مقالاتمقالات مختارة

المسؤولية الجماعية والمصير المشترك من خلال حديث السفينة الجزء الأول

بقلم د. أحمد الريسوني

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا”.
الحديث في صحيح البخاري، كتاب الشركة، وكتاب الشهادات، وهو عند الترمذي في أبواب الفتن…
مضمون الحديث
هذا الحديث يصور المجتمع بفئاته المعتادة: فئة صالحة، وفئة صالحة مصلحة، وفئة مفسدة، وفئة لا مبالية…،  يصورهم ويصور أدوارهم وعلاقاتهم من خلال مثل مختصر مبسط، وهو أن جماعة من المسافرين ركبوا سفينة في البحر. وهي ذات طابقين علوي وسفلي. فأجروا بينهم القرعة (استهموا)، فأعطت بعضهم الأعلى ولبعضهم الأسفل، فكان أصحاب الطابق السفلي يصعدون إلى سطح السفينة للأخذ من ماء البحر بواسطة دلائهم (الدلاء جمع دلو). فكانوا بهذا التنقل صعودا وهبوطا، مع السقي وتساقط الماء، يسببون أذى وإزعاجا لنزلاء الطابق العلوي الذين اشتكوا واعترضوا على هذه الإذاية (كما في بعض روايات الحديث).
فقال أصحاب السفل، أو بعضهم: الحل عندنا سهل ميسور، فنحن قريبون من الماء، وما علينا إلا أن نحدث ثقبا، ثم نتناول الماء بلا مشقة ولا عناء، ودون أن نؤذي من فوقنا، وهذا الثقب (أو الخرق) إنما سيقع في نصيبنا نحن).
وفي رواية للبخاري أن أحدهم بادر إلى تنفيذ الفكرة (فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة…”.
إلى هنا ينتهي المثل المضروب، وتبقى تتمته مفتوحة على عدة احتمالات ومآلات، ملخصها في التعقيب النبوي الذي هو بيت القصيد: “فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا”.
وفي هذا الحديث الشريف ما فيه من البلاغة النبوية وسدادها ونفاذها؛ فهو يضرب مثلا يفهمه الجميع ويدرك مغزاه الجميع، ولكنه يحتوي وينطوي على قواعد وسنن كثيرة وعظيمة في الحياة البشرية وفي الاجتماع البشري.
ـ ففي الحديث أن المجتمعات والتجمعات البشرية يكون مصيرها ومآلها في النهاية مشتركا، فهلاكها يعم الجميع ونجاتها تعم الجميع، والضرر يصيب الجميع والنفع يستفيد منه الجميع. وشيوع الصلاح نعمة للصالح والطالح، ثم يوم القيامة يكون الحساب الفردي والجزاء الفردي.
وهذه السنة من سنن الله تعالى في خلقه قد نطقت بها أو نبهت عليها عدة نصوص قرآنية وحديثية، كقوله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) سورة الأنفال،آية:24.
فالفتنة إذا حلت لا يقتصر لظاها وأذاها على الذين تسببوا فيها بظلمهم وبغيهم وفسادهم، بل تحرق الأخضر واليابس…
وكقوله صلى الله عليه وسلم ـ حين سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ ـ “نعم إذا كثر الخبث” والخبث لا يكثر إلا إذا سكت عنه الصالحون المتطهرون وتركوه ينبت ويَنبَثّ.
وإلى هذا المعنى يشير قوله عز وجل (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)سورة هود،آية:116.
ـ وفيه أن النجاة من فساد المفسدين ومما يجلبه من غرق وهلاك، لا تتم بمجرد اعتزالهم  والتبرؤ من أفعالهم، ولا بمجرد الاحتجاج ضدهم والإنكار عليهم وإدانة أفعالهم، بل لابد من مزاحمتهم ومعاركتهم ومن الأخذ على أيديهم ومنعهم. وروايات الحديث كلها ناطقة بهذا. فعند البخاري “فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا”. وفي رواية الترمذي “فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعا، وإن تركوهم غرقوا جميعا”. ومثلها رواية الإمام أحمد في المسند (4/862).
ـ وفي الحديث أيضا أن المفسدين يجب الأخذ على أيديهم ومنعهم حتى ولو كانوا يتصرفون في حدود نصيبهم وممتلكاتهم و”شؤونهم الخاصة” إذا كان فسادهم يتسرب إلى مجتمعهم ومحيطهم، ولو بعد حين.
فأصحاب السفينة السفليون قالوا عندما فكروا في فعلتهم: “لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا…”، ومع ذلك وجب منعهم ومقاومتهم.
فالذين يمارسون الإفساد والخرق في مكاتبهم وبأموالهم وبتصرفاتهم وحياتهم “الشخصية” أو في بعض الأماكن “الخصوصية” وفي العلب المغلقة… هؤلاء وأمثالهم، شعارهم وشعار من يدافعون عنهم هو “لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا”.
فهؤلاء جميعا إذا كان فسادهم ينتقل أو يتسرب ويرشح ويفوح، فضلا عما إذا كان يتم على الملأ، ويستعمل الممتلكات العمومية والمساحات المشتركة، فيجب التصدي لهم ومنعهم من فسادهم الذي هو خرق في سفينة المجتمع والجماعة، سيؤدي إلى تسرب الماء حالا، وإلى الغرق مآلا..
ـ وفيه كذلك أن حسن النية والقصد، أو انعدام سوء القصد لا يسوغ العمل إذا كان فيه أو في مآله ضرر وفساد. فأصحابنا الذين أرادوا الخرق في نصيبهم لم يقصدوا إلى إغراق السفينة ولا إلى الانتقام ممن فوقهم، وإنما أرادوا “بكل براءة وحسن نية” أن يأخذوا الماء لأنفسهم ويتجنبوا إزعاج جيرانهم! ولكن كل هذا لا يشفع لهم ولا يسمح بالتغاضي عنهم…
ـ وأخيرا، يستفاد من الحديث أن المفسد قد يسلك طريق الإفساد لكونه لم يجد حلا ولا مسلكا غيره. فيجب منعه من إفساده نعم، ولكن يجب ـ أيضاـ  إيجاد بديل له وإيجاد طريق مشروع ينال به حقه ويصل منه إلى مبتغاه المشروع. فمثلا: الذين أرادوا الخرق في نصيبهم هم على كل حال مضطرون، ومن حقهم الحصول على الماد. فإما أن يصبر عليهم ويساعدهم جيرانهم الأعلون، وإما أن يتكلف هؤلاء أنفسهم بالسقي لهم، وإما أن يقترحوا عليهم ويتعاونوا معهم على فتح نوافذ لا يصلها الماء، أو أي حل آخر، بعبارة عامة: فإن منع الحرام يستلزم ولابد فتح أبواب الحلال وتيسرها على الناس، وإلا فإن أبواب الفساد ستفتح لا محالة
(المصدر: موقع د. أحمد الريسوني)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى