علال الزهواني – منسق المنتدى الأوربي للوسطية ببلجيكا
ينقسم المسلمون في الدول الغربية إلى نموذجين من خلال النظر في طبيعة التفكير والكيفية التي ينتظمون بها، ويتراوح هذان النموذجان بين الانحلال التام في بوتقة الثقافة الغربية أو الانغلاق على الذات باسم الدين والخوف من الذوبان نتيجة مبررات لا شرعية ولا عقلانية، وكلاهما لا يخدم الإسلام عقيدة ولا ثقافة بل يقدمان صورة مشوهة، ولذلك فالمسلمون في الدول الغربية يحتاجون إلى نموذج ثالث ينسج نظرة إسلامية معتدلة، ويتسم تفكيره بالوسطية وسلوكه بالاعتدال، ويعتبر خير ما يراهن عليه لتحقيق خير جدير بهم ضمن المجتمعات التي يعيشون فيها، بحيث يحافظون على الثقافة الإسلامية، وفي نفس الوقت يراعون طبيعة البيئة التي يعيشون فيها، وهو مسلك ملائم لترتيب الوجود الإسلامي في الدول الغربية، وقد تشكلت بعض ملامح هذا النموذج بصيغة فردية أو جماعية، حيث تعالت أصوات ونشأت أفكار تنادي بتحسين صورة الإسلام في المجتمعات الغربية والكشف عن صوره المشوهة، وبدأت تشق لها منهجا وسطيا يتجاوز النظرة النفعية ويرفض الذوبان في الثقافة الغربية، ويتجلى منهجه الحياتي في الاندماج الإيجابي والعيش المشترك في إطار القيم الإنسانية المشتركة.
ولقد أصبح المسلمون في الدول الغربية “لهم ثقل حضاري يتجاوز القضايا التقليدية ذات الطابع الفردي إلى قضايا أكبر دلالة وأعمق أثرا، مرتبطة بالهوية الإسلامية ورسالة المسلم وصلته بأمته الإسلامية، وقد حاول البعض الإجابة على المسائل الفردية بمنطق الضرورات والنوازل، ناسين أنه منطق هش لا يتسع لأمور ذات بال، كما واجه المسلم فوضى في الإفتاء من طرف الفقهاء فهذا يحل وذاك يحرم، وثالث يستند إلى أنه يجوز في الدار غير الإسلامية مالا يجوز في دار الإسلام، ورابع يقيس الواقع الحاضر على الماضي الغابر قياسا لا يأبه بالفوارق النوعية الهائلة بين مجتمع وآخر وبين حقبة تاريخية وأخرى، بل لا يأبه بالقواعد الأصولية لمنع قياس فرع على فرع، فكانت النتيجة المنطقية لهذا المنطلق المنهجي الخاطئ، إيقاع المسلمين في البلبلة والاضطراب، وتحجيم دورهم المرتقب، والحكم عليهم بالعزلة والاغتراب، وإعاقة الحياة الإسلامية، وفرض التخلف عليهم، وإظهار الإسلام بمظهر العاجز عن مواجهة أسئلة الحضارة والعمران المستنير في عصر العولمة”1، ولذلك فالمسلمون بحاجة إلى اجتهاد مقاصدي في قضاياهم يلبي الطموحات ويربطهم بجسم الأمة الإسلامية ليؤدوا وظيفة خيرة في بناء جسور الحوار الحضاري ، وإلى ضرورة تحديد الخطاب الإسلامي الملائم للمجتمعات الغربية، وتوظيفه للمعارف الإنسانية الجديدة مثل الأوضاع الاجتماعية والمهنية والمشاركة الوجدانية والمصاحبة النفسية باستخدام أدوات منهجية مستنبطة من أصول الفقه تأخذ الأبستمولوجيا العالمية المعاصرة بعين الاعتبار، وتدريب أبناء المسلمين على هذا الخطاب لتنمو لديهم القدرة على التحدث به بكل إتقان وسهولة ودون تكلف أو تصنع،
كما تنمو لديهم القدرة على إبداعات فكرية وبدائل مع الالتزام بالنصوص الشرعية الثابتة في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية وكلياتها، وذلك من خلال فهم شامل للقضايا بمختلف أبعادها وفي كل صورها، مع الأخذ بعين الاعتبار الممارسات التاريخية والمعاصرة والحلول المطروحة من قبل القوانين المحلية والاتفاقيات الدولية المنعقدة بين دول العالم الإسلامي والدول الغربية التي تحمي المسلمين في دينهم وأموالهم وأعراضهم2، كما ينبغي ضرورة تخريج علماء ووعاظ ومرشدين من أصلاب المسلمين متشربين بعقلية الغرب وقوانينه، جامعين بين الخلاصات الإيجابية للحضارات، وجامعين بين التجارب الإسلامية العملية والنظر الفقهي المتحرر، داعين المسلمين كافة إلى الاندماج السلمي في مجتمع الأغلبية الذي يعيشون فيه، والانخراط في قضاياه ومناقشاتها، مع عدم إغفالهم عن المعالجات الهادئة وغير المباشرة للغلو الديني والتطرف الإيديولوجي بفكر وسطي ومنهج اعتدالي، كما ينبغي العمل على رفع التعارض بين الشريعة الإسلامية وقوانين الدول الغربية، وذلك بوضع حد للمفارقة الوهمية التي يعيشها المسلمين بين مواطنتها الغربية و الإسلام، ليكونوا في تناغم تام مع النفس والمجتمع، مع العلم أن المواطنة الغربية تعطي شرعية للحضور الإسلامي، وتضفي عليه حماية دستورية وقانونية تصون أمنه وأمانه، وتحمي حقوقه،
وفي هذا السياق قد أصدر المجلس الأوروبي للإفتاء قراراً بشأن المواءمة بين التقيد بالثوابت وبين مقتضيات المواطنة قال فيه: “يقصد بالمواطنة الانتماء إلى دولة معينة أرضاً وواقعاً، وحمل جنسيتها، ويقصد بالثوابت الإسلامية: الأحكام الشرعية الاعتقادية والعملية والأخلاقية التي جاءت بها النصوص الشرعية القطعية أو أجمعت عليها الأمة الإسلامية، ويشمل ذلك ما يتعلق بالضروريات الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. ومشروعية إسهام المسلمين في غير الدول الإسلامية، من الأنشطة الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، التي لا تتعارض مع الثوابت المتقدمة، ولاسيما إذا اقتضت المواطنة ذلك شريطة ألا تهدد هويتهم وشخصيتهم الإسلامية”3، كما قرر بخصوص الولاء ما نصه: “إن الولاء رباط وثيق، يربط الإنسان بعلاقة خاصة ووشيجة حميمة تنشأ عنه التزامات وحقوق وواجبات، وهذه العلاقة ذات أوجه مختلفة وأبعاد متعددة، فالولاء قد يكون للعقيدة، وقد يكون للنسب والقوم، وقد يكون بالعهد والعقد، وقد أشار القرآن إلى هذه المعاني جميعاً. وأعلى هذه الولاءات منزلة الولاء للعقيدة الذي يدخل فيه الإيمان بأركانه، وما يترتب على ذلك من ممارسة الشعائر، والالتزام بالأخلاق الفاضلة، وهذا الولاء لا يتناقض مع الولاء للوطن الذي يرتبط معه الإنسان بعقد المواطنة، فيدافع عن حوزته ضد أي اعتداء”4،
كما ينبغي ضرورة الاجتهاد للملاءمة بين الإسلام والعلمانية في المجتمعات الغربية5، ليعيش المسلمون في تناغم مع النفس والمجتمع، دون أن تتخلى عن هويتها الثقافية ” التي ليست في مستكن المسلم مجرد هوية انتماء شخصي، بل هي أيضا هوية تعريف وتبليغ وعرض في بعدها الديني والحضاري”6، وضرورة إبداع نموذج من التدين للمسلمين يستجيب للبيئات الغربية، مع ضرورة الوعي بحدود الفقه الموروث في معالجة قضايا المسلمين، “فعلى ثراء هذا الفقه وتنوعه وغناه وتشعبه، فقد أصبح أغلبه جزء من التاريخ، لأسباب تتعلق بالمنهج وأخرى بتحقيق المناط، حيث لم يرتب بعض الفقهاء الأقدمين مصادر التشريع الترتيب الصحيح الذي يعين على حسن الاستنباط، وهو جعل القرآن الكريم المصدر التأسيسي المهيمن على ما سواه، واعتبار السنة النبوية مصدرا بيانيا ملزما مكملا وتابعا له، كما أن أكثر الفقهاء لم يأخذوا بعين الاعتبار عالمية الإسلام في التنظير الفقهي لعلاقة المسلمين بغيرهم، بل عبروا عن نوع من الانطواء على الذات لا يتناسب مع خصائص الرسالة الخاتمة والأمة الشاهدة، كما أنهم تأثروا بالأعراف التاريخية السائدة في عصرهم حول التقسيم الدولي للعالم، فضاقت نظرتهم للموضوع فابتعدوا عن المفهوم القرآني للجغرافيا”7، وأما الأسباب المتعلقة بتحقيق المناط فينبغي الفهم العلمي للواقع الذي يفرز المستجدات والنوازل كما أفرزتها الأوضاع المجتمعية للمسلمين، وهذا ما سماه الأصوليون بتنقيح المناط وتخريجه وتحقيقه، يقول ابن القيم الجوزية: “فهم الواقع والفقه فيه..
