مقالاتمقالات مختارة

المسكوت عنه في “معركة” فَرْنَسَةِ التعليم بالمغرب

المسكوت عنه في “معركة” فَرْنَسَةِ التعليم بالمغرب

بقلم عبد الرحيم العطري

مع اعتماد المغرب قانون التعليم الجديد الذي يسمح بفرنسة التعليم وإلغاء مجانيته، يتصاعد الجدل حول الأسباب الكامنة وراء هذه الخطوة المثيرة للجدل.

بالرغم من فرح الحكومة المغربية بفَرْنسة التعليم واتجاهها نحو إلغاء مجانية الاستفادة منه، فإن أزمة المدرسة قائمة ومستمرة، والرفض الشعبي “للقانون الإطار” آخذ في الاتساع.

فهل يمكن القول إن أزمة المدرسة هي مرآة عاكسة لأزمة المجتمع، وإنها نتاج خالص لإخفاقاتنا السياسية والتنموية؟ وإن ما يحدث اليوم بالمغرب الأقصى، ليس إلا ملمحاً من الصراع الهوياتي بين المُهَيْمِنِين والمُهَيْمَنِ عليهم؟

إنه لا يوجد في الواقع نظام تعليمي محايد، فإما أن يكون التعليم أداة للقهر أو أداة للحرية، بمعنى أن يكون متجهاً إلى التدجين وإعادة الإنتاج أو منحازاً لقيم التحرير وتكافؤ الفرص.

فما الصيغة التي ينطرح بها هذا النظام التربوي مغربياً؟ وما نوع العلاقات والممارسات التي يؤسس لها اجتماعياً؟ وما هي محدداتها وامتداداتها في مستوياتها التراتبية؟

 

لا يوجد في الواقع نظام تعليمي محايد فإما أن يكون التعليم أداة للقهر أو أداة للحرية.

ها هي الحرب اللغوية تضع أوزارها في المغرب، بعد طول شد وجذب، وتنابز واحتكاك. انتهت الحرب مؤقتاً بتصويت البرلمان لصالح قانون الإطار الخاص بإصلاح منظومة التربية والتعليم، والذي أثار كثيرَ جدلٍ وصراعٍ بين الفرقاء السياسيين، ما بين مُدافعٍ عن الأمن الهوياتي (وفقاً لأطروحته طبعاً) ومُنتصرٍ لضرورات الانفتاح اللغوي (وفقاً لدفوعاته طبعاً).

حرب إذن ظاهرها اللغة وباطنها السياسة بكافة اعتمالاتها ورهاناتها.

لقد أثار هذا القانون اعتراضات شعبية واسعة، على مواقع التواصل الاجتماعي، بشأن بعض مواده التي تسير في اتجاه إلغاء مجانية التعليم، فضلاً عن تغيير لغة تدريس المواد العلمية والتقنية، باعتماد اللغة الفرنسية، بديلاً للعربية.

وبالرغم من انخراط قياديي الأحزاب المشاركة في الحكومة وحتى أحزاب المعارضة، في حملة مناوئة لهذا القانون، منذ أكثر من سنة، فإنهم صوتوا في النهاية لصالح مواده المثيرة للخلاف.

فكيف نفهم اشتغال هذه “المعارضة/الموالاة” في آن؟ وكيف نصل إلى المخفي والمسكوت عنه في “حرب إصلاح التعليم”؟ وهل ستكون الفَرْنَسَةُ بمثابة الدواء الفعّال لكافة الأعطاب والإخفاقات التي تعانيها المدرسة المغربية؟

ما يميز الفاعل السياسي بالمغرب، موالاةً ومعارضةً، هو ترديده المستمر لخطاب الارتياح، حيال واقع الحال واحتمال المآل في كل المشاريع الإصلاحية التي همت المدرسة، بدءاً من “مناظرة إيفران” إلى “الميثاق” فـ”عشرية الإصلاح” و “البرنامج الاستعجالي”، وأخيراً “رؤية 2030” و “القانون الإطار”.

ففي كل هذه المحطات التي أُنْفِقَ فيها الكثير من الوقت والمال والفكر، لم ينته الساسة من تسويق “المفاهيم” و “التمنيات” التي لم تمنع التقارير الدولية من إفحامنا وتذكيرنا في كل حين بأن “رواندا” الخارجة من حرب أهلية حققت طفرتها النوعية، وتقدمت علينا كثيراً بالاستثمار في التعليم لا غير، وأن غزة الواقعة تحت الحصار الصهيوني أفضل حالاً منا، من حيث مؤشرات محو الأمية وجودة التعليم.

 

صراع حول “الفرنسة” لن يكون سوى الشجرة التي تخفي وراءها غابة ملأى من الرموز والتوترات والصراعات الدائرة بلا انقطاع بين حساسيات المجتمع.

لنعترف أولاً بأن حقل التربية والتعليم، هو بطبيعته حقل غير مستقل أو منغلق على ذاته، فليس هناك من نظام تعليمي محايد بالمرة، ثمة ارتباطات وتقاطعات ومصالح تحدد الوجود وتؤمّن الاستمرار.

ولهذا فادعاء الحياد ليس إلا تحويراً للواقع واحتيالاً عليه؛ فالصراع حول “الفرنسة” لن يكون سوى الشجرة التي تخفي وراءها غابة ملأى من الرموز والتوترات والصراعات الدائرة بلا انقطاع بين حساسيات المجتمع.

فَالفَرْنَسة بدلا من الأَنْجلَزَة لابد أن تثير السؤال حول قوة اللوبي الفرنسي، وضرورات الحفاظ على مصالح الاستعمار الذي غادرنا عسكرياً ولم نتحرر منه اقتصادياً وثقافياً وحتى سياسياً.

تتأسس دفوعات الرافضين للفرْنسة على المكانة الاعتبارية للغة الإنجليزية راهناً، مؤكدين أنها لغة العلم والتواصل العولمي، وأنها الأجدر بالاعتماد في مسارات الإصلاح، فيما يرى أنصار التعريب أن الفرْنسة تشكل تهديداً للصرح الهوياتي، وأن الانتقال نحو مدارك الفلاح ممكن عبر اللغة الأم تعريباً أو تمزيغاً (من الأمازيغية).

علماً أن هؤلاء من النخبة البرلمانية يسجلون أبناءهم في مدارس البعثات الأجنبية، ويرسلونهم بعد البكالوريا إلى الضفة الأخرى لاستكمال الدراسة وحيازة الشهادات التي تُعبّد لهم الطريق نحو المناصب الحساسة في الدولة.

ذلك أن وظيفة النسق التعليمي تكمن في شرعنة البنية الاجتماعية، وتبرير علاقات القوة، وإعادة إنتاج التفاوتات المراتبية؛ فالنظام التعليمي يؤسس ويشرعن ويبرر العلاقات والقيم وباقي استراتيجيات الفاعلين، ولهذا يصير أي تغيير مَرْجُوٍ في المجتمع يستدعي تغييراً في النظام التربوي، وبالمقابل فإن أي تغيير في النظام التربوي، يستدعي تغييراً في المجتمع.

ولعل هذه الملاحظة هي الأصدق تعبيراً عن مآزق الإصلاح التعليمي هنا والآن، فقد كانت هناك مراهنة دائمة على تغيير النظام التربوي في ظل “اللارهان” على تغيير المجتمع، وهو ما يتواصل اليوم عبر هذا القانون الإطار؛ فثمة انشغال أكبر بتحديث المؤسسة التعليمية وتجويد وتنويع العرض البيداغوجي، فيما الاشتغال على تغيير الذهنيات وتجذير العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الخيرات الرمزية والمادية للوطن، يبقى ورشاً معطلاً إلى حين.

المشكل إذن يتجاوز ما أسماه المشروع بالتناوب اللغوي، وتفضيل الفَرْنَسَة ضداً على الأَنْجْلَزَة، ولا يمكن اختصاره في “صراع هوياتي” بأفق “الاستهلاك السياسي” خصوصاً أن “الكرنفال الانتخابي” على مرمى حجر.

بل يتوجب النظر إليه في شموليته المفتوحة على “الشرط المجتمعي” بما يعنيه من أعطاب وإخفاقات تنموية وردّة حقوقية وانتكاسات ديموقراطية.

كما يفترض النظر إليه من زاوية تسليع التعليم وخصخصته وتحوير أدواره الرئيسة في تشكيل الوعي النقدي والتحرري؛ فالمشكل ليس في حقل المدرسة، وليس في ترتيب النص القانوني والمصادقة عليه، وإنما يتحدد في البنيات السلطوية التي تنتج التفاوت واللاتكافؤ في الحظوظ.

 

الدخول إلى المدرسة لا يتأسس بالمرة على المساواة؛ فثمة أطفال سبق لهم أن تعرّفوا بيتهوفن وتصفحوا الإلياذة والأوديسة، فيما أطفال القاع الاجتماعي لم يسبق لهم أن ولجوا مسرح الأوبرا.

إن المدرسة اليوم، وسواء تمت فرنستها أو أنجلزتها ستبقى وفية لمنطق إعادة الإنتاج؛ فهي تستقبل أطفالاً من فئات اجتماعية معينة، لتعيد إنتاج التراتبات ذاتها، حيث إن ابن الطبقة العاملة يتخرج في المدرسة عاملاً، وابن الطبقة الغنية يتخرج فيها إطاراً.

لأن الدخول إلى المدرسة لا يتأسس بالمرة على المساواة، فثمة أطفال سبق لهم أن تعرفوا بيتهوفن وتصفحوا الإلياذة والأوديسة، فيما أطفال القاع الاجتماعي لم يسبق لهم أن ولجوا مسرح الأوبرا.

وعليه فالنظام التعليمي لا يكتفي بتقرير واقع التفاوت وتجذيره، بل يعمل على إنتاج القبول الاجتماعي بالتفاوتات الطبقية؛ إذ ليس له من مغزى، وفقاً لـ”ألتوسير”، سوى المحافظة على النظام الاجتماعي.

يبدو جلياً أن عقارب ساعة الإصلاح قد تعطلت في ورش التربية والتعليم؛ فكل المؤشرات تدل على أن ما بشرت به المشاريع الإصلاحية السابقة لم يتحقق كلياً، وأن المسافة تزداد هوة وبُعداً بين الخطاب والممارسة اليومية، فما يتراءى من أعطاب في سجل التعليم موزعاً على الهدر المدرسي والعنف وتراجع المستوى والاحتقان المؤسسي وتدهور الرضا الوظيفي، يطرح أكثر من سؤال حول الحال والمآل الملغز.

ما يقلق أكثر هو معطى الانفصال عن الإصلاحات الأخرى الضرورية في النسق المجتمعي عموماً، فإصلاح التعليم يستوجب إصلاحات مصاحبة على مستوى التدبير السياسي والثقافي والاجتماعي.

فالخلل ليس قادماً دوماً من أعماق المؤسسات المدرسية؛ فثمة ظروف أخرى عامة تؤثر في إنتاجية الفاعل التربوي، ومردودية المتلقي، فإصلاح المدرسة يستلزم قبلاً إصلاحاً مؤسساتياً ومجتمعياً شاملاً. ذلكم هو المسكوت عنه في “حرب سياسيوية” اتخذت خطأ واعتسافاً تسمية “فرْنَسة التعليم”.

(المصدر: تي آر تي TRT العربية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى