بقلم تسنيم عبد الرحمن النمر
قصة وعبرة
يُحكى أنه كان هناك ملك قرّر أن يمنح جائزة لمن يرسم أجمل لوحة تعبر عن السلام. حاول الكثير من الرسامين رسم تلك اللوحة، و لكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل، وفي أحد الأيام حضر القصر رسَّامان، يحمل كــل منهما لوحته التـي تعبر عــن السـلام، وحار الملك في أمره، ولم يعرف أيَّ اللوحتين يختار، فكلتاهما كانتا تعبران عن السلام بمنظور مختلف.
فكانت اللوحة الأولى تصوّر بحيرة هادئة تعكس صورة جبل ضخم شاهق الارتفاع، وتمتد على الأفق البعيد سماء زرقاء مليئة بسحب كثيفة، أمَّا اللوحة الثانية فجاءت على النقيض تمامًا، فكانت عبارة عــن جبــال كذلك، ولكنهـا كانت وعـرة، وسماؤها ملبدة بالغيوم، والأمطار تنهمر بغزارة، يصاحبها رعد وبرق شديدان، وعلى أحد جوانب الجبل ينحدر شلال، تتدفق المياه منه بغزارة، للوهلة الأولى تبدو هذه الصورة غير معبرة عن السلام ألبتة، ولكن عندما أمعن الملك النظر في اللوحة، شاهد خلف الشـلال شجيـرات صغيرة نبتت مـن شِقٍّ في صخــرة، وقـد بَنَت عليـه عصفــورة عشهــا، ورغم الانحدار الشديد لمياه الشلال، رأى الملك العصفورة قابعة في مكانها في سلام تام.
وهنا، لدهشة الجميع اختار الملك اللوحة الثانية؛ لأنه رأى أن السلام لا يعني بالضرورة أن يعيش الإنسان في مكان يخلو من الضوضاء والحروب والمجاعات، ولكن السلام الحقيقي هو أن يكون وسط كل هذه الأشياء -أو أحدها- ومع ذلك يشعر بالسلام.
السلام لا يعني بالضرورة أن يعيش الإنسان في مكان يخلو من الضوضاء والحروب والمجاعات، ولكن السلام الحقيقي هو أن يكون وسط كل هذه الأشياء -أو أحدها- ومع ذلك يشعر بالسلام
ونحن نلمس هـذا الأمر كثيرًا فــي حياتنا، فالسلام الحقيقي لا يعني أبدًا أن يعيش الإنسـان في قصــر مشيد، ووسط خدم يوفرون له وسائل الرفاهية، فنلقى الكثير من المشردين، والفقراء، واليتامى، والجوعى، والذين فقدوا ذويهم في الحروب، راضين وسعداء بما قسم الله لهم ، كما نرى أم الشهيد راضية مغتبطــة باستشهاد ولدها، وتُمَنّي نفسها بلقائه في الجنة بإذن الله.
فالسلام الحقيقي إذن ليس معناه كذلك أن يكون للإنسان أبوان رائعان، يعينانه على طاعتهما، ولكن هو أن يكون أبواه غير ذلك، و مع هذا فهو يبرهما، ويدعو الله أن يعينه على طاعتهما والإحسان إليهما رغم جفائهما، أو قسوتهما عليه.
والسلام الحقيقي ليس أن تخـلو الحيــــاة الزوجية مـــن المصــائب والمشاحنــات، ولكـن أن توجد تلك الأمور، وينجح الزوجان مع ذلك في التغلب عليها وعيش حياة هنيئة.
والسلام الحقيقي ليس أن توجد وظائف بلا ضغوطات أو مُنغصات، ولكن أن توجد تلك الأمور، ومع ذلك يجد الإنسان الرضا والسلام في نفسه للقيام بعمله بإتقان، والإحسان لزملائه ما استطاع لذلك سبيلًا.
السلام الحقيقي ليس أن توجد وظائف بلا ضغوطات أو مُنغصات، ولكن أن توجد تلك الأمور، ومع ذلك يجد الإنسان الرضا والسلام في نفسه للقيام بعمله بإتقان، والإحسان لزملائه ما استطاع لذلك سبيلًا
وتاريخنا الإسلامي عامر بالكثير من الأدلة التي تبين المعنى الحقيقي للسلام، فخباب بن الأرت رضي الله عنه و أرضاه، كان يُعذَّب من قبل أم أنمار التي كانت تأخذ حديدة محمية من الموقد، وتضعها على رأسه حتى يدخِّن رأسه، ويُغمى عليه، عندما نتخيل نحن هذا الموقف يخيّل إلينا أنَّ خبَّابًا رضي الله عنه هو الذي يعاني، ولكننا إذا تأمّلنا الموقف عن قرب، سنجد أن خبَّابًا كان في سلام مع نفسه، رغم التعذيب الذي كان يلقاه، بينما كانت أم أنمار تشتعل غيظًا وحقدًا؛ لثباته وتمسكه بموقفه.
وموقف الخنساء رضي الله عنها وأرضاها التي حثت أولادها الأربع على الجهاد، ولمَّا استُشهدوا جميعًا ما زادت على أن قالت: “الحمد لله الذي شرّفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته!” والسؤال هو أيُّ نوع من السلام اكتنف قلب وعقل الخنساء، لتحث أولادها على الجهاد، وتفرح لاستشهادهم؟! إنه سلام الإيمان والعقيدة والأمل في رحمة الله وكرمه.
خلاصة القول إذن أنَّ السلام الحقيقي ينبع من داخل الإنسان، من إيمانه، وعقيدته، وهذا يكون بغض النظر عن الظروف و الملابسات التي تحيط به
خلاصة القول إذن أنَّ السلام الحقيقي ينبع من داخل الإنسان، من إيمانه، وعقيدته، وهذا يكون بغض النظر عن الظروف و الملابسات التي تحيط به، فالناس فــي معظم الأحيان قد لا يملكون أن يختاروا ظروفهم، أو أسرهــم، أو مجتمعهم، أو ابتلاءاتهـم، بيد أنهم يملكون ما هو أهم، وهو ردة فعلهم تجاه كل هذه الأمور: فإما أن يختار الناس معــاداة قـدرهـم في الحياة وبالتالــي تـزداد معاناتهـم وتعاستهــم، ثم لا يصير إلا ما يريد الله ويقدِّر ، وإما أن يختاروا تغيير الواقع إن أمكن، أو تقبّله بعلّاته، والتعايش معه إن لم يكن من ذلك بُدٌّ، وبالتالي يعيشون في سلام كتلك العصفورة، رغم كل الصعوبات والابتلاءات التي تنهمر كالشلال في قوته وسرعته!
(المصدر: موقع بصائر)