مقالاتمقالات مختارة

المسلمون الجدد بين عالمَين

المسلمون الجدد بين عالمَين

بقلم طه سليمان عامر (رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا)

قد يتعافى مريض طال داؤه وتناءى دواؤه، ثم أدرك ما فاته في زمن السقم في وقت العافية، وقد يفجأ المرءَ الصحيح مرضٌ مُقعِد، وبعد أن كان بالأمس مفتول العضلات يمشي في الأرض مرحا، إذ به وقد تبدلت حاله وغدا لا يقوى على شيء، وكم سمعنا عن أناس زادهم الله بسطة في المال والعافية بعد عَوَز، وهناك من افتقروا بعد غنى عريض، فمنهم من آمن بقدر الله ومنهم من أعرض ونأى بجانبه وملأ الأرض بالشكوى والضجر، وليت ما فات يعود، أو ما مضى ندركه، قُضي الأمر ورفعت الأقلام وجفَّت الصحف.

ليس من اليسير على المرء أن يتأقلم سريعا على تقلبات الحياة وتبدل الأحوال، تلك قاعدة تجري على حياتنا كلها، بيد أنها ظاهرة في حياة المسلم الذي أشرق بالإيمان قلبه واستنار بالقرآن عقله بعد رحلةٍ قصيرةٍ أو طويلةٍ تفكيرا وتدقيقا وموازاتٍ وخياراتٍ وصراعاتٍ داخليةٍ وخارجيةٍ وحاضرٍ ومستقبل يَلُفُّه – في بعض الظروف – غموضٌ ويكتنفه المجهول، إنك لا تتصور أن حياة إنسان ستنقلب وتتحول، وتتغير أشياء جديدة، وتستجد عليه أمور أخرى يجب أن يوطن نفسه عليها إن أراد التوازن في حياته، وليس هو عليه هَيِّن.

هذه امرأة بحثت طويلا عن الدين الذي يروي ظمأها ويشفي غليلها ويسد ثَلَمة روحها، فانتقلت من دِين لدِين، وبعد حين هداها الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فشرح صدرها وأنار دربها فاتخذت الإسلام دينا واتبعت الرسول صلى الله عليه وسلم والنور الذي أُنزل معه، فهل عاشت هانئة البال خالية من شدة يبتلى الله بها بعض عباده؟ لا… لقد واجهت واقعا جديدا فرض نفسه، فكيف سيتصرف معها أهلها الأقربون؟ منهم من احترم اختيارها، ومنهم من صدَّ عنها، قاطعها أبوها وأمها وبعض أقاربها، وأصبحت تحت ضغوط تتناوشها من كل جانب.

كيف تواجه هذه الصعوبات جملة واحدة؟

إن بعضا من أصدقائها بالأمس أصبح من المُصَعرين خَدَّهم لها اليوم، اختبار عسير، كيف توازن بين برها لوالديها واحترامها لنفسها وقناعتها؟ ليس من السهل عليها أن تجد أحب الناس إليها مقاطعين لها فكيف السبيل إلى قلوبهم؟ ما حدود التعامل مع زملاء العمل في مسائل متعددة؟ وماذا عن الأحكام الشرعية والقيام بها، الصلاة والصيام والحج والحجاب وو ماذا تقدم وماذا تؤخر وكيف تؤدي عباداتها على النحو الذي يرضاه ربنا؟

   

إن حياة جديدة تستقبلها وعالما جديدا تدخله فهل تخاصم عالمها الآخر بكل جوانبه؟ وماذا عن حقوق الرحم والتواصل الاجتماعي؟ ستجد نفسها مدعوة إلى عقد زواج بالكنيسة ودعوة أخرى لشهود تعميد ابنة أخيها أو أختها؟ وغير ذلك من المناسبات، ثم تدور عينيها في محجريها عندما ترى فوضى الفتاوي التي تطفح بها صفحات النت ووسائل التواصل، وفي ظل ضعف المؤسسات والعمل الدعوى الموجه للمسلمين الجدد تزداد حيرة على حيرتها.. هذه حالة مما لا يُحصَى فما السبيل إذا؟

طرحتُ أسئلة لا لمناقشتها إنما للوقوف على بعض صور المعاناة والصعوبات التي تواجه إنسانا قرر أن يختار دينا جديدا بمحض إرادته وعليه أن يشق طريقا غير مُذَللٍ، ويكافح وحده أو مع غيره لتجاوز العثرات والبقاء على دينه إلى يوم اللقاء، إن كثيرا من المواقف تضغط على ذهني لإفراغها هنا، وإنني لفاعل، وسأذكر طَرَفا منها:

– جاءت مسلمة جديدة مع زوجها العربي الشاب لتعرض علىَّ مشكلتها:

فلما جلسا فقلت ما خطبكما؟

قالت: يُحَرم علىَّ زيارة أهلى غير المسلمين لتهنئتهم في أيام الأعياد نهاية العام قلت لماذا تمنعها؟

قال: هذا حرام!

قلت ما هو الحرام؟

قال أن تزورهم في أيام الأعياد، فهذه موافقة لهم على دينهم!

قلت هل ستزورهم في بيتهم أم أنها ذاهبة إلى مرقص؟

قال بل في بيتهم!

قلت إنها زيارة صلة وبر ولن تتورط في شيء محرم فلماذا تحجبها عنهم، وبأي وجه تصنع أنتَ ذلك؟

ثم قلت: هل يهنئك أهلها بعيد الفطر والأضحى؟

قال نعم، ويقدمون لنا الهدايا!

قلت: هل تهنئتهم لنا ومعها الهدايا تعني موافقتهم لنا في معتقداتنا؟ قال لا، قلت: هل تحب أن يحبوا ديننا ويحترموه ؟ قال نعم، قلت فكيف ونحن بهذا الطبع الخشن والإحساس البارد والمشاعر البليدة؟ لماذا نقدم ديننا ناقص الخلقة مُشَوه الصورة دميم المنظر؟! أين وجه التحريم في الزيارة والصلة؟ ألم يقل الله “أن تبروهم”، لماذا نلغي عقولنا كأننا أجساد بلا أرواح، وأدمغة محشوة بالخرافات والأوهام؟

وتلك قصة أخرى: امرأة مات أبوها وسألتْ بعض المتسلقين على الفتوى: هل يجوز أن تشارك في جنازة والدها فأجابها – شغله الله بغير الفتوى – لا يجوز لأنه كافر.. ولأن المرأة حرام عليها زيارة القبور.. هكذا قولا واحدا! كم سيكون لهذا الهراء من أثر مقيت على المرأة ومحيطها؟ لكم أن تتصوروا أن يسألها أقاربها وأصدقاؤها لماذا لم تشاركي في الجنازة؟ بأي وجه تجيبهم؟ هل ستقول: الإسلام يُحَرم علىَّ المشاركة في جنازة أبي لأنه غير مسلم؟! ولأن المرأة لا يجوز لها زيارة المقابر؟!

   

إن كانت المسألة محل خلاف بين الفقهاء فلماذا نتخير منها الأشد وما يوقع ديننا في دائرة الشبهة والحرج؟! بل من أعجب ما سمعت أن رجلا اتصل بي يسأل عن حكم حضور المرأة الحائض وقت احتضار أبيها، فعجبتُ من السؤال نفسه، ثم ازددت عجبا حينما أخبرني أنه قرأ على موقع باللغة الألمانية فتوى بحرمة جلوس المرأة الحائض وقت احتضار أحد، ذلك لأن الملائكة تكون حاضرة ولا يحل لها البقاء وهي على تلك الحال! هل سمعتم هراءً كهذا؟ إن المؤمن لا ينجس على كل حال كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أجاز عدد من الفقهاء للمرأة الحائض قراءة القرآن، بتفصيل في المسألة، وهو الراجح خلافا للمانعين.

فرق كبير بين مسلم جديد فَهِم الإسلام فَهما يجعله يصل ما أمر الله به أن يوصل، ويفيض بالخير على من حوله كما تفيض الكأس بالماء إذا امتلأت، وبين آخر يدفعه التدين المغشوش إلى قطع الأرحام وهجر الأنام ولا تراه إلا فظا عليظا، وقد رأينا من الصنفين.

أذكر الآن شابا كان يتعلم معنا اللغة العربية وهو غير عربي وأخبرني أنه بعد إسلامه أنه انطلق داعيا أقاربه، وهدى الله على يديه وأسلم تسعه من أهله ولا زال يجتهد مع غيرهم، وبعد أن اقتربت منه وجدت له خُلقا هينا لينا وقلبا مشفقا ولسانا طيبا، فقلت هذا خليق بمقومات الداعية الموَفق. ولو لم يكن له من العلم الكثير، لست أدرى لماذا نعاني تباينا شاسعا بين توظيف العلوم وتنزيلها في واقع الحياة، يوم نقدمه بفهم قاصر فلا يعنى إلا أنه دين في معركة مع فطرة الإنسان وطبيعته السوية، فهل هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده؟! اللهم لا.

تناقض المشهد الإسلامي في الغرب

مسكين هذا الوافد الجديد على ديننا حينما يبصر بعض المشاهد الإسلامية متناقضة متلاحقة، خلاف وشقاق وتباغض وتقاطع بين بعض المساجد داخل المدينة الواحدة، جماعات كلٌّ منها يدعي أنه يحتكر الحقيقة ومَنْ دونها بدعة وبهتان، والكل يستشهد بآيات الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعادات وتقاليد تقدَّم للمسلم الجديد على أنها من الدين وهي ليست منه في شيء.

ماذا يصنع المسلم الجديد أمام هذه الفوضى؟!

تعرفت على بعض الشباب الألمان المسلمين ووجدت له هيئة عجيبة، لقد وهبه خلقة حسنة، لكنه عَبِث بها على نحو لا يسر، كان يلبس لباسا أشبه بملابس الجيش مع تقصير مبالغ فيه لسرواله، فقلت له: لماذا تصنع بنفسك هكذا؟ قال: وماذا أفعل؟ قلت فلتلبس ما يلبسه الألمان، قال: أتريدني أن ألبس مثل ما يرتدي الكفار؟! قلت له يا أذكى أصدقائك: ما شأن اللباس في الإيمان والكفر؟ إن كلمتك فيها من الاستعلاء ما يجعل تقصير الثوب أو إطالة اللحية عملا لا يبشر بخير ولا يسر الخاطر.

ثم قلت في نفسي: هذا الشاب ضحية مرة بعد مرة، الأولى قبل الإسلام، والثانية بعده، فقد تلقفته أيدي لا تعرف من الإسلام إلا القشور ويحسبون أن عَقد الجبين قربانا للجنة، والفظاظة نافلة، والغلظة من علامات الإيمان، والجفاء من آثار العبادة، لا زال أمامنا عمل كثير لنُعَبد الطريق أمام من يرنو لمعرفة الحق زاهيا في أنوار الحقيقة، وفي مقالنا القادم ستقف مع رؤية وخطوات عملية تحت عنوان: ماذا نقدم للمسلمين الجدد؟

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى