخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219].

وعن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي # قال: «لولا أن قومك حديثٌ عهدُهم بجاهلية، لهدمت الكعبة ولجعلتها على قواعد إبراهيم»[12].

وقد أورده البخاري في باب (من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه).

وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: (كان رسول الله # يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا)[13].

فترك مصلحة كثرة الوعظ والتعليم، خوفاً من مفسدة الفتور والملل.

وقد ذكر العز بن عبد السلام أمثلة لهذا التعارض بلغت ثلاثة وستين مثالاً، منها: الغيبة مفسدة محرَّمة، لكنها جائزة إذا تضمَّنَت مصلحة واجبة التحصيل مثل أن يشاور في مصاهرة إنسان، فيذكره بما يكره، كما قال النبي # لفاطمة بنت قيس لما خطبها أبو جهم ومعاوية: «إن أبا جهم ضراب للناس، ومعاوية لا مال له»[14].

وكذلك القدح في الرواة.

وكذلك كشف العورات والنظر إليها مفسدتان محرمتان ويجوزان لما يتضمنانه من مصلحة الختان، أو المداواة[15].

ومن تطبيقات هذه القاعدة: ما نُقل عن عبد الملك بن عمر ابن عبد العزيز – رحمهم اللـه -، أنه قـال لأبيـه لمـا ولـي الخـلافة: ما لك لا تنفذ الأمور، فوالله ما أبالي لو أن القـدور غلـت بي وبك فـي الحق، قال: لا تعجل يا بني، فإنَّ الله ذم الخمر في آيتين وحرمهما في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة[16].

ومن ذلك أيضاً كتمان العلم الذي أوجب الله – تعالى – نشره وبثَّه بين الناس إذا كان بعض الناس يقصر فهمه عنه فيكون فتنة، أو يحمله على غير محله.

ولذا قال علي – رضي الله عنه -: (حدِّثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله)[17].

ولما قال النبي # لمعاذ: «من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة». قال: ألا أبشِّر الناس؟ قال: «لا، إني أخاف أن يتكلوا»[18].

ولما حدَّث أنس بن مالك – رضي الله عنه – الحجاجَ بن يوسف بعقوبة النبي # للعرنيين. قال الحسن البصري: وددت أنه لم يحدِّثه بهذا[19].

ونقل عن أنس أنه قال: ما ندمت على شيء ما ندمت على حديث حدثته الحجاج؛ (وإنما ذلك لأنَّ الحجاج كان مسرفاً في العقوبة، وكان يتعلَّق بأدنى شبهة)[20].

 رابعاً: حكم المصحلة المتروكة والمفسدة المرتكبة مما مضى:

المصلحة المتروكة دفعاً لارتكاب مفسدة أعظم، والمفسدة المرتكبة دفعاً لمفسدة أعظم، والمصلحة التي تركت كذلك لفعل مصلحة أعظم – كما سبق – ليست على أصلها، بل المصلحة المتروكة مما سبق ليست مصلحة مطلوبة بل هي مفسدة، والسيئة المرتكبة ليست سيئة، بل هي مصلحة مطلوبة.

فلا إثم على تارك المصلحة مما سبق، ولو كانت واجبة، ولا إثم على مرتكب السيئة ولو كانت حراماً.

يقول ابن تيمية: (إذا كان لا يتأتى فعل الحسنة الراجحة إلا بسيئة دونها في العقاب ولم يمكن إلا ذلك، فهنا لا تبقى سيئة؛ فإن ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به فهو واجب أو مستحب، ثم إن كان مفسدته دون تلك المصلحة لم يكن محظوراً، كأكل الميتة للمضطر، ونحو ذلك من الأمور المحظورة التي تبيحها الحاجات، كلبس الحرير في البرد، ونحو ذلك، وهو باب عظيم، فإنَّ كثيراً من الناس يستشعر سوء الفعل، ولا ينظر إلى الحاجة المعارضة له التي يحصل بها من ثواب الحسنة ما يربو على ذلك؛ بحيث يصير المحظور مندرجاً في المحبوب، أو يصير مباحاً إذا لم يعارضه إلا مجرد الحاجة، كما أن من الأمور المأمور بها إيجاباً أو استحباباً: ما يعارضها مفسدة راجحة تجعلها محرمة أو مرجوحة، كالصيام للمريض، والطهارة بالماء لمن يخاف عليه الموت كما قال – عليه الصلاة والسلام -: «قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ إنما شفاء العيِّ السؤال»[21].

ويقول أيضاً: (إذا كان في السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة، وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة بل تكون سيئة)[22].

ويقول أيضاً: (الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارِض له؛ فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد، أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرَّماً إذا كانت مفسدته أكبر من مصلحته)[23].

ولهذا أمر الغلامُ المؤمنُ الملكَ أن يقتله، ومقصده إظهار الدين[24]، وجوَّز الفقهاء للمجاهد أن ينغمس في صفوف الكفار، وإن غلب على ظنه أن يُقتل، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين[25].

وقد أقر النبي # خالد بن الوليد – رضي الله عنه – على الإمرة، مع أنه كان قد يفعل أحياناً ما لا يرضاه النبي #؛ لأنه كان أصلح في باب الجهاد من غيره[26].

وملحظ هذا الأمر ما يقرره الشاطبي من أن المصالح في الدنيا مشوبة بمفاسد، والمفاسد مقترنة بشيء من المصالح، والدنيا كلها وضعت على الامتزاج بين الطرفين، ولا يقدر أحد على استخلاص جهة منها خالصة، فيكون معنى ذلك: أن قولنا عن الشيء إنه مصلحة أو مفسدة فهو بالنظر إلى ما يغلب منهما، ويقول: (فالمصلحة إذا كانت الغالبة فهي المقصودة شرعاً، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد.. وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة فرفعها هو المقصود شرعاً، ولأجله وقع النهي)[27].

ويقول ابن تيمية: (فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها، إذا لم تُدفَع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها. والحسنة تُترَك في موضعين: إذا كانت مفوِّتة لما هو أحسن منها، أو مستلزِمة لسيئة تزيد مضرَّتها على منفعة الحسنة… فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقُدِّم أوكدهما؛ لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تاركُ واجبٍ في الحقيقة.

وكذلك إذا اجتمع محرَّمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة، وإن سمَّى ذلك تَرْك واجبٍ، وسمى هذا فِعْل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم)[28].

خامساً: كيفية الموازنة بين المصالح والمفاسد:

الموازنة عمل دقيق، تكتنفه عدة مخاطر؛ ولذا فهو يحتاج لفقيه نفس متمكن من علوم الشرع، مستبصر بواقع الحال مدرك لمآلات الأفعال وآثارها.

يقول ابن تيمية: (باب التعارض باب واسع جداً؛ خاصة في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة؛ فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون للحسنات فيرجِّحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون للسيئات فيرجِّحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبيَّن لهم، فلا يجدون من يعينهم للعمل بالحسنات وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء)[29].

وقبل أن نذكر وجوه الترجيح وموجِّهات الموازنة فلا بد أن ننبه هنا إلى أن المعيار الصحيح لإدارك المصالح والفاسد هو الكتاب والسنة، وهذا أمر تدركه الفطر السليمة، والعقول الصحيحة؛ ولذا فالمعتبَر في معرفه المصلحة هو النص الشرعي، فإن الشرع لا يهمل مصالح العباد.

يقول ابن تيمية: (معيار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة؛ فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تحوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها)[30].

ومن المصالح والمفاسد ما يكون الترجيح بينهما بالتقريب؛ لأنها (لا وقوف على مقاديرها وتحديدها)[31]، وبذلك فهي من موارد الاجتهاد التي يختلف فيها النظر بين المجتهدين، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد.

إلا أن المطلوب من الناظر عند الموازنة أن يستوفي النظر غير غافل عن أي وصف مؤثر. يقول ابن تيمية: (الورع المشروع هو أداء الواجب وترك المحرَّم، وليس هو ترك المحرم فقط… ومن هنا يغلط كثير من الناس فينظرون ما في الفعل من كراهة توجب تركه ولا ينظرون ما فيه من جهة أمر توجب فعله)[32].

وسبب ذلك أن من الناس من ينظر للفساد الموجود في الفعل والذي يحمله على تركه، ولا ينظر إلى ما يعارض من المصلحة الراجحة.

والمطلوب من الناظر ألَّا يغفل عن أي وصف للحال أو المآل، ويتحرى الصواب، مع الاستشارة؛ فإن الصواب قد يظهر لقوم ويغيب عن آخرين، وينبذ الهوى فإن في اتباعه مضادة للصواب، ويستعمل الإخلاص وحُسْنَ القصد وسلامة القلب فإن الموازنة مزلة قوم، ومدحضة فهم، وكثيراً ما يقع فيه الاختلاط.

ومن المرجحات التي يمكن ذكرها هنا لعملية الموازنة ما يلي:

1 – ترجيح الشارع لجنسٍ أو نوع من العمل على غيره: مثال ذلك: أن الشرع جاء بتقديم الدعوة إلى تصحيح الاعتقاد قبل تعلُّم أحكام العبادات، فدل على أن العناية بتقرير مسائل العقيدة أهم من العناية بتقرير مسائل الشريعة.

وكذلك فإن تقديم الشرع لبر الوالدين على الجهاد (غير المتعين) يدل على رجحان النفقة على الوالدين على نفقة الجهاد الذي لم يتعين.

2 – النظر في قيمة المصلحة وترتيبها: فالمصالح قد تكون ضرورية أو حاجية أو تحسينية، والمفاسد تتعلق بها كذلك، وأعلى المقاصد هو حفظ الدين من جانب الوجود ومن جانب العدم، ثم النفس، ثم العقل ثم النسل، ثم المال كذلك.

وكل مصلحة منها لها تتمة وتكملة لحكمته ونفعه، فيراعى عند الموازنة هذه المفاضلة. يقول الشاطبي: (الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه. قال مالك: لو ترك ذلك لكان ضرراً على المسلمين؛ فالجهاد ضروري، والوالي فيه ضروري، والعدالة في الوالي تكملة؛ ولذا جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور.

وكذلك ما جاء من الأمر بالصلاة خلف الولاة السوء، فإن في ترك سنة الجماعة، والجماعة من شعائر الدين المطلوبة، والعدالة مكملة لذلك المطلوب، ولا يبطل الأصل بالتكملة)[33].

3 – النظر في العموم والخصوص: فلا ترجَّح مصالح خاصة على مصالح عامَّة بل العكس فيحكم على الخاصَّة لأجل العامة، ويمثل لذلك العز بن عبد السلام فيقول: (لو أعطى أحدُ الظلمة لمن يُقتدَى به من أهل العلم والعبادة مالاً، فلو أخذه أمكنه أن يردَّه لصاحبه إن كان مغصوباً، أو إنفاقه في وجوه خير تنفع الناس، ولكن يسوء ظن الناس فيه، فلا يقبلون فتياه، ولا يقتدون به؛ فهنا لا يجوز له أخذه، لما في أخذه من فساد اعتقاد الناس في صدقه ودينه، فيكون قد ضيع على الناس مصالح الفتيا والقدوة، وحِفْظُ هذه المصلحة أَوْلى من رد المغصوب لصاحبه، أو نفع الفقير بالصدقة)[34].

4 – النظر في المآلات، وتوقُّع حصولها من عدمه، ومدى قوة حصول المتوقَّع: ولذا فإن قتل المرتد، والمنافق إذا ظهر نفاقه من واجبات الشرع، وقد يترك إذا تبيَّن ظهور احتمال انزجار الناس عن الإيمان خوفاً من العقوبة.

ولذا (قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار. فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب، أو كما قال. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة وقصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضاً مفسدة كُرِه لأجلها، فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا بفساد لإصلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور)[35].

والحاصل أن الترجيح يتفاوت بين المجتهدين بحسب المسائل والأحوال؛ فَلْيحذر من اشتغل بذلك أن تزلَّ قدمه وليستعن بالله – تعالى – فإنه الموفق للصواب والملهم للعباد.

_________________________________________________________________

[1] تضمين من مجموع الفتاوى: (11/623).

[2] صحيح البخاري (2782)، وصحيح مسلم (85).

[3] مجموع الفتاوى: (20/48).

[4] قواعد الأحكام في مصالح الأنام: (1/91).

[5] صفة الصفوة: (1/185).

[6] صحيح البخاري (5211)، وصحيح مسلم (2445).

[7] فتح الباري: (9/222).

[8] مجموع الفتاوى: (20/49).

[9] سير أعلام النبلاء: (2/14). وفيه روايات للقصة، منها: أن الأسرى ثلاثمئة أسير، وفيها تقبيل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لرأسه.

[10] قواعد الأحكام: (1/136).

[11] مجموع الفتاوى: (20/50).

[12] صحيح البخاري (126)، وصحيح مسلم (1333).

[13] صحيح البخاري (68)، وصحيح مسلم (2821).

[14] صحيح مسلم (1480).

[15] قواعد الأحكام: (1/153 – 155).

[16] الأعلام للزركلي (5/100)، وقد أشار لهذه القصة ولم يوردها بهذا النص عدد من المؤرخين كابن كثير والذهبي وأما الزركلي فأحال لترجمته لابن رجب، ولذا نقلها بصيغة التمريض وهو مخرج في الحلية لأبي نعيم والزهد لأحمد مختصراً.

[17] صحيح البخاري (127).

[18] صحيح البخاري (128)، وصحيح مسلم (32).

[19] صحيح البخاري (5685)، وصحيح مسلم (1671).

[20] فتح الباري: (10/ 149).

[21] مجموع الفتاوى: (35/28) والحديث في سنن أبي داود (336)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4362).

[22] مجموع الفتاوى: (28/212).

[23] مجموع الفتاوى: (28/129).

[24] صحيح مسلم (3005).

[25] مجموع الفتاوى: (28/450).

[26] انظر: مجموع الفتاوى: (28/255)، منهاج السنة النبوية: (4/479).

[27] الموافقات: (2/26).

[28] مجموع الفتاوى: (20/48).

[29] المرجع السابق.

[30] مجموع الفتاوى (28/129).

[31] قواعد الأحكام الصغرى، ص 100.

[32] مجموع الفتاوى: (29/279).

[33] الموافقات: (2/15).

[34] قواعد الأحكام: (1/71).

[35] تضمين من اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية: (2/620).

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى