مقالاتمقالات مختارة

المشايخ الكرام.. كيف صدّقناكم وخدعتمونا!

المشايخ الكرام.. كيف صدّقناكم وخدعتمونا!

بقلم رامي إبراهيم البنا

اتفق كثيرٌ من اللغويين والفقهاء على أن معنى الكذب هو إخبارٌ بخلاف الحقيقة، بغض النظر عن أن يكون ذلك بقصدٍ أو بغير قصدٍ، فلو قلتُ لك: إن الساعة الآن الثالثة، ولم يكن الأمر كذلك، فأنا إذن كاذب، هذا بغضِّ النظر عن جهالتي الحقيقية أو تعمُّدي الكذب في الإخبار، وقد استخرجوا هذا من عدة شواهد من السنة وأشعار العرب، نذكر منها على سبيل المثال، حَدِيثَ عُرْوة «قِيلَ لَهُ: إِنَّ ابنَ عَبَّاس يقول: إن النَّبيّ صلى الله عَلَيهِ وسلَّم لَبِثَ بِمَكَّةَ بضعَ عشْرة سنَة. فقالَ: كَذَبَ»، وقد قال ابن الأثير في كتابه المسمى بالنهاية عقب هذا الأثر: أي أخطأ، وذكر «قول عُمَر لِسَمُرَة حين قال: المغمَيّ عليه يصلي مع كل صلاةٍ صلاةً حتى يقضيها، فقال: كذبت، ولكنه يصليهن معا» أي أخطأت، وقد تكرر في الحديث، ومنه قول الأخطل:

كَذَبَتْك عَيْنُك أمْ رَأيتَ بِوَاسِطٍ … غَلَسَ الظَّلاَم مِنَ الرَّبابِ خَيَالاَ

وهكذا يتضح أن معنى الكذب يطال معنى الخطأ الذي هو ضد الصواب بغض النظر عن نية المخبِر، وفعل الخداع قريبٌ من فعل الكذب؛ إذ الكذب نوع من الخداع أيضًا، بيد أني أسْحَبُ هذا الكلام السابق المتعلق بالكذب على فعل الخداع تمامًا، وأقول بأن قد يخدعُك المرء ويطيل خداعه لك، وتعيش أنت في هذا الخداع حتى تكتشفه بنفسك، ولا يخبرك هو بذلك، فيصبح الأمر حينها بالنسبة لك خداعًا، بغض النظر عن الشخص الذي قام بهذا الفعل، أكانت نيته لك خداعًا حقيقيًّا مقصودًا أم أن الأمر غير مقصودٍ منه، حصل عفويا أو تصادفًا، فهذا لا يغير من الفعل الواقع شيئا، والنوايا يعلمها ويحاسب عليها الرحيم العفو.

النموذج الذي أتْبعُ إليه لا يختلف عن كثير من الشباب، من نماذج مصرية أو عربية في بلدان أخرى، ففي الصغر يتلقُّفنا –أو كان يتلقفنا- أحد الجماعات المتوفرة المسيطرة في الساحة، كان الصراع غالبًا بين جماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفي بأنواعه وأطيافه، أما التيار الصوفي فكان منحسرًا في عدة مناطق وفي كثير من الأحيان يكون هذا التلقف بالوراثة، يعني من كان أبوه صوفيًا يكون صوفيًا غير ذلك ففي الجماعات الأخرى كفاية ومندوحة.

الصراع… هل كان حقًّا صراعًا؟!
أقول لك: كان حقًّا صراعًا، أنا لا أنسى ما حييت كثيرًا من المشاهد التي كانت جارحة لي كشاب غِرٍّ لا يعرف شيئا، أو يعرف قليلا من الأشياء، ذلك المسجد الذي فُتِح جديدًا، والمسجد حينما يُفتح جديدًا يكون مثل الغنيمة التي تتكالب عليها قبائل الحرب، فتأتي جماعات الإخوان بأفرادهم ومقرئيهم وكبرائهم وهم يلبسون القمصان الشيك حالقي اللحى، بابتساماتهم الصفراء، ويبدأون -في محاولة منهم لضم الجامع تحت سيطرتهم- يرصون حلقات تحفيظ القرآن، وقراءة فقه السنة لسيد قطب أو غيرها من الكتب التابعة للإخوان.

أما الجماعات السلفية فهم أيضًا يأتون بسمتهم باللحى والثياب البيضاء وقرائهم المتميزين وغير ذلك، وكل جماعة تفتخر وتتباهى بما عندها من الإمكانات، وتكون مناسبة المعارك الصلاة، فصلاة الفجر تُشدّد كل جماعة على أتباعها أن يأتوا في وقت مبكر كي يلحقوا دورًا في الصفوف الأولى، ويتفق كل جماعة على من سيتسابق كي يمسك بناصية الآذان ومن سيتسابق ليمسك بناصية الإمامة، ومن هو المسؤول عن الأشبال الصغار، ومن سيفعل كذا ومن سيفعل كذا؟!، ويستمرُّ هذا الصراع الضاري –بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ- حتى يقع المسجد في إحدى الجماعتين، وغالبًا ما يتدخل أمن الدولة كي يفصل في المعركة ويبعث للأوقاف فترسل إمامها الجاهل غالبًا، فيتقلّد زمام المسجد ويبقى المسجد بعيدًا عن الطرفين، أو تستمر المعركة فيما بعد.

ومن المعلوم لدى كل من اتصل بالجماعات الإسلامية أن هذا الصراع لا يقتصر فقط على مسجد بُنِي هنا أو هناك، وإنما يطال كل شيء، فصلاة العيد ميدان آخر وساحة أخرى من ساحات المعركة، ففي المنطقة ج مثلا توجد الجماعتان ويوجد المسجدان وتوجد القوتان الإخوان والسلفيون، فحينما يأتي العيد تأتي صلاة العيد وفي الشارع الفلاني في هذه المنطقة تريد جماعة الإخوان أن تفرش فيه مصلاها وتقيم فعالياتها، وهنا يقع التنازع بين الجماعتين على هذا الشارع، وقد وصل الأمر في كثير من الأحيان إلى الضرب والعراك بينهما، وقد شهدته بنفسي، ولا ننسى أن أمن الدولة كان يلعب دورًا أساسيًا في هذا الصراع، والسؤال الحقيقي هنا الذي كان غائبًا عني آنذاك، أين الله هنا؟!

عرفت صغيرًا طلب العلم عن طريق السلفيين وشراء الكتب والنَهَم في القراءة، وهذه حسنة لولاهم لما عرفت كل ذلك، وكان من دأبي أن أسافر كي ألقى المشايخ والعلماء هنا وهناك، وكان من ضمن أحلامي أن أرى الشيخ الفلاني المشهور، فسافرتُ طريقًا بعيدًا ولحقته في مسجده وسلَّمتُ عليه، وما نابني منه غير السلام والتحية، وقد كان هذا كافيًا للشاب الغِرِّ الجاهل آنذاك، لكن كان المفاجئ لي –رغم أني كنت غِرًّا جاهلا- أن أرى هذا الشيخ الذي اشتُهِر بكلامه في تزكية النفوس والزهد والورع، في سعةٍ من أمره، لا لم يكن في سعةٍ من أمره بل كان يعيش حياة فارهة مُنَعَّمة لا يعيشها أكثر الناس، وقد كان هذا بالنسبة لي إحدى المشاهد التي لا أنساها ما حييت، يومها رجعتُ والسؤال الذي كان في ذهني لا يبرح عنه، كيف لشيخ يأمر الناس ليل نهار بأن يزهدوا في الطعام والشراب وفي قليل العيش، وهو يعيش حياة فارهة مُنَعَّمة لا يطالها أكثر الناس؟!، وقد سمعت حينها أجوبة كثيرة غير مقنعة.

من يستطيع أن يقول للمشايخ: إنكم بشرٌ مثلنا، وإنكم حتمًا قد أخطأتم في كثير من الأمور، وإنكم إلى الآن لم يعترف أحدٌ منكم بخطئه في فهم الدنيا والواقع، من يقول لهم، وإذا قيل لهم حقا، هل سيقتنعون بذلك؟!

سنة كاشفة

كانت السنوات التي قبل الثورة كأنها تحضير لشيء ما سيحدث، كنت أقول لأصدقائي: إن هناك طوفانًا كبيرًا سيأتي، كانت التغيرات بين شباب التيار الإسلامي قد بدت واضحة جلية، لكن رؤوس التيار الإسلامي كانوا مثل الأحجار الصلبة التي لا تلين ولا تتغير، اللهم إلا بمطرقة تهشمها تمامًا، كان من أواخر هذه التحضيرات هو بيان المطالب السبعة الذي اجتمع عليه الإخوان وتيارات مدنية بزعامة الدكتور محمد البرادعي، كان الإشكال الشائع بين أبناء الشباب السلفي هو المشروعية الدينية لهذه المطالب السبعة ، وبالطبع كان الغالب من الشباب السلفي برؤوسه هو رفض هذه المطالب لأنها مخالفة للشرع.

شخصيًّا كان التباعد الفكري بيني وبين هذه الأفكار قد تحقق قبل سنوات على هذا، وقبيل الثورة قد سيطر عليَّ الغضب كما سيطر على عامة شباب مصر، كانت هناك أحاديث جلية لا أنساها في حياتي، ذلك الشيخ السلفي الذي خرج على المنبر وله كرش عظيم يقول: “نحن لا نخرج في سبيل بطوننا، بل نخرج في سبيل الله” يقصد تلك الثورة التي تقول: “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، لم أستطع حينها أن أحل ذلك اللغز، “كيف لا يستطيع أن يفهم ذلك الشيخ أن تلك المطالب هي من صميم الدين، وأن من لا يستطع أن يجد لقمة عيشه لن يستطيع أن يعبد الله؟!”

من يضرب المشايخ بالعصا؟!

كثيرًا ما يتحدّث المشايخ الكبار اللامعون عن نكران الجميل وعصيان التلاميذ وطلبة العلم، وكان من آخر ما سمعته من أحد المشايخ وهو يتحدث بألم شديد عن “أن هناك طلابًا كانوا يفتخرون بانتسابهم لمشايخهم ويذهبون إلى القرى والبلدان باسم مشايخهم، هؤلاء الطلاب أصبحوا الآن يُقطِّعون في لحوم مشايخهم وينكرون فضلهم وفضائلهم، مما يسبب الألم” أو كما قال الشيخ.

لم يكن الكلام مفاجئًا لي، فالمشايخ الكرام أو الأساتذة الكرام أو القادة الكرام هم من قديم الأزل كذلك شهدناهم يرون أنفسهم فوق كل شيء، فوق تلامذتهم وفوق النقد والنقض، وأنهم أصحاب فضل على الجميع، وقد يكون هذا صحيحًا فالمعلِّم مهما كان الأمر لا يُنكر فضله، فمن علَّمني حرفًا صِرتُ له عبدًا، وقد يكون ما يفعله كثيرٌ من الشباب يتجاوز الأدب والمنطق في كثيرٍ من الأحيان، لكن السؤال هنا: هل يوجد احتمال لهؤلاء المشايخ والكبار لأن يكونوا قد أخطأوا في سابق عهدهم؟

فإنهم دائمًا كانوا يضربوننا نحن الشباب والصغار بالعصا، بعصا الحجة والأدلة والبرهان والفرقة الناجية وحرمة لحوم العلماء وأدب طالب العلم مع الشيخ وعدم إنكار الجميل وإعطاء العلماء حقهم والكبار حقهم، والسؤال الأخير هنا؛ من يُضْربُ هؤلاء المشايخ بالعصا؟!، من يستطيع أن يقول لهم: إنكم بشرٌ مثلنا، وإنكم حتمًا قد أخطأتم في كثير من الأمور، وإنكم إلى الآن لم يعترف أحدٌ منكم بخطئه في فهم الدنيا والواقع، من يقول لهم، وإذا قيل لهم حقا، هل سيقتنعون بذلك؟!، أنا شخصيًّا أشكُّ في هذا كثيرًا.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى