مقالاتمقالات مختارة

المسلم وغياب فقه الأزمات

بقلم د. محمد الأمين الوغليسي

يتفق جميع المسلمين على أنّ الأمّة الإسلامية اليوم تتعرض إلى أبشع هجمة تستهدف دينها وتاريخا وأفرادها، فلم يشهد التاريخ قبل هذا العصر: توحد جهود اليهود والنصارى، والشيعة والفرق الضالة، والمنافقين والمرجفين من بين جلدتنا، والهندوسية والبوذية وغيرها على قتال المسلمين ورميهم عن قوس واحدة مثلما نشهده اليوم، حتّى تنوّعت هجماتهم: بدءً من القتل إلى الاضطهاد والقمع، وصولا إلى التجويع والحرق والنّفي، وهو واقع مأساوي أعلن الكثير من عقلاء المسلمين عجزهم عن التعامل معهم، سواء أكان ذلك الإعلان مباشرا، أم غير مباشر مثل: الهروب من مسائل العصر ومستجداته إلى مناقشة قضايا لا تقدم ولا تؤخر ولا أثر لها في الواقع، أو تفضيل الغرق في تسليط الضوء على الآخر المعتدي بشكل مركز ومكثّف، أو إقناع النّفس والغير أنه لم يعد من الممكن تغيير الواقع.

ومع الإشارة إلى الواقع الإسلامي وكيفية تفاعله مع المصائب والنوازل الكبرى، يجب أن نسجل هنا ملحوظة حول الطريقة التي يتفاعل بها بعض خطباء العالم الإسلامي مع الأحداث المعاصرة، وقد صارت هذه الملحوظات تُسمع حتى من عامة المسلمين، فبعض الخطباء في العالم الإسلامي لا يتناول الأحداث الكبرى التي تقع في الأمة اليوم، فمنهم فعلا من لم يتطرق إلى الحرب المدمرة التي تعيشها أجزاء هامة وكبيرة من الأمة الإسلامية، بينما يتناول البعض هذه الأحداث مع الناس وفق منطق الفتن فقط، دون الحديث عن حقيقة ما يحدث، ودون معالجتها وفق سنن الله تعالى في الكون، فيؤدي إلى تغليط الناس بصورة لا يقبلها الإسلام الحنيف العدل، وفئة من الخطباء راحت تركز على قضايا ثانوية جدا أمام هول ما يحدث، وفئة أخرى عالجت هذه القضايا لكنها عالجتها بطريقة سطحية، أو لم تعطها حقها من المعالجة، مع الإشارة إلى فئة لا بأس بها من الخطباء كان تفاعلها مع الأحداث التي تعصف بالمسلمين بطريقة مقبولة.

ويمكن تلخيص أشكال التفاعل الذي آل إليه العقل المسلم في تفاعله مع الأحداث والمآسي الكبرى- والذي يفترض فيه أصالة وانتهاء اهتداءه بهدي الوحيين في التعامل مع الأزمات التي تعصف بالمسلمين وتدينهم ووجودهم- إلى ثلاثة أشكال هي:

1/ الاحتراق: حيث يتفاعل مع الواقع المر بإحراق أعصابه، والغرق في نظرية المؤامرة، والتركيز على أفعال عدوه، والهروب من ضرورة الكشف عن حقيقة واقعه، ومن يقودون حياته فعلياً، ويصنعون القرارات التي تؤثر على الحياة الاجتماعية، وتجد الكثير من مواقفه تشير إلى اتجاه واحد: النقمة على “الآخر”،  وأنه سبب جميع المآسي التي وقعت في العالم الإسلامي، وهذا مخالف لما قرّره القرآن الكريم: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، [الشورى: 30]، يقول الطبري في هذه الآية: “وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم (فبما كسبت أيديكم)،  يقول: فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترمتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم“.

وقد فهم الصحابة الكرام –رضوان الله عليهم- هذا الأمر، فكانت أفعالهم وردات أفعالهم وفقا لذلك، ومثال ذلك ما كتبه الفاروق عمر –رضي الله عنه- إلى سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – في رسالة طويلة  تبين سنن المواجهة والانتصار، وأسباب الهزيمة، وكيفية التعامل والنظر إلى العدو؛ حيث قال –رضي الله عنه-: “أما بعد: فإني آمرك, ومن معك من الأجناد, بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب, وآمرك, ومن معك, أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله؛ ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم, ولا عدّتنا كعدّتهم, فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا لم ننصر عليهم بفضلنا, ولم نغلبهم بقوتنا.

بل إن الكثير من المسلمين يذهبون بعيدا في تبنّي هذا المنهج المنحرف عندما يصنعون من خيالهم أوهاماً تتناقض مع السّنن الكونية، ومنها سُنّة التدافع، وسُنّة الصراع بين الحق والباطل، فيعتقدون أنّ العدو يجب أن يتصرف معهم تصرف الصديق، وأنّ العدو يجب أن يبتعد عن البحث عن مصالحه، ونفوذه في أراضي الغير، بل لا يحق له أن يكون قويا حسب زعمه.

وهذا مخالف لما قرّره القرآن الكريم، الذي يقرر أنّ أعداء الإسلام قد يفعلون أي شيء للإضرار بالمسلمين، وأنّ من  أهمّ ما يسعى العدو لتحقيقه في حربه ضد المسلمين: سلخهم من أرضهم ودينهم، مصداقاً لقوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)، وفي السنة عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم” -صححه الألباني في صحيح أبي داود-.

فالحقيقة التي قررتها نصوص الكتاب والسنة تدل دلالة واضحة على أن ابتعاد المسلمين عن دينهم سبب لتسلط الأعداء عليهم، وأنّ الحل في تركيز المسلمين على واجباتهم نحو ربهم، والتمسك بإسلامهم، فذاك عنوان نجاتهم وفلاحهم، ثم إن الإسلام يدعو –أساسا وابتداءً- المسلمين إلى الأخذ بالسنن الكونية، ويقرّر حقيقة خالدةً وهي: أنّ الصراع بين المسلمين وأعدائهم مستمرٌ إلى أن يرث الأرض وما عليها، بل إنّ الإسلام يأمر المسلمَ بالتركيز على اكتشاف  نقاط الضعف والقوة عند أعدائه، والاستعداد لمواجهته باستمرار، يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا”، دون الغرق في نظرية المؤامرة، وهناك فرق بين الاستعداد والحيطة من خطط العدو، وبين الركون إلى الكسل والعطالة الفكرية والبدنية والمادية والتركيز على نظرية المؤامرة.

2- الفرار: يفر الإنسان إلى الماضي ويترك مجابهة الواقع، وهروبه هذا لا يخرج عن شكلين:

أ- الحنين إلى الطفولة: حيث لا أعباء ولا أتعاب، ويعبر الكثيرون عن هذا بأقوال كثيرة، لعل من أشهرها القول المشهور اليوم بين جموع المسلمين: “ليتني بقيت طفلا، حيث كانت دميتي أكبر همي”، بينما يعبر البعض عن عجزه في مجابهة الحياة بتبني مقولات خرافية مثل: “الفقر مدرسة الرجال أو يخرّج الرجال”، وهي مقولات سلبية، تظهر للباحث في خلفياتها هذا الفرار الواضح من مواجهة الواقع بكل تعقيداته، فالفقر مصنع المآسي، وحيثما حل الفقر حل النكد وحل الخراب المعنوي والمادي.

والحقيقة أن هذا الموقف الصبياني يدل بالفعل أننا نعيش أزمة عميقة، إذ كيف نتفاعل مع الحياة بطريقة لا تقدم ولا تؤخر؟ بل ومنذ متى كان البكاء على الاطلال وسيلة لتغيير الواقع؟ منذ متى كان الصراخ حلاً لمشاكلنا اليومية والاجتماعية والاقتصادية؟ وهل يرضى مسلم بين يديه كتاب سماوي خالد، وهو كتاب هداية وبيان، لا يضل من تمسك به، هل يرضى أن يصبح نائحة بين يدي النوازل الكبرى التي تحل بساحة المسلمين كل يوم؟

ب- الحنين إلى الماضي الغابر: إنّ العقل السلبي الذي يفشل في عملية احتواء الصدمات التي يعيشها يوميا -خاصة مع التدفق العالي للمعلومات والأخبار السلبية- يُكوّن لنفسه حالة وهمية، يسجن فيها خياله، ويعتقد أن إنسان الأزمان والعصور الماضية لم يكن يعرف الحروب والنكد، والفقر، والتعقيدات الإدارية التي يعيشها اليوم، ويلعن حضارة اليوم، ويشتم وسائل الحياة المعاصرة، ويسخط على التقدم التكنولوجي والحضاري المادي، ظانا أنّ المشكلة في الوسائل والأدوات، ولا يعي أن المشكلة الحقيقية هي في الإنسان ذاته، فعبر التاريخ لم تكن المشكلة فعلا في الأشياء، بل فيمن يتعامل مع هذه الأشياء أي الإنسان، وعدم فهم هذه الحقيقة إن دلّ على شيء إنما يدل على أنّ هذا الإنسان إما أنه لم يقرأ التاريخ أصلا، أو قرأه ولم يعتبر بما فيه من أحداث ووقائع، أو أنّه ولم يعرف حقيقة الإنسان ونوازع الشرّ التي بين جنبيه والتي لم تتغير أبدا، أو أنه يكابر ويواجه الماضي، بأوهام تساعد العقل على إفراز مواد تستثير شعور الراحة والمتعة في الجسد.

3/ التخريب: حيث يلجأ إلى صورتين من التخريب:

الأولى: إما أن ينكد عيشة من حوله، ويستضعف أقرب الناس إليه ويتخذ منهم أعداءَ، وهو ما يتجسد في كثرة الصراعات الاجتماعية على كل المستويات، وتنامي ظاهرة صغار الطغاة، فالأخ أو الأب أو الأم أو الصهر أو الحماة، أو الموظف أو المسؤول الصغير.. إلخ كل هؤلاء قد يصبحون طغاة بسبب السلطة المادية أو الأدبية التي في أيديهم، وقد يصبحون أيضا ضحايا لمن يلعب معهم نفس اللعبة، والسبب هو الانهزامية والشعور بالدونية، وقد أثبت القرآن الكريم أن من أعظم أسباب الطغيان والتكبر والعدوان شعور النفس البشرية بالاحتقار والدونية، عكس ما يعتقده الكثير من الذين يتناولون هذا الموضوع، حيث يربطون الطغيان بالكبر والاستعلاء فقط، وهذا الحصر مفندٌ في القرآن الكريم.

إن الإنسان الذي يركن للعدوان والاعتداء على الغير إنما يفعل ذلك لإثبات ذاته من جهة، وإثبات أن هذه الأحداث التي يسمع عنها أو يراها ويعيشها لا تؤثر عليه، في مشاهد يومية تعج بها حياة الكثير من المسلمين.

ولو عدنا إلى سيرة الصحابة الكرام، فإننا نجدهم أحسن من تصرف مع الآخر وقت الأزمات، فلقد كانت تحكمهم أخلاق راقية جاءت بها الشريعة الإسلامية، والشريعة هي الشريعة لم تتبدل ولم تتغير، والإنسان هو الإنسان لم يتبدل ولم يتغير، لكن الذي تغير هو: القرب من حقائق الإسلام، وحجم الثقة بالله، وحقيقة الدنيا في قلوب المتأخرين، فبقدر ابتعادنا عن حقائق الحياة التي بينها الوحي، وبقدر قربنا من الماديات وبعدنا عن عالم المثل والقيم غرقنا في التعاسة وصار بأسنا بيننا شديدا، بل نحن أشد على بعضنا من أعدائنا.

الثانية: تدمير الصورة المتوازنة للعالم الخارجي والعنف اللفظي والمادي نحو العالم الشرقي والغربي، وشيطنته أحد أبرز صور هذا العنصر، والحقيقة أن شيطنة الآخر والجلوس لشتمه، والقعود للعنه لن يغير الواقع، فعبر التاريخ لم تكن الشيطنة حلا معقولا، بل كان المسلمون يقولون في صلواتهم وفي دعائهم: ” اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا”، كان المسلم وهو يدعو بهذا الدعاء يسلم أن العدو في الأخير بلاء وقع عليه بسبب ذنوب ارتكبها، وعصيان اعتاد عليه، وتوبة هجرها، هكذا كان حال المؤمن، أما تعليق المسلمين مصائبهم على عدوهم، والتفرغ لشتم العدو فلم يكن ديدنهم أبدا؛ لأنهم كانوا أصدق مع أنفسهم في قراءة حالهم وقراءة أسباب الهزيمة والنصر.

إن على الخطباء في أمة الإسلام، والدعاة والعلماء والفقهاء، أن يدركوا أن سبب كل ما مر في هذا المقال يرجع إلى: أن المسلم الحالي لا يملك تصورا صحيحا للكون، الإنسان، الحياة، لذلك يبتعد يوميا عن المعقول والمقبول من المواقف، ولغياب فقه الحياة المبني على السّننية فهذا أيضا جزء من غياب ملكة تصور الحياة والكون والإنسان والعلاقات بينها.

والحقيقة أن العمل على إصلاح التصورات مهمة شاقة لا يتصدى لها إلا من فهم رسالته في الحياة، وإننا نخص بالذكر السادة الخطباء باعتبارهم أقرب المصلحين إلى الأمة، إن دورهم في ترشيد أفعال الأمة، وترشيد ردات أفعالها، وتوجيه بوصلة التفاعل مهمتهم الكبرى في زمن تداعت علينا الأمم من كل صوب وحدب.

على الخطيب الواعي أن يرشد الناس ويساعدهم في تكوين صورة صحيحة عما يحدث لنا اليوم، ثم يوجهه إلى الفعل وردة الفعل المحمودة، ولو ينجح خطباء الأمة الإسلامية في هذه المهمة فإنهم يختصرون عليها سنوات وعقودا من الجهد والعمل لأجل النهوض والنجاة، فطوبى لمن وفقه الله تعالى لإحياء هذه الأمة.

(المصدر: ملتقى الخطباء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى