مقالاتمقالات مختارة

المكانة الإسلامية لقيمة العدل

بقلم أبو القاسم علي كرار

العدل قيمة عظيمة جاء الإسلام بها وحث عليها مع المؤيد والمخالف على السواء بل وجعل هذه القيمة أس نظام الكون به قامت الرسالات ومعها قامت أرقى الحضارات .قال عز وجل “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” فالعدل سنة ربانية وضرورة إنسانية به تسعد البشرية وهو سبب لبقاء الدول ونهضتها وسبب موصول لرقيها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : “الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة، فإن الله لينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة”.

وعلى العكس من ذلك “الظلم” الذي هو ضد العدل فهو سبب أصيل في خراب الدول وفساد الناس .فالإسلام حين يحث على قيمة العدل ينهى ويحذر من عاقبة الظلم الوخيمة بالنسبة للفرد والمجتمع فالنظام السياسي في الإسلام يرتكز على ركيزتان أساسيتان هما السلطة الدينية والسلطة السياسية فالسلطة الدينية مكانتها أعظم إذ هي المقوم الأساسي لصلاح المجتمع وصلاح السلطة السياسية حيث تقوم على ثغرة عظيمة هي ثغرة التناصح. قال تعالى وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ” وقال الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ” الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”.

فساد الدين يكون بفساد العالم أولا إذ أن العوام يرون العالم وهو يتقرب للحاكم ويتملقه بالقول في كل محفل وكل ومنبر ولا يصدح بكلمة الحق فرسمت بذلك صورة داخلية على أن هذا هو الدين

فالأنظمة والدول عبر التاريخ إلى زماننا هذا ما فسدت إلا عندما تركت السلطة الدينية واجبها المقدس والأصيل الذي حثاها عليه الشارع في النصيحة والنقد للسلطة السياسية إذا رأت فيها ما يكون سببا لفساد الدولة والرعية، وما تعطل هذا الواجب المقدس إلا عندما تقربت السلطة الدينية من السلطة السياسية ليس من باب النصيحة بل تمسحا وتقربا ببلاط الحاكم، ذلك التقرب الذي حث النبي صلى الله عليه وسلم وعلماء السلف والخلف على قطع أوشاجه كلها. يقول صلى الله عليه وسلم: “من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى أبواب السلاطين أفتتن وما أزداد أحد من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا”. ويقول حذيفة بن اليمان – رضى الله عنه-: “إياكم ومواقف الفتن قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء بدخول أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول: ما ليس فيه”، ويقول ابن الجوزي- رحمه الله- ” ومن صفات علماء الآخرة أن يكونوا منقبضين عن السلاطين محترزين من مخالطتهم”، وهذا ابن حزم الفقيه الظاهري علامة الأندلس يوجه نصحه للعلماء في رسالته مراتب العلوم ” ومن ابتلي بصحبة سلطان فقد ابتلي بعظيم البلايا وعرض نفسه للخطر الشنيع في ذهاب دينه وذهاب نفسه، وشغل باله وازدادت همومه”.

كل هذا غيض من فيض من أقوال السلف وهم يحذرون العالم المسلم من التقرب من أبواب الحكام وهم بذلك لا يسيئون للإمام ولكنهم علموا علم اليقين أن موقف الحق وكلمته ستذهب شيئا فشيئا أمام أبواب السلطان فكيف بعالم يتردد عليهم ويأخذ هداياهم وهباتهم أن يقف موقف الحق الناقد الصادع بكلمة الحق حاملا رياتها كما كان يفعل العلماء على مدار الأزمنة! فهذا موقف المنذر بن سعيد البلوطي الظاهري يوم أن تأخر الخليفة عبد الرحمن الناصر عن صلاة الجمعة ثلاثة أسابيع متوالية ولم يصلها مع المنذر وكان يتولى الخطابة والقضاء فأراد منذر أن يعظ الخليفة ويكسر غروره ويحاسبه على إنفاقه الأموال الطائلة في التشييد والعمارة الأمر الذي عاد سلبا على معاش الناس ، على الناس وانشغاله بذلك عن الإقبال على الله فلما كان يوم الجمعة وحضر الخليفة صعد المنذر المنبر وبدأ خطبته بقول الله تعالى : “أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ” واسترسل في ذكر آيات الوعيد والتخويف ومضى يذم الإسراف في تشييد البناء والعناية بالزخرف بلهجة شديدة وتلا قوله تعالى: “أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ“.

الأمر الذي أغضب الناصر وشكا لولده الحكم ما لقيه منه وقال: والله لقد تعمدني المنذر بالكلام وقد أسرف علي وبالغ في تقريعي. وأقسم ألا يصلي خلفه فقال له الحكم: ما الذي يمنعك من عذل منذر عن الصلاة؟ فقال الناصر لولده: بعد أن زجره أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يعزل ﻹرضاء نفس ناكبت عن الرشد سالكة غير القصد ولكنه أحرجني فأقسمت ولوددت أن أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله.

أعظم خطر يشكله فساد العالم هو ارتماء الشباب في أحضان العنف والتكفير إذ أنهم فقدوا الثقة في العلماء وهم يرون الفتاوي على هوى للظلمة والطغاة

هذه الصفحة المشرقة لعالم امتلأ هيبة بدينه والحق الذي يحمله فاعتز به عن أبواب الحكام فجعل الله فيه هيبة خافها الناصر لا من كثرة مال ولا سلاح ولكنها هيبة العالم والحق والدين الذي لم يشتر المنذر به ثمنا قليلا أو عرضا من الدنيا يزول فلهذا بذل كلمة الحق غير مكترثا بالناصر ولا ممتعضا عنها عندما رأي ما يكون فيه فساد الرعية والدولة .فالشارع الحكيم يوم أن نهى العالم عن التملق والتقرب من بلاط الامراء ﻷن في ذلك الأمر مفسدة عظيمة ظاهرة وباطنة فالظاهرة تكون بفساد نظام الحكم إذ أنه ستغيب النصيحة التي حث على بذلها وأمر بها العالم، والباطنة بفساد الدين نفسه في قلوب العامة فالنصرانية يوم أن سقطت رايتها في أوروبا وجعل تلك البلاد ” إلحادية الهوى” إلا يوم أن فسد رجال الكنيسة باختلاطهم الفاسد بالسلطة السياسية المتمثلة في رجال الإقطاع الأمر الذي أظهر سلطة كهنوتية عظيمة الفساد مما أدى إلى فساد حياة الناس والدين.

يقول ابن المبارك -رحمه الله-:
وهل أفسد الدين إلا الملوك
وأخبار سوء ورهبانها

ففساد الدين يكون بفساد العالم أولا إذ أن العوام يرون العالم وهو يتقرب للحاكم ويتملقه بالقول في كل محفل وكل ومنبر ولا يصدح بكلمة الحق فرسمت بذلك صورة داخلية على أن هذا هو الدين، فيبغض الدين لبغضه لأهله المتدثرون به وهم أبعد الناس عنه فأول ما يسقط من حب الدين من نفوسهم هو أن يسقط حامل هذا الدين مما يخلق مفسدة وفتنة عظيمة. وما ظهر هذا الكم الهائل من الإلحاد واضمحلال الوازع الدين في معشر الشباب معول بناء الامة وسر نهضتها إلا يوم أن فسدت السلطة الدينية بفساد العالم الذي هو طوع دينه خدمة لنفسه ولأغراضه وخدمة للحاكم الفاسد الظالم بالتملق له وتبرير الظلم له باسم الدين.

وأعظم خطر يشكله فساد العالم هو ارتماء الشباب في أحضان العنف والتكفير إذ أنهم فقدوا الثقة في العلماء وهم يرون الفتاوي على هوى للظلمة والطغاة. وحضارة الإسلام ما قامت إلا يوم أن كان فيه من يصدح بالحق وأئمة يسمعون لهذه الكلمة هيبة للعالم العامل بدينه وبعقيدته كما قال عمر :” لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها “فالعدل ما غابت شمسه في بلدننا الإسلامية والعربية على وجه الخصوص إلا يوم تعطل دور العلماء .فغياب شمس العدل سببه الأصيل (علماء السلطان) الذين سوقوا للحكام ظلمه واستبداده فأنت ترى بعض من تدثر بثوب السلفية وهو أبعد الناس عن تعاليم السلف وهديهم في هذا الباب العظيم يصور لك الحاكم على أنه الحاكم بأمر الله وأنهم “كالقرآن” لا يصح نقدهم ولا محاسبتهم إن جلد ظهرك وسرق مالك .وهذا ظهر بصورة واضحة بعد قيام الثورات المضادة فطفت على السطح ثلة من كهنوتية كانت بالأمس القريب محط أنظار الناس وإعجابهم.

فالأمة اليوم تنفي خبثها وتسقط هذه الأوثان التي طالما تدثرت بثوب الدين والعلم.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى