للشيخ عبد الرحمن بن ناصر البريك
السؤال: نحن مجموعةٌ مِن طلبة العلم نريدُ مِن فضيلتكم منهجًا علميًا لدراسة عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، بحسب تقسيم التَّوحيد إلى أنواعه الثلاثة، وذلك بطريقة التَّعلّم المنهجي، ثم ما تقترحون مِن أسماء العلماء الذين يمكن الإفادةُ منهم، ومِن التَّصانيف المهمَّة التي يحسن بطالب العلم الوقوفُ عليها في هذا العلم المهم، ونرجو أن ينفع اللهُ بجوابكم هذا كلَّ مَن يقف عليه مِن طلاب العلم والمتعلِّمين.
الجواب: الحمدُ لله وحده، وصلَّى الله وسلَّم على مَن لا نبي بعده؛ أمَّا بعد:
فإنَّ التوحيد -أي توحيد الله بأنواعه الثلاثة- هو أصلُ دينِ الإسلام، الذي هو دينُ الله عزَّ وجلَّ؛ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران:19]، وهو الدِّين الذي لا يقبل اللهُ مِن أحدٍ دينًا سواه؛ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، وهو الدِّين الذي بعث اللهُ به رسلَهُ مِن أولهم إلى آخرهم، وهذا التَّوحيد هو مفتاحُ دعوتهم، وعليه مدارُ رسالتهم، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ[النحل:36]، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وهاتان الآيتان نصٌّ في توحيد العبادة -توحيد الألوهيَّة-، وهو متضمِّنٌ لتوحيد الرّبوبيَّة وتوحيد الأسماء والصّفات؛ فإنَّ الإله الحقّ هو المستحقُّ للعبادة وحده، ولابدَّ أن يكون كاملَ النُّعوت والصّفات، فلا كفءَ له، ولاندَّ له، ولابدَّ أن يكون هو المالك لكلِّ شيء، والقادر على كلِّ شيء، وخالق كلِّ شيء، ومَن يكون كذلك يلزمُ أن يكون هو المستحقّ للعبادة بأنواعها، خوفًا ورجاءً ومحبَّة وتعظيمًا، وهذا معنى قول العلماء: إنَّ توحيد الألوهيَّة يتضمَّنُ توحيدَ الرّبوبيَّة وتوحيدَ الأسماء والصفات [1]، أو التوحيد العلميَّ الخبريَّ، كما في بعض العبارات، أو توحيد المعرفة والإثبات.[2]
وقد دلَّ الكتابُ والسُّنَّة على هذه الأنواع، فهما المرجعُ والمصدرُ الأوَّل لهذا العلم، أعني علمَ التَّوحيد، بدءًا بسورة الفاتحة الجامعة لمعاني القرآن؛ فقد تضمَّنت الدَّلالة على هذا التوحيد بأنواعه، واقرأ بيان ذلك فيما أوضحه ابن القيم -رحمه الله- في أوَّل كتابه مدارج السالكين وفي آخره، في الكلام على منزلة التوحيد. [3]
وكما أنَّ التَّوحيد بأنواعه هو ما تتضمَّنه كلمةُ التوحيد (لا إله إلا الله)؛ فإنَّه كذلك يتضمَّنه الأصلُ الأوَّلُ مِن أصول الإيمان، وهو الإيمان بالله؛ فإنَّه شامل للإيمان بربوبيَّته وإلاهيَّته وأسمائه وصفاته، وعلى هذا فالتَّوحيدُ هو أصلُ عقيدة أهلِ السُّنَّة والجماعة.
ومجملُ اعتقاد أهل السُّنَّة هو أصول الإيمان السّتة التي أجاب بها الرسولُ -صلَّى الله عليه وسلَّم- جبريلَ -عليه السَّلام- حين سأله عن الإيمان، فقال: (أن تؤمنَ باللهِ، وملائكتهِ، وكتبهِ، ورسلهِ، واليومِ الآخرِ، وتؤمنَ بالقدرِ خيرهِ وشرّهِ) [4]، وتفصيلُ هذه الأصول مبيَّنٌ في آيات القرآن وفي الأحاديث الصَّحيحة.
وكان الصَّحابة -رضي الله عنهم- يَعلمون ذلك ويؤمنون به، ويقفون عند حدوده، غير زائدين ولا ناقصين، وتبعهم على ذلك التابعون، وتابعو التابعين، وأئمةُ الدين الذين كانوا على الحق المبين، فبيَّنوا للنّاس ما اختلفوا فيه مِن الحق؛ فاهتدوا وهدوا إلى الصّراط المستقيم، ودحضوا شبهات المبطلين، مِن المبتدعة والملحدين مِن الخوارج [5]، والمرجئة [6]، والقدرية [7]، والمعطلة [8] من الجهمية [9] والمعتزلة [10]، ومَن شاركهم في بعض باطلهم مِن المنتسبين للسُّنَّة كالكلابية [11] والأشاعرة [12]، والماتريدية [13]، فحصل بتلك الردود الفرقانُ المبينُ بين الحقِّ والباطل والحالي[14]، والعاطل مِن أقوال النَّاس في مسائل الدّين، فأخرج الله بهذه الجهود وبهذا الجهاد مَن شاء مِن الظلمات إلى النور، وهذه سنَّته تعالى في الرسل وأتباعهم، فهم المنقذون بإذن الله مَن استجاب لهم مِن الضَّلال، وردوا عليهم بالبراهين مِن النَّقل الصَّحيح والعقل الصَّريح، فحفظ الله بهم هذا الدين، تحقيقًا لوعده سبحانه في قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وصدق فيهم قول النَّبي -صلّى الله عليه وسلّم- فيما روي عنه: (يحملُ هذا العلمَ مِن كلِّ خَلَفٍ عدولُه؛ ينفونَ عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين) [15]، فلم تزل منارات العلم ومعالم طريق الحق قائمةً يهتدي بها السَّالكون السَّائرون إلى الله، وذلك على مرّ العصور مِن تاريخ هذه الأمة، ومِن القول المحكم المشهور في ذلك قول الإمام أحمد في خطبة كتابه “الرَّد على الجهميّة والزنادقة”:
“الحمدُ لله الذي جعل في كلّ زمان فتْرةٍ مِن الرّسل، بقايا مِن أهل العلم يدعون مَن ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم مِن قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم مِن ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه مِن الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبِّهون عليهم، فنعوذ بالله مِن فتن الضَّالين”. [16]
وهؤلاء هم أئمة أهل السُّنَّة مِن السَّلف مِن أهل القرون المفضلة فمَن جاء بعدهم وتبعهم على هذا الطريق، وكانت جهودهم في ذلك أنواعًا، فمنها فتاوى يجيبون بها السَّائلين، وأقوال يردّون بها على المبتدعين ضمن مناظرات يعوّلون فيها على الحجج مِن الكتاب والسُّنَّة، وقد ألَّف كثيرون في هذا الشأن -أعني في تقرير اعتقاد أهل السُّنة والرَّد على المخالفين- مؤلفات كثيرة، مبسوطة ومختصرة [17]، سموها كتب التوحيد [18]، وكتب السنة [19]، واعتقاد أهل السُّنَّة [20]، ولهم في ذلك مناهج، والغالب على المتقدّمين ذكر الآيات والأحاديث والآثار المسندة، مع ذكر ما يشهد لها مِن الأدلّة العقليَّة، ومِن أشهر هذه المؤلفات: كتابُ “الرَّد على الجهميَّة والزَّنادقة” للإمام أحمد، و”الرَّد على الجهميَّة” لعثمان بن سعيد الدارمي [21]، و”الرَّد على بشر المريسي” [22] له أيضًا، وكتاب “الرَّد على الجهميَّة” لابن منده [23]، و”شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة” للّالكائي [24]، وكتاب “التَّوحيد” لابن خزيمة [25] وغيرها كثير، رحمهم الله جميعًا.
ومضى على هذا النَّهج أتباعُهم حماةُ اعتقاد أهل السُّنّة، وأشهرهم في عصور متأخرة في القرن السابع والثامن الإمامُ ابن تيمية [26] الذي نهل مِن علوم السَّلف ومؤلفاتهم المستمدَّة مِن كتاب الله وسنَّة رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، مع ما آتاه الله مِن فهم وبصيرة في معاني كلام الله وكلام رسوله، وكلام السَّلف الصَّالح مِن الصَّحابة والتَّابعين، وما آتاه الله مِن اطّلاع واسع ومعرفة بمذاهب الطَّوائف المختلفة، فجعل الله له بذلك فرقانًا، فميَّز بين اعتقاد أهل السُّنَّة المحض وسائر اعتقادات الطوائف، فألَّف لذلك المؤلَّفات الطَّويلة والمختصرة، وهي دائرة على أصلين: الأول: تقريرُ وتحريرُ اعتقاد أهل السُّنَّة، الثاني: الرَّد على الطَّوائف المخالفة، وأشهر كتبه المبسوطة: “الجواب الصَّحيح لِمَن بدَّل دين المسيح، ودرء تعارض العقل والنقل، ونقض التأسيس [27]، ومنهاج السُّنَّة، واقتضاء الصّراط المستقيم”، وأشهر مؤلَّفاته في تقرير عقيدة أهل السُّنَّة في الأسماء والصّفات والقدر: “الفتوى الحمويَّة، والعقيدة التَّدمريَّة، والعقيدة الواسطيَّة [28]، وهي أشملها لمسائل الاعتقاد، وقد صارت مؤلَّفاته موردًا بعد كتاب الله وسنَّة رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لكلّ مَن جاء بعده مِن المجدّدين لهذا الدّين ببيان أصوله بأدلَّتها، وكشف شبهات المشركين والمبتدعين.
وأعظم مَن انتفع بمؤلَّفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة الإمامُ المجدّد في القرن الثاني عشر الشّيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله [29]؛ فقد ألهمه الله النّهوضَ بدعوة الإصلاح والتَّجديد لِمَا اندرس مِن معالم التَّوحيد، وآتاه الله همَّةً عاليةً وبصيرةً، فهدى الله بدعوته كثيرًا مِن الضَّالين عن الصّراط المستقيم مِن العامة والخاصة، وكانت وسيلته في ذلك التّعليم والتَّأليف ومراسلة الأعيان في البلدان؛ تعريفًا بدعوته، أو نصيحة، أو ردًّا على مبطل أو مخطئ، ويُرجع في ذلك إلى رسائله الشَّخصية في مجموع مؤلَّفاته [30]، وأشهر مؤلَّفاته في هذا الشأن: “كتاب التَّوحيد الذي هو حقّ الله على العبيد” [31]، الذي بناه على سبعة وستين بابًا، ضمنها الأدلَّةَ مِن الكتاب والسُّنَّة على التَّوحيد بأنواعه، وبخاصة توحيد العبادة، مع بيان ما يُضاد أصله مِن الشرك الأكبر، أو ينافي كماله مِن أنواع الشرك الأصغر؛ قوليَّة أو فعليَّة، وكمَّل -رحمه الله- موضوع هذا الكتاب بكتابه “كشف الشّبهات” [32]، أي: شبهات المشركين في توحيد العبادة، وقد صار هذان الكتابان مادةً لكل مَن قَفى أثره في الدَّعوة مِن أبنائه وتلاميذه، رحمهم الله وجزاهم عنا وعن المسلمين جزاء حسنًا.
وممَّا تقدّم يُعلم أنَّ طريق العلم ممهَّد للسَّالكين؛ بما وفَّق الله له العلماء المصلحين من الشرح والتَّبيين، فعلى طالب علم التوحيد وغيره من مسائل الاعتقاد أن يرجع إلى ما دوَّنه مَن تقدَّم ذكرُهم مِن أئمة الدّين وغيرهم مِن أهل السُّنَّة والجماعة، ويختلف المنهج في ذلك بحسب المواهب والمراتب؛ فالمبتدئ عليه بعد حفظ ما تيسَّر مِن القرآن أن يصرف همَّته لحفظ المتون المختصرة، ثم يرتقي إلى ما فوقها مِن المؤلَّفات المبسوطة.
وينبغي أن يعلم أنَّ المؤلَّفات في التوحيد بأنواعه الثلاثة وغيره من أصول الاعتقاد الغالبُ عليها الشموليةُ والكلامُ على هذه الأصول جملة، دون أن يفرد كلُّ نوع أو أصل بمؤلَّف خاص، وإليك بعض المصنفات في هذا الباب من المختصرات والمبسوطات، فمِن المختصرات: كتاب التَّوحيد، وكشف الشّبهات، وثلاثة الأصول للإمام المجدّد، ويتضمن معناها: نظْمُ سلم الوصول إلى علم الأصول [33] للشيخ حافظ الحكمي [34]، وأهم ما في هذه المصنَّفات الأربعة تقريرُ توحيد الإلهيَّة، وما يضاده من الشرك بأنواعه، ومِن المختصرات في توحيد الأسماء والصفات: العقيدة الواسطيَّة للإمام ابن تيمية، وهذه كلُّها مما يُذكر ويُقصد للحفظ. ثمَّ ينتقلُ الطَّالب بعد حفظها إلى الرجوع إلى شروحها المختصرة، يُضاف إلى ذلك الرجوع إلى الشروح المختصرة للعقيدة الطحاوية [35]، ثم إذا أتقن الطَّالب هذه المتون، واستفاد مِن شروحها فإنَّه ينتقل إلى دراسة “العقيدة التّدمرية، والفتوى الحمويّة” للإمام ابن تيميَّة، وكذلك “مقدمة الرّسالة” للعالم المالكي ابن أبي زيد [36] رحم الله الجميع. فإذا قطع الطالبُ هذه المرحلة مِن طريق العلم فقد صار أهلًا لقراءة الكتب المبسوطة المشار إليها في صدر الجواب، ككتابي الإمام الدارمي وكتاب التوحيد لابن خزيمة، وكتب السُّنَّة لأئمة السُّنَّة، وقد أشار إلى كثير منها شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية [37]، ومن المراجع المفيدة في أنواع التوحيد الثلاثة: الأجزاء الثمانية الأولى من “مجموع الفتاوى” لشيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، و”مدارج السَّالكين” للإمام ابن القيم رحمه الله.
هذا؛ ومع كلّ ما تقدَّم فلا ينبغي لطالب العلم أن يستقلَّ بفهمه ورأيه، بل لابدَّ له مِن الرجوع إلى مَن يتيسَّر له مِن أهل العلم المعروفين مِن أهل السُّنَّة والجماعة. هذا هو السبب المقدور للعبد، ولابدَّ له مع هذا السبب مِن السبب الجامع لكل الأسباب، وهو التَّوجّه إلى الله بدعائه والضَّراعة إليه بسؤال العون وتيسير الأسباب وإيتاء الفهم؛ فإنَّه المعلّم لأنبيائه وأوليائه، والهادي مَن استهداه، وهو وليُّ كلّ نعمة، وهو على كلّ شيء قدير، يختصُّ برحمته مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك
في يوم الخميس، الثَّاني عشر مِن شهر الله المحرَّم، لعام 1438هـ