المستشار علي جريشة.. رجل الفكر والدعوة (1935م – 2011م)
يمثل المستشار علي جريشة أحد رموز الفكر والدعوة الإسلامية، ولاقى جريشة كثيراً من العنت والاضطهاد فى سبيل فكرته، وقد كان قاضيًا وفقيهًا ومفكرًا إسلاميًّا كبيرًا وأستاذًا للشريعة الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. لم تقف تركته عند حدود مواقف الثبات والصمود إزاء الظلم والطغيان، ولكنها امتدت إلى تراث فكري مميز، شكل إضافة كبيرة للمكتبة العربية والإسلامية، في التنظير للشريعة، ومواجهة التيارات المعادية للفكر الإسلامي وحضارته.
النشأة والتربية
ولد علي محمد جريشة، في إحدى قرى ديرب نجم بالشرقية عام 1935م؛ وقضى فترة طفولته وصباه في الشرقية، إلى أن انتقل إلى القاهرة في الخمسينيات، وكانت سنه ثلاث عشرة سنةً ويدرس بالسنة الثانية الثانوية (نظام الـ5 سنوات). بدأ علي جريشة دراسته الابتدائية في مسقط رأسه ديرب نجم، ولما انتقل إلى القاهرة كان قد استكمل تعليمه بإحدى المدارس الثانوية الحكومية حتى حصل على شهادتها، ثم التحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة، ولم يقف عند حدود الإجازة، فتابع سبيله بالدراسات العليا في قسم الشريعة والقانون، ثم مضى في طريق التوسع حتى حاز شهادة الدكتوراه في التخصص نفسه وكان ذلك عام 1975م بعد مضي ثلاث عشرة سنة على تسجيله لها بسبب قضائه معظم هذه الفترة في غياهب سجون عبد الناصر، فلم يتح له حضور المناقشة إلا بعد مغادرته المعتقل. ويوضح رحمه الله أن أسرته رعته بعناية في فترتي الطفولة والشباب، فأهله يغلب عليهم الاشتغال بالعلم ويكثر فيهم العاملون في سلك التدريس، حيث كان أبوه من خريجي كلية دار العلوم جامعة القاهرة، ثم مدرسًا للغة العربية والدين في التعليم العام، كما كان متدينًا ومحبًّا للعربية، وله مؤلفات لم تطبع في السيرة وبخاصة حول زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يملك شيئا من الموهبة الشعرية، وترك عددًا من القصائد الشعرية.
جريشة و مدرسة الاعتدال
أدى الانتشار الواسع لمدرسة الاعتدال لا سيما في فترة الأربعينيات من القرن العشرين إلى سهولة تعرفه عليهم والإعجاب بأفكارهم واعتناق مبادئهم والانضواء تحت رايتهم، لاسيما من قبل الشباب المتدين الذي يفيض حماسةً واعتزازًا بالإسلام. ولقد كان علي جريشة واحدًا من هؤلاء الذين تعرفوا إلى مدرسة الاعتدال عن كثب حيث يقول عن أول معرفته بهم: بادئ معرفتي بهم كان عمري ما بين 10 و13، وتأثرت بهم في موقفين بارزين في حياتي. ويضيف: الموقف الأول: شباب الإخوان الذين كانوا يطوفون القرية فجرًا وكان الجو شتاءً وبردًا قارسًا، ويهتفون: “الصلاة يا مؤمنين الصلاة”، وذلك في وقت وجود الإنجليز، وكانت الشعائر بدأت تُهجر أيضًا. والثاني: كان عمري 13 سنة وقامت حرب فلسطين، واستطاع الأستاذ حسن البنا وجنود الإخوان أن يلفتوا نظر الناس إلى قضية فلسطين، ولأول مرة يسمعون عن فلسطين في الوقت الذي كانوا فيه يسألون رئيس وزراء مصر عن القضية، فقال: “أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين”، فطبعًا كانت الجولة الأولى إحياءً للقضية في مشاعر الناس وفي نفوسهم، ونجح فيها البنا إلى حدٍّ كبير.
في السجن الحربي
أعلن عبد الناصر في 1965م اكتشاف تنظيم جديد للإخوان المسلمين فأصدر قرارا باعتقال الجميع وكل من سبق اعتقاله، وتعرض الإخوان للتعذيب الرهيب الذي لم يلقوه من قبل، وكان هذا أول اعتقال للمستشار علي جريشة حيث اعتقل ليلة الـ25 من أغسطس 1965م. واتهم جريشة بمشاركته في التآمر لقلب نظام الحكم ضمن مجموعة المتهمين بقيادة سيد قطب، وصدر الحكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة اثني عشر عامًا، قضى منها ثمانية أعوام ثم أفرج عنه بقرار العفو الذي شمله مع الكثيرين. ويعبر عن حاله في السجن بقوله: من باستيل مصر الرهيب.. من السجن الحربى الأثيم، مصر كلها هنا، معتقلة، هنا العامل والفلاح، هنا القاضى وأستاذ الجامعة، هنا الشاب والشيخ، هنا الزوجة وهنا الفتاة، يحرسهم, أستغفر الله, بل يعذبهم، عساكر قساة غلاظ، لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها, ولهم آذان لايسمعون بها، مصر كلها هنا، معتقلة، بلغ عدد المعتقلين حتى أواخر أغسطس ستين ألفا فيما أعلم.. ستون ألفا من خيرة شباب مصر، خلقا, وعلما, ودينا، أنا أحد قضاة مصر، قبض عليّ رغم الحصانة القضائية، من غير إذن، وبغير أمر قبض، وفتش بيتي كذلك، ونمت على أسفلت الزنزانة من غير فراش وبغير غطاء، وحرمت من “الماء” فى شدة الحر القاسي.
بين الفكر والدعوة
فور خروجه من المعتقل عام 1973، اختارَ الرجلُ المنفى صديقًا له، فقد اختار المملكة العربية السعوديَّة وعمل بها أستاذًا للشريعة الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ووجد في الدعوة “ضالته” ليكون بحق “مستشارًا ليس في السلك القضائي وإنما في الدعوة الإسلامية. عني الدكتور علي جريشة بدراسة المذاهب الفكرية المعاصرة، وواجه التيارات المعادية للإسلام مثل الشيوعية والعلمانية والوجودية والإباحية وغيرها من الأنظمة والاتجاهات الفكرية والسياسية، كما أولى اهتمامه بالحديث عن أدب المحنة، وفترة السجون والاعتقالات، وما تعرض له هو وإخوانه في سجون العهد الناصري. كما جاء جزء من مؤلفاته للحديث عن خصائص النظام السياسي الإسلامية والدفاع عنه ضد المطاعن والشبهات، ومن هذه الكتب:
– الاتجاهات الفكرية المعاصرة، المشروعية الإسلامية العليا، دين ودولة، دعاة لا جباة، الإخوان المسلمون الدعوة والداعية، إعلان دستوري إسلامي، عوائق في طريق الدعوة، في الزنزانة، عندما يحكم الطغاة، آداب الحوار والمناظرة، نحو نظرية في التربية الإسلامية، الإعلام والدعوة الإسلامية، الإيمان الحق، المبادئ الخمسة، أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي، منهج التفكير الإسلامي، الأساليب التبشيرية في العصر الحديث، قصتى بين القضاء والإخوان والعسكر.
موهبة شعرية
حبا الله الدكتور جريشة موهبة نظم الشعر ولكنه كان مقلاً من قرضه، يقول رحمه الله: شعر والدي أثرَّ فيَّ من ناحيتين: الأولى تكمن في وجود ملكة الشعر فيَّ، والأثر الثاني أني قلَّدته في كتابةِ الشعر، خاصةً في مطلع قيام الانقلاب العسكري في 1952م، وأذكر من الشعر الذي يكاد يكون فطرة:
ما للظلام يسود دون نهار … والأرض ضجَّت من دم الأبرار
ولَلسماءُ غدت كالأرض باكيةً … ولَلمياهُ غدت في النيل من نار
أو ما رأيت الشعب يهتف كله … الحكم حكم الله لا الأشرار
كما قال في تنفيذ حكم الإعدام في القاضي عبد القادر عودة وصحبه الأخيار عام 1955م:
أو ما رأيت على المشانق زمرة … ملء العيون ونورها إيمانا
يمشون للموت الرهيب أعزة … باعوا النفوس وبايعوا القرآنا
ومنها في خطاب سيد قطب:
لهفي عليك إذ المشانق نصبت … ورفعت صوتك عاليًا رنانا
روحي فدى الإسلام إن عز الفدا … ودمي يلاحق عصبة خوانا
وقال أيضًا في محنته:
برغم المشانق برغم الطغاة … برغم السجون برغم البغاة
برغم السياط برغم الدماء … برغم العذاب سنحيا الحياة
سيرتفع النور فوق الدجى … وفوق الضلال وفوق الطغاة
ونحيا على الحق حتى الممات … ونرجو بذاك رضاء الإله
وفاته
علي جريشة كان أحد علماء الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي فبعد حياة حافلة بالعطاء والجهاد وخدمة الإسلام، قاضيًا وفقيهًا ومفكرًا إسلاميًّا كبيرًا وأستاذًا للشريعة الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكانت آخر زيارته خارج مصر إلى اليمن، رحل في يوم 27 أبريل 2011م.
(المصدر: موقع اعتدال)