فالعلم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله”8، فلم يعتد المسلمون في تاريخهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، على اللجوء إلى البلدان غير الإسلامية طلبا لحق مهدر أو هربا من ظلم مفروض، بل كانت بلاد الإسلام في الغالب أرض عز ومناعة، ولم تكن تفصل بينها حدود سياسية، فكلما ضاقت بمسلم أرض، أو انسدت عليه سبيل، تحول إلى ناحية أخرى من الإمبراطورية الإسلامية الفسيحة دون أن يحس بغربة أو تعتريه مذلة…كما أن الفقهاء الأقدمين لم يعيشوا الوحدة الأرضية التي نعيشها اليوم، حيث تتداخل الثقافات وتعيش الأمم في مكان واحد، وإنما عاشوا في عالم من جزر منفصلة، لا تعايش بينها ولا تفاهم، فكان فقه الحرب طاغيا بحكم مقتضيات الواقع يومذاك، وما نحتاجه اليوم هو فقه التعايش في واقع مختلف كما ونوعا”9، فيجب الانطلاق في معالجة القضايا الكبرى للمسلمين في الدول الغربية ” من كليات القرآن الكريم وغاياته وقيمه العليا ومقاصد شريعته ومنهاجه القويم ، والاستنارة بما صح من سنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في تطبيقاته للقرآن وقيمه وكلياته”10، كما ينبغي الإفادة مما كتبه أهل المقاصد والأصول في باب التمييز بين الوسائل والمقاصد في تنزيل الأحكام الشرعية11، ووجود المسلمين في الدول الغربية، يساعد على توفير شروط التجديد بمعرفة المجتمعات الغربية عن كتب، و هذا يعتبر فرصة من ذهب لتقديم خدمات جليلة من طرف الحداثة الغربية للفكر الإسلامي.
ويبقى ترتيب الوجود الإسلامي بشكل دائم وصحي في المجتمعات الغربية مرهون بمدى نجاعة المسلمين فيها، والكيفية التي يحضرون بها هي التي تحدد المكانة والقيمة لهم، وعليه فإن المسلمين مطالبون بتحسين حضورهم بالسلوك الحسن، والمعاملات الاجتماعية والاقتصادية الفعالة، والإسهام السياسي المستمر، والإنتاج الثقافي الهادف والتوجيه التربوي الصارم، ويتطلب هذا الانخراط السلمي للمسلمين في الواقع الغربي فقه الواقع فقها جيدا لإنزال الشرعية الإسلامية وتطبيقها في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية وكلياتها، فلذلك يحتاج هذا الوجود في الغرب إلى فقهاء مدققين ورعين لا يتصورون أن دورهم مجرد دور الفقيه الذي يأتي بالأحكام الشرعية للناس ويقول هذا حلال وهذا حرام، وإنما عليهم أن يقوموا بدراسة هذا الواقع الغربي من خلال أهل الاختصاص ، يقول الإمام الشاطبي: ″لا تنزل من يأتيك على عرف بلدك، بل أنزله على عرف بلده″، كي تستطيع أن تفهم قضيته ومشكلته التي تريد أن تنزل الحكم عليها، فهناك دور لأهل الاختصاص في كل علم لتوصيف هذا الواقع قبل أن ننزل الحكم الشرعي عليه، كلهم علماء واقع لا علماء شريعة، وبعد هذا يأتي دور الفقهاء لأن أهل الاختصاص كالطبيب والسياسي والاقتصادي وغيرهم قد تكون لهم الكلمة العليا في كثير من القضايا، ومن تم فإن فقه الواقع الذي يعيش فيه المسلمون يسهم كثيرا في ترسيخ الفكر الوسطي للإسلام القادر على استيعاب الزمان والمكان، الذي يدفع المسلمين إلى مزيد من الخير والعدل والسلام والأمن والاستقرار.
الهوامش:
1 – مدخل إلى فقه الأقليات: نظرات تأسيسية، طه جابر العلواني، مجلة إسلامية المعرفة، السنة الخامسة، العدد التاسع عشر، واشنطن، ص 12، بتصرف.
2 – القاموس السياسي، أحمد عطية الله، القاهرة، ط3، 1968م، ص 96، ومحمد بن الحسن الحجوي، الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي، تخريج وتعليق: عبد العزيز عبد الفتاح، المدينة المنورة، ج2، ص 376، بتصرف، ينظر أيضا : نحو فقه جديد للأقليات، جمال الدين عطية محمد، دار السلام، القاهرة، مصر، 2007م، ص3، بتصرف.
3 – المرجع السابق، ص 303.
4 – فتاوي وقرارات الدورة العادية السادسة عشرة، للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ص 302، المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، العددان 10، 11، الجزء الثاني، مايو 2007م..
5 – للمزيد من التفصيل حول ملاءمة الإسلام والعلمانية في المجتمعات الغربية، ينظر إلى كتاب طارق أوبرو، المهنة إمام، دار النشر: ألبان ميشال، فرنسا، ط1، 2009م.
6 – التأصيل لفقه الأقليات، عبد المجيد النجار، مرجع سابق، ص 2-3 ، بتصرف.
7 – مدخل إلى فقه الأقليات: نظرات تأسيسية، طه جابر العلواني، مجلة إسلامية المعرفة ، مرجع سابق، ص 13.
8 – إعلام الموقعين، ابن القيم، مرجع سابق، ج1، ص 88.
9 – مدخل إلى فقه الأقليات: نظرات تأسيسية، طه جابر العلواني، مجلة إسلامية المعرفة ، مرجع سابق، 13-14، بتصرف.
10 – نفسه، بتصرف.
11 – للتفصيل ينظر: نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، اسماعيل الحسني، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، ط1، 1995م، ص 396، بتصرف.
المصدر: هس برس.