إعداد الشيخ د. عادل رفوش
في معنى قريب مما جنحنا إليه من التحذير من بعض “المقولات الزائفة” و”القواعد المختلقة” و”الأصول المبتدعة” التي لم تعرف عند أهل العلم الأثبات ولا جرى لهم فيها دعوة أو إثبات؛ وإنما هي كلمات خرجت من بعض “دعاة العصر المتحمسين” و”شباب السلفية الحريصين” الذين تأثروا بالمشاحنات الحزبية فصاروا يتلقفون كل مقول، ثم ينسبونه جهلاً وعجلةً إلى الثوابت والأصول؛ كما ذكرنا ذلك في قولهم: “وسائل الدعوة توقيفية”، وكمسخهم لمفهوم: “المسائل الكبار ترد إلى الكبار”، ومفهوم: “الطائفة المنصورة والفرقة الناجية”، وكقولهم: “منهج السلف معصوم” ..!
ناهيك عن إبطالهم قواعد صحيحة عند خصومهم؛
“كالموازنة” و”كالمصالح” و”كالمقاصد” و “كالإجتماع في المتفق عليه والتناصح والتعاذر في المختلف فيه”؛ فهذه وتلك “مقولات متعددة” بعضها يحتاج إلى تقييدات، وبعضها باطل من أساسه؛ كما ذكرنا في قاعدة الوسائل وفي قاعدة المنهج المعصوم:
وبخصوص هذه الأخيرة التي شرحنا فيما سبق أوجه الضلال فيها عقديّاً ومنهجيّاً وتطبيقياًّ؛ فيحسن هنا نقل كلام لشيخ الإسلام الإمام السلفي بحق أحمد ابن تيمية الحراني ..
يقول رحمه الله تعالى وهو يمهد العذر للمتنازعين وأن الخلاف يحتج عليهم فيه بالوحيين؛ ولا يذكر الإجماع لصعوبة تحققه بمخالفتهم هم؛ وكأنه يعتبر خلافهم مبطل للإجماع ؛-وهي مسألة أصولية معروفة فيمن يعتد به في الإجماع وهل يعتد بأهل الفسق وبأهل الأهواء تراجع في مظانها- فلم يبق إلا الرد لله ولرسوله ولبقية الحجج الكاشفة؛ وهذا منتهى الإنصاف في تحرير مسائل الخلاف؛ وليس كالمهازل التي نرى اليوم من ادعاء المعصومية لمعانٍ هُلامية؛ ليست بعيدة عن دعاوى المعصومية عند الروافض الإمامية أو زنادقة البهائية؛ وكلهم مخالف لمنطوق الوحي ولهدي السنة ولسبيل السلف الصالحين؛ فلا عصمة لإمامٍ إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نبوة بعد خاتم المرسلين، ولا عصمة لجماعة إلا إجماع أمة محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
“.. وإذا نازعوا الناس في مسألة من مسائل الشرع لم يقولوا لهم: قد انعقد الإجماع على خلافكم في هذه المسألة، بل يحتجون عليهم بالكتاب والسنة، وذلك أنهم وإن كانوا ضالّين فيما خالفوا فيه أهل السنة فلا يلزم ضلالهم في كل شيء، لا سيما إذا كان قد وافقهم بعض أهل السنة والجماعة في تلك المسائل، ولا يجوز أن يكون الله أقام عليهم الحجة بقول منازعيهم الذين لم يقم دليل شرعي على عصمتهم، فإن أدلة الإجماع إنما دلت على عصمة “المؤمنين” بلفط “المؤمنين” ولفظ ” الأمة” كقوله تعالى”ويتبع غير سبيل المؤمنين” وقوله صلى الله عليه وسلم “لا تجتمع أمتي على ضلالة“.
فإذا كان اسم المؤمنين وأمة محمد صلى الله عليه وسلم يتناولهم، ولهم نظر واستدلال، ولهم دين يوجب قصدهم الحق، لم يبق وجه لمنع الاعتداد بهم.
فإن المانع من الاعتداد بهم: إما عدم العلم، وإما سوء القصد، فمن لم يكن عارفا بأدلة الشرع فهو عاص بخلافهم، يجب عليه اتباع العلماء”.
ثم قال:
“وهذا القول قول خلق كثير من شيوخ الشيعة المتقدمين والمتأخرين، وغير الشيعة من أهل السنة وغير أهل السنة، ولا يمكن الاحتجاج على هؤلاء بإجماع من سواهم من أهل عصرهم، فإنا في نفس بدعتهم التي بها فارقوا السنة والجماعة لا يمكن الاحتجاج عليهم بإجماع من سواهم، فكيف يحتج عليهم في مسألة عملية شرعية بإجماع من سواهم؟
بل لا بد من إقامة حجة عليهم من الكتاب والسنة ..
فتبيّن أنه لا يمكن الاحتجاج في مسألة بإجماع من بعد الصحابة والتابعين على من نازعهم في ذلك من أهل عصرهم من أي طائفة كان، لكن إن كان معهم إجماع قديم احتجوا به على من نازعهم، وإلا احتجوا عليهم بالكتاب والسنة” انتهى (الرد على السبكي في مسألة الطلاق 2/660-662 لابن تيمية)
ويقول رحمه الله في التسعينية ص902 مناقشاً إمام الحرمين رحمهم الله أجمعين:
“.. ما ذكره (يعني الجويني رحمه الله) عمن سماهم أهل الحق ؛ فإنه دائما يقول: قال أهل الحق وإنما يعني أصحابه (=يعني الأشعرية) وهذه دعوى يمكن كل أحد أن يقول لأصحابه مثلها ؛ فإن أهل الحق الذين لا ريب فيهم هم المؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة، فأمَّا أن يُفْرِدَ الإنسانُ طائفةَ منتسبة إلى متبوع من الأمة ويسميها أهل الحق، ويُشْعِر بأن كل من خالفها في “شيء” فهو من أهل الباطل فهذا “حال أهل الأهواء والبدع”؛ كالخوارج والمعتزلة والرافضة.
وليس هذا من “فعل أهل السنة والجماعة” فإنهم لا يصفون طائفة بأنها صاحبة الحق مطلقا إلا المؤمنين الذين لا يجتمعون على ضلالة قال الله تعالى {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم}
وهذا نهاية الحق والكلام الذي لا ريب أنه حق: قول الله وقول رسوله الذي هو حق وآت بالحق؛ قال تعالى : {والله يقول الحق } وقال تعالى : { قوله الحق } وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حقا“.
فأهل الحق هم أهل الكتاب والسنة وأهل الكتاب والسنة “على الإطلاق” هم المؤمنون فليس الحق لازما لشخص بعينه دائرا معه حيثما دار لا يفارقه قط إلا الرسول صلى الله عليه و سلم إذ لا “معصوم” من الإقرار على الباطل غيره وهو حجة الله التي أقامها على عباده وأوجب اتباعه وطاعته في كل شيء على كل أحد.
وليس الحق أيضا لازما لطائفة دون غيرها إلا للمؤمنين فإن الحق يلزمهم إذ لا يجتمعون على ضلالة وما سوى ذلك فقد يكون الحق فيه مع الشخص أو الطائفة في”أمر دون أمر” ؛ وقد يكون المختلفان كلاهما على باطل ؛ وقد يكون الحق مع كل منهما من وجه دون وجه فليس لأحد أن يسمى طائفة منسوبة إلى اتباع شخص كائنا من كان “غير رسول الله صلى الله عليه و سلم” بأنهم أهل الحق إذ ذلك يقتضي أن كل ما هم عليه فهو حق وكل من خالفهم في شيء من سائر المؤمنين فهو مبطل وذلك لا يكون إلا إذا كان متبوعهم كذلك وهذا معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام ولو جاز ذلك لكان إجماع هؤلاء حجة إذا ثبت أنهم هم أهل الحق”اهـ
كلام ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة على هذا التقرير المتين؛ الذي نحتاج إلى مثله في زماننا هذا أكثر من أي وقت مضى؛ فما أحوجنا إلى دواعي الجمع على الهدى وما أسفهنا إذا تبنينا أسباب التفرق والردى، وزدنا في وَهَن الأمة وغربة الدين … والله المستعان.
وقد كنتُ أثرتُ هذا المبحث في محاضرة ومقالة في سياق تفسير سورة الفرقان وذكر منهج القرآن وسبيل عباد الرحمن؛ فجاءني استفسار عما ذكرت؛ فأعدت توضيحه بالآتي ونشرناه قبل شهرين وهذا نصه:
شكر الله لكم إخوتي الأكارم الفضلاء:
1-نحن متفقون على أن المعصوم هو الإجماع
وأنه كلما كان أقدم فهو أمكن وأوثق .. بحسب تفاصيله عند أهل الأصول مراتبَ وأنواعاً..
2-وأن إحداث قَوْلٍ خارج صِرْفاً-لا جمعاً ولا توفيقاً ولا إجماعا ثابتاً-لا يكاد يكون إلا حدَثاً أو خطأً …
3-وأن قول جمهورهم مُرَجَّح قوي…
4-وأن قول آحادهم معتبر ما لم يشذ..
5-(تحرير محل النزاع):
فالبحث في هذا قد فُرغ منه وتبقى التفاصيل في التنزيل تختلف باختلاف المسائل ومعطياتها والأدلة المصاحبة وباب كل مسألة …الخ الخ
إنما الكلام عندنا في هذه المقولة المرسلة: “منهج السلف معصوم”!
بحسب الإيرادات التي أوردناها سابقاً..
-المرجو استحضارها بتفصيلٍ وإنصاف حتى لا نقع في التكرار أو الكلام في المسلَّم –
فما ضرنا أن نخطِّئ المقولة أو نصوبها في ضوء المتوارث عن أئمتنا سلفاً وخلفاً -وهذا هو عين السلفية الحقة- ونتفادى البدع من كلا الجانبين:
بلا تهوينِ مَن فرط فأهمل فهوم السلف الكرام..
ولا تهويلِ مَن غالى فجاء بمنهجٍ كل يومٍ يُدخل فيه ويُخرج منه ما لا يعلمه قبله إنس ولا جان تأصيلا وتنزيلاً حتى صدق على بعضهم قول الحافظ ابن رجب:
“وأن يبتدع مقالة ينسبها إلى بعض من سلف من المتقدمين؛ فربما كان بتحريفٍ يُحرّفه عليهم كما وقع ذلك كثيراً من بعض الظاهريين، وربما كانت تلك المقالةُ زلة من بعض من سلف قد اجتمع على تركها جماعة من المسلمين؛ فلا تقتضي المصلحة غير ما قدره الله وقضاه من جمع الناس على مذاهب هؤلاء الأئمة المشهورين رضي الله عنهم أجمعين”.
ولعل قراءة رسالتين خاصتين للإمام ابن رجب:
١-فضل علم السلف
٢-اتباع الأئمة الأربعة
يعينُ على التوازن المطلوب في هذا الباب ويقرب المرادَ المرتضى …
وأنا شخصيا-على قلة اطلاعي- لم أر هذه القاعدة إلا عند بعض الشيوخ المعاصرين ممن لا يرقى إلا درجة الاستقراء الناقص فضلاً عن التام أوالتقعيد دفعهم إليها بعض حماسةٍ وبعض شِدَّةٍ وبعضُ قصورٍ ..
ولذلك كثر الخلل في كثيرٍ من قواعدهم لفظاً ومعنىًٰ؛ فوجب حماية منهج السلف الأصيل من هذا الدخيل؛ إمعاناً في اعتباره واعتماده والاعتصام به شهادةً بفضله أصلاً من أصول الإسلام لا يستبين الدينُ إلا في ظلاله..
وقبل أيام غردتُ بقولي : “ومن منهج السلف في المعرفة
ربط العلم بالصحابة
فالعلم ما أصلوه
والدين ما نقلوه
و”إنما العلماء أصحاب محمد”
فاحذر الرافضة
والمدخليةَ المشوِّهة”.
وقبلها في هذا الشهر بقولي: “كيف لا نتخذ السلف أئمة في الدين والدنيا؟!
وهذا أبوبكر -وهوالخليفة- يأتي عجوزا عمياء ذات صبيةٍ؛فيكنس دارها ويطبخ وينظف ويجلب لهم الماء ثم يذهب”.
فهذا أصلٌ عندنا بحمد الله لا جدالَ فيه…
وأما هذه المقولة محل المحاورةِ فلا نعلم -على قصورنا غفر الله لنا- من قال بها أو أطلقها أو ربطها بكلمة منهج أو حصرها في السلف وهذه كتب الأئمة بيننا شاهدة …
بل لو قال قائل: “منهج الخلف معصوم” لما كان بعيداً عن الخطإ نفسه وللزم من قبل الأولى أن يقبل هذه أيضاً!
فإن قيل: قصدنا الإجماع.
قال لكم: وكذلك أنا إنما قصدت الإجماع.
فإن قيل: السلف لهم فضل لا يجحد ومزية أعلى.
قال لكم: هم كذلك ولكن آخر الأمة أيضاً له فضله وفضائله؛ وفي مثل هذا المعنى ذكر العلماء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أمتي كالغيث لا يدرى أيها خير أولها أو آخرها“، مضموما إلى حديث: “خير الناس قرني“.
وليس البحث هنا في الأعلى فضلاً وإنما المعتبر وجود الفضل والاعتداد بمعصومية الإجماع إذا صح؛ سيان تقدم أو تأخر ..
وهذا لا خلاف فيه بين العلماء.
فإن قيل: لقد انتهكت حرمة العقيدة بنسبة المعصومية لغير القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولغير الرسول الذي ما ينطق عن الهوى.
قال لكم: وكذلك فعلتم أنتم نسبتم “المعصومية” لمحل مجمل لا دليل عليه؛ بل ربطتموه بكلمة “منهج” وهو معنى لا ينضبط ولا يصح وصفه إلا بالأفضلية والترجيح؛ لأن في ثنايا المنهج مناهج وطرائق واجتهادات لا يجوز نسبتها لعموم السلف ولا يجوز الحكم عليها “بالمعصومية”.
وهو لفظ خطير عقدياً لما ينبني عليه من أحكام دنيوية وأسماء أخروية تصل إلى درجة التكفير والشهادة بالجنة أو بالنار ..
وهذا جلي واضح لمن تأمل خطورة هذه المقالة وأن الحق والصدق هو اتباع السلف في التصريح بأن “إجماع الأمة معصوم” فهذا هو سبيل المؤمنين وهو سبيل من أناب إلى الله تعالى؛ وبه نتفادى هذا النوع من “المحدثات اللفظية” التي جرت إلى “محدثات عملية” فصار الواحد من مدعي السلفية يأتي إلى مسألة ما قد تكون فقهية أو سلوكية أو في فروع الاعتقاد فيدعي فيها أن منهج السلف فيها كذا أو مذهب السلف أو قول السلف ثم يجلب هذه القاعدة المحدثة فيجعل المسألة المذكورة مما لا يجوز فيه الخلاف؛ وأن المخالف على خطرٍ إذ سيخالف المعصوم الذي هو نص قاطع لا يقبل التأويل ولا يعذر مخالفه لأنه معلوم من الدين بالضرورة!
وقد يكون بعضهم غيرَ مدرك لهذه التبعات ولكن الواقع يقضي بأن قولهم “معصوم” لا تفسير لها إلا ما ذكر؛ فإن لم يريدوه إذا فلا معصومية ..
إذا فالقاعدة خطأ وخلل وخطرٌ كما ذكرنا والله تعالى أعلم. هذا مبلغ علمي بارك الله فيكم وجزى الله خيراً من دلنا على متينِ علمٍ نستفيده منه ونشكره له وكل إخواننا لذلك أَهْلُونَ نفع الله بهم؛ “إن الله شاكر عليم“.
والحمد لله رب العالمين..