مقالات مختارة

المركز الصَّلَب.. في الدِّين والآفَاقِ والأَنفُس

مركز التأصيل للدراسات والبحوث

يتركَّبُ جِسمُ الكَائِنِ الحيِّ مِن مَركَزٍ وأَطرَافٍ، ويَقعُ في المركز مِن جِسمِه جَميعُ الأَعضَاءِ المهمَّةِ والحيَويَّةِ لحيَاتِه، حيث تترَكَّزُ مُعظَمُ الوَظَائِفِ في مَنطِقَةٍ عَادَةً ما تَكُونُ مُحصَّنَةً. وبهذا يكونُ المركز أَكبَر كُتلَةٍ في الجسم. وكُلُّ عُضوٍ في جِسمِ الكَائِن الحي يَترَكَّبُ مِن خَلايا، وهي أَصغَرُ وِحدَةٍ عُضويَّةٍ في الجِسم. وتَترَكَّبُ الخليَّةُ مِن نَوَاةٍ مَركَزيَّةٍ تَضمُّ أَهمَّ مُكونَاتِ الخليَّةِ ومجمُوعَةَ عُضيَّاتٍ حَولَ النَّواةِ يَضمُّها غِشاءُ الخليَّة. والنَّواةُ أكبَرُ كُتلَةٍ في الخَليَّةِ، وهي تَقومُ بأّهمِّ الأَدوارِ البَيولوجية في الخَليَّةِ مِن خِلالِ: مُراقَبةِ التَّفاعُلات الكيميائيةِ بالهيولى (السيتوبلازم)، وتخزينِ المعلُومَاتِ الضَّرُوريَّةِ لانقِسَامِ الخليَّة. الأَمرُ ذَاتُه يقُابِلُنا في عَالمِ الجَمَادات؛ حيثُ يَتركَّبُ كُلُّ عُنصُرٍ في الكَونِ مِن ذَرَّات. والذَّرَّةُ أَصغَرُ جُزءٍ في العُنصُرِ الكيميائيِّ يُمكِنُ الوُصُولُ إليه، ويَحتَفِظُ بالخصَائِصِ الكيميَائيةِ لذلك العُنصُرِ. وتتَكَوَّن كُلُّ ذَرَّةٍ مِن نَواةٍ ومَجَالٍ إلكتروني. وتَحتَلُّ النَّواةُ الكُتلَةَ الأَكبَرَ في الذَّرَّةِ؛ وهي تَحمِلُ الشُّحنَاتَ الموجَبَة، في حين تَسبَحُ الإلكترونات –سالِبةُ الشُّحنَاتِ- في مجال فَرَاغِيٍّ حَولَ النَّواةِ.

وفي كِلتَا الحَالَتين، الكَائِناتِ الحَيَّةِ والعَنَاصِرِ الجَامِدةِ، تُشكِّلُ الخَلِيَّةُ والذَّرَّةُ العُنصُرَ الأَصغَرَ الذي يَحمِلُ خَصَائِصَ الكَائِنِ أو العُنصُرِ ويُميِّزُه عن بَقيَّةِ الكائناتِ والعَناصِرِ. وفي الوَسَطِ مِن الخلِيةِ أو الذَّرَّةِ تُوجَدُ النَّواةُ، وهي المركزُ والمحِورُ الذي تَقومُ عليه الخَليَّةُ أو الذَّرَّةُ.

ومِن العَالمِ الصَّغيرِ إلى العَالمِ الكَبيرِ، يمضِي هذا القَانونُ كقَاعِدَةٍ سُنَنيَّةٍ جَعَلَها اللهُ تعالى ظَاهِرَةٍ عند التَّأمُّلِ. فلكُلِّ عَالمٍ وِحدَةٌ عُضويَّةٌ، وفي دَاخِلِ الوِحدَةِ العُضويَّةِ مَركَزٌ هو الأَكبَرُ كُتلَةً والمحوَرُ الذي تَدُورُ حَولَه كَافَّةُ العَمَليات.

فعَالمُ الفَضاءِ مُركَّبٌ مِن مَجرَّاتٍ، والمجرَّاتُ تَدورُ حَولَ مَركَزٍ هو الأَكبَرُ كُتلَةً، وكُلُّ مَجرَّةٍ مُركَّبَةٍ مِن مَجمُوعَاتٍ شَمسيَّةٍ، وكُلُّ مَجمُوعَةٍ شَمسيَّةٍ تَدورُ حَولَ نَجمٍ عِملاقٍ (شَمسٍ)، وكُلُّ كَوكَبٍ أو شَمسٍ يَدورُ حَولَ مَركَزِه الصَّلبُ. وعَالمُ الحيوانِ مُكوَّنٌ مِن أنوَاعٍ، وفي كُلِّ نَوعٍ أجنَاسٌ، وفي كُلِّ جِنسٍ عَشيرَةٌ، وفي كُلِّ عَشيرَةٍ سُلالّةٌ، ودَاخِلِ كُلِّ سُلالَةٍ فَصيلٌ، وكُلُّ فَصِيلٍ مُركَّبٌ مِن شُعَبٍ، وكُلُّ شُعبّةٍ تَقومُ على أُسرَةٍ، ومَدارُ ذلك كُلِّه على ثُنائِيَّةِ “الزَّوج: الذَّكرِ والأُنثَى”.

سُنَّةُ النَّواةُ المحوَريَّةِ والكُتلَةِ الأَكبَرِ لا تَتَوقَّفُ عند عَالمِ المـَادَةِ بل تَتَجَاوَزُه إلى فَضَاءِ العَقَائِدِ والتَّصُّوراتِ والأَفكَارِ والقِيمِ والقَوانِينِ والعَادَاتِ والأَعرَافِ والغَرَائِزِ. وحيثما جَالَ الفِكرُ والنَّظرُ والشُّعُورُ في الحيَاةِ فهناك “مَركَزٌ صَلَبٌ” مِحوَريٌّ وجَوهَريٌّ، كما أنَّ هناك مُحيطٌ وأَطرَافٌ تَابِعَةٌ لهذا “المركَزِ الصَّلبِ”؛ كونه يُعطِي الشَّيءَ أو الموضُوعَ خَصَائِصَه وسِمَاتَه، ويتَحكَّمُ في أَفرَادِه وعَمَليَّاته في ضُوءِ ذلك؛ فهو الحَامِلُ لهويَّتِه وأسَاسُ وُجُودِه.

مركزُ الدِّين الصَّلبُ:

يتَشَكَّلُ الدِّينُ مِن قَاعِدةٍ صَلبَةٍ تقومُ عليها عَقائِدُه وشَرائِعُه وشَعَائِرُه كُلُّها، وهي الإيمان بالله وحدَه، واتباعُ شَرعِه الذي يأتي به رُسُلُه. فقد جَاءَ كُلُّ رَسُولٍ ليَقُولَ لقَومِه: ((اعبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرُهُ))، ((فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ)). وهي في الإسلام شَهَادَةُ الدُّخولِ فيه: أشهد ألَّا إله إلَّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، التي جَعلَها اللهُ مَدارًا لحركَةِ الإسلامِ الجهِاديَّةِ: (قاتِلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلَّا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، فإذا فَعَلوا ذلك فقد مَنَعوا مِنك دِمَاءَهم وأَموَالَهم، إلا بحقِّها؛ وحِسَابُهم على اللهِ)[1].

وفي المركز من هذه القاعدة يأتي الإيمان كنواة تصدر عنها، وتدور في فلكها، كافة أعمال العبد الباطنة والظاهرة، لذلك كان أوَّل وصف للمتقين في القرآن الكريم الإيمان: ((الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيبَ فِيهِ هُدًى لِلمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ ومَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ وبِالآَخِرَةِ هُم يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَبِّهِم وأُولَئِكَ هُمُ الـمُفلِحُونَ))، البقرة: 1- 5.

فإذا ما سَبَحنَا في فَضَاءِ الإيمانِ وَجدنَا الإيمانَ باللهِ تعالى هو نَواةُ كُلِّ أرَكانِ الإيمَانِ؛ فالإيمانُ بكُتُبِه إيمانٌ بخِطَابِه الشَّرعِي، والإيمانُ بالقَدَرِ إيمَانٌ بتَصرِيفِه الكَوني. والإيمانُ بالملائِكَةِ والرُّسُلِ هو إيمَانٌ بالخَلِيقَةِ المنتَخَبَةِ والمصطَفَاةِ مِن الله تعالى للقِيامِ بوَاجِبِ التَّبلِيغِ والإرشَادِ أو وَاجِبِ التَّصرِيفِ والتَّدبِيرِ. أمَّا الإيمانُ باليومِ الآخِرِ فهو إيمانٌ بالرُّجوعِ إلى الله تعالى للحِسابِ والجَزاءِ، ونَيلِ الثَّوابِ والعِقَابِ.

ولما كان الإيمانُ “المركَزَ الصَّلبَ” في الدِّين كان مَحَلُّه قَلبَ الإنسانِ، حيثُ مَركزُ جَسدِه ورُوحِه. قال صلى الله عليه وسلم: (… وإن في الجسدِ مُضغَةً: إذا صَلَحَت صَلَحَ الجَسدُ كُلُّه، وإذا فَسَدَت فَسَدَ الجَسدُ كُلُّه، ألا وهي القَلبُ)[2].

وهكذا في شأن نُصوصِ الشَّرعِ، نَجِد القُرآنَ الكَريمَ في المركز مِنها، ثمَّ الحديثَ المتُواتِر، ثم ما يليه مِن مَراتِب الحديثِ الصَّحيحِ. وهكذا في شَأنِ العِبادَاتِ نَجدُ الصَّلاةَ في المركَزِ مِنها، فكُلُّ عِبَادَةٍ أُخرَى تَقومُ على الصَّلاةِ إن وُجِدَت وُجِدَت، وإن تُرِكَت لم يكن لها معنى: العَهدُ الذي بَينَنا وبَينَهُم الصَّلاةُ، فمَن تَرَكَها فَقَد كَفَرَ! وهي أَوَّلُ ما يُسأَلُ العَبدُ عنه ويُحاسَبُ عليه.

ومَدارُ الشَّريعَةِ على الحلالِ البيِّنِ والحرَامِ البيِّنِ الذي يمثلُ “المركَزَ الصَّلبَ” في قِياسِ المشتَبهَاتِ ورَدِّها إليه. وحيثُما تَوجهنا في مجالاتِ الدِّينِ قَابَلَنا “مَركَزٌ صَلبٌ” مُحكَمٌ، وثَابِتٌ، ووَاضِحٌ، تتَظَافَرُ عليه الأَدِلَّةُ والنُّصُوصُ، ممثَّلًا المحوَرَ الذي تَدُورُ عليه عَنَاصِرُه وأَفرَادُه وأَطرَافُه.

مَركَزُ الأُمَّةِ الصَّلبُ:

نَزَلَ القُرآنُ الكَريمُ على محمد –صلى الله عليه وسلم- بلُغَةِ العَرَبِ، وعلى العَرَبِ، وفي بِيئَتِهم. وهم حَمَلَتُه وحَاضِنَتُه الأُولى. ولأَهميَّةِ مَوقِعِ العَربِ في الأمُّةِ الإسلاميَّةِ [3] فقد حَرِصَ الرَّسُولُ –صلى الله عليه وسلم- على إِسلامِهم أَشَدَّ الِحرصِ، كيف وقد بُعِثَ فيهم، وإن كانت رسَالَتُه للنَّاسِ كافَّةً. حتى قال عليه الصلاة والسلام: (يا وَيحَ قُريشٍ، لقد أَكَلَتهم الحَربُ، مَاذا عليهم لو خَلَّوا بيني وبين سَائِرِ العَربِ؟! فإن هُم أصَابُوني كان ذلك الذي أَرَادُوا! وإن أَظهَرَني اللهُ عليهم دَخَلُوا في الإِسلامِ وَافِرين، وإن لم يَفعَلُوا قَاتَلُوا وبِهم قُوةٌ. فما تَظنُّ قُريشٌ؟ فوَاللهِ لا أَزالُ أُجَاهِدُ على الذي بَعثَني اللهُ به حتَّى يُظهِرَه اللهُ أو تَنفَرِدُ هذه السَّالِفةُ)، يعني الموتَ.

وتَعُودُ هذه المكَانَةِ للعَرَبِ إلى ما اختُصُوا به في عُقُولهم وأَلسِنَتِهم وأَخلَاقِهم وأَعمَالِهم، فالفضل إمَّا بالعِلمِ النَّافِعِ وإمَّا بالعَمَلِ الصَّالحِ، والعِلمُ له مَبدَأٌ وهو قُوَّةُ العَقلِ الذي هو الحِفظُ والفِهمُ، وتمَامَه قُوَّةُ المنطِقِ الذي هو البَيَانُ والعِبَارَةُ، والعَربُ هم أَفهَم مِن غَيرِهم، وأَحفَظُ وأَقدَرُ على البَيَانِ والعِبَارَةِ، ولسَانُهم أَتمُّ الأَلسِنَةِ بيانا، وتمييزًا للمَعَاني جَمعًا وفَرقًا. فإذا غَابَت عنهم هذه الخصَائِصُ والصِّفَاتُ والفَضائِلُ فقدوا مكانَتَهم.

لذلك فإنَّ فسَادَ العَرَبِ فَسَادٌ لمن وَرَاءَهم، وهَلَكَةُ العَربِ هَلَكَةٌ لمن وَرَاءَهم. لذا لمـَّا استيقظ النبَّيُّ –صلى الله عليه وسلم- ذاتَ يَومٍ مِن النَّومِ مُحمرًّا وَجهُهُ قال: (لا إله إلا اللهُ، وَيلٌ للعَربِ مِن شَرٍّ قد اقتَرَبَ، فُتِحَ اليَومَ مِن رَدمِ يأجُوجَ ومأجُوجَ مِثلُ هذه)، وعَقَد بين أصبعيه، فقيل: أَنهلِكُ وفِينَا الصَّالحون؟