مقالاتمقالات مختارة

المعاصرون واجترار افتراءات المشركين والمستشرقين حول القرآن الكريم

بقلم أ. أسامة شحادة

تحت ضغط الهزيمة الحضارية والمادية أعاد بعض المعاصرين اجترار افتراءات المستشرقين ضد ربّانية القرآن الكريم، والتي هي اجترار لمزاعم كفار قريش كما تبيّن معنا في مقال الأسبوع الماضي، وتميز المعاصرون بتوظيف مصطلحات مراوغة أحياناً للتعبير عن فحوى افتراءات مشركي قريش كالأنسنة والتاريخانية أو الأرخنة أو الزمانية.

والغاية من كل هذه الافتراءات والمراوغات اللفظية هي نزع القداسة والعصمة عن القرآن الكريم باعتباره كلام الله عز وجل ووحيه لرسوله ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام، والتي تعني معياريته لبيان الحق والباطل وشموليته وإطلاقيته، وهو ما يصطدم بشكل تام مع الرؤى العلمانية والحداثية المادية.

فنجد نصر أبو زيد يعلن في كتابه (مفهوم النص) أن القرآن الكريم نص (بشري) ومنتج ثقافي ليس له قداسة، وليس نصاً ربانياً وإلهياً كما هو إجماع المسلمين عبر العصور، وأبو زيد هنا يقوم باجترار فِرية كفار قريش التي فندها القرآن الكريم في قوله تعالى: “وقالوا ما هذا إلاّ إفك مفترى” (سبأ: ٤٣)، ويوافقه على ذلك حسن حنفي في كتابه “التراث والتجديد”.

وهي فِرية تعارض الآيات القرآنية الدالة على أنه كلام رباني ووحي إلهي، كما أن صدق نبوءاته المتكررة كغلبة الروم على الفرس، وتحقق إشاراته الغيبية لكثير من المظاهر الطبيعية كحديثِه عن جبال السحاب وظلمات البحار وغيرها، وعدم وقوع الخطأ في أخباره وأحكامه، وفشل كل الافتراءات عليه لتجزم بصحة كونه نصّا ربانيا لا نصاً بشرياً.

ويأتي الطيب تيزيني في كتابه (الحركة المحمدية) ليكرر فرية كفار قريش التي أبطلها القرآن الكريم بقوله جل وعلا: “وقال الذين كفروا إنْ هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلماً وزوراً” (الفرقان: 4)، بزعمه أن الحركة المحمدية تأثرت بثقافة الأجانب والغرباء (الرقيق) في مكة وصراعها الطبقي مما أثر في منتج الحركة المحمدية الثقافي وهو القرآن الكريم!!

أما هشام جعيط في كتابه (الوحي والقرآن والنبوة) فيجترّ بوقاحةٍ مزاعم الكفار التي كذبها القرآن الكريم بقوله تعالى: “ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعرٍ مجنون” (الصافات: 36)، “إن هو إلا رجل به جِنّة” (المؤمنون: 25)، وهذا كلام يكفي سرده لردّه.

ويَعتقد محمد أركون في كتابه (الفكر الإسلامي) أن القرآن الكريم نص أسطوري! وهو عين افتراء كفار قريش الذي سجله الله عز وجل في كتابه بقوله تعالى: “وقالوا أساطيرُ الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بُكرةً وأصيلاً” (الفرقان: 5)، والافتراء على القرآن الكريم بأنه أساطير قال به عدد من المعاصرين منهم محمد أحمد خلف الله وطه حسين.

وكون القرآن الكريم احتوى على قصصٍ وردت عند الأمم السابقة لا يعني أنه يحتوي على أساطير، بل على العكس من ذلك تماماً، حيث أن هذه القصص القرآنية تخلصت من الجانب الأسطوري البشري الذي اختلط بالحق الرباني الذي نزل في الكتب السابقة، وسردت صحيح أحداث القصص القديمة دون تحريف وتشويه، وهذا معنى قوله تعالى: “نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنتَ مِن قبلِه لمن الغافلين” (يوسف: 3)، وقوله تعالى: “ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنتَ لديهم إذ يُلقون أقلامهم أيّهم يكفُل مريم وما كنتَ لديهم إذ يختصمون” (آل عمران: 44).

ومن جانب آخر قام بعض المعاصرين بمحاولة القفز عن عقيدة أن القرآن الكريم وحي رباني يلزم الناس الخضوع له واعتباره المرجعية المطلقة من خلال إطلاق بالون مصطلح “الأنسنة”! ويقصدون أن الوحي هو تجربة إنسانية شخصية تتأثر بواقعها ورغباتها! لكن اتفاق الرسالات الربانية على أصول التوحيد وأركان الإيمان والإسلام والثواب والعقاب يبطل مزاعمهم ويؤكد أن هذه الرسالات ذات مصدر رباني واحد.

وحاولوا مرة أخرى ربط القرآن الكريم بزمنه وعصره فقط ونفي أي امتداد له في المستقبل تحت عناوين شتى مثل: وقتية أحكام القرآن عند محمد العشماوي، والزمانية عند محمد الجابري، والتاريخانية عند أبو زيد، وهذا تلاعب لفظي يخدع البسطاء والجهلة ممن تصدمهم سطوة المصطلحات الغريبة والغربية.

فزعموا موافقتهم أن القرآن وحي ولكنهم قصَروا دوره وتأثيره على زمانه وبيئته فقط، ولجؤوا لعدة حيل في سبيل ذلك مثل دعوتهم لمراعاة مقاصد الأوامر والنواهي، وليس الأوامر والنواهي نفسها المرتبطة بزمنها! وهذا يتناقض مع اعترافهم الزائف بربانية القرآن لأن من لوازم ربانيته أنه يتجاوز حدود الزمان والمكان بعلمه المحيط وقدرته الواسعة بخلاف النص البشري القاصر!

ومن ألاعيبهم رفعهم مقولة: “النص القرآني ثابت المنطوق متحرك المحتوى”، لكن حقيقة غايتهم تتمثل في قول أبو زيد في كتابه (النص، السلطة، الحقيقة): “إذا قرأنا نصوص الأحكام من خلال التحليل العميق لبنية النصوص .. فربما قادتنا القراءة إلى إسقاط كثير من تلك الأحكام بوصفها أحكاما تاريخية، كانت تصف واقعاً أكثر مما تصنع تشريعاً”، وهذا ما يفسر تضارب هلوسات المعاصرين كمحمد شحرور حول المعنى المعاصر لأحكام الشريعة كأركان الإسلام والحجاب وأنصبة الميراث والجهاد وتحريم الكبائر من الزنا والخمر والخنزير!!

ختاماً؛ إن الاعتراف بربانية القرآن الكريم والإيمان بصدقه يؤديان تلقائيا للإيمان بكل مفاهيم وأحكام القرآن الكريم الذي جاء ليخاطب البشرية جمعاء منذ بعثة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وحتى قيام الساعة، قال تعالى: “وأوحي إليّ هذا القرآن لِأنذركم به ومَن بلغ” (الأنعام: 19)، وقال جل وعلا: “تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا” (الفرقان: 1).

(المصدر: موقع أ. أسامة شحادة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى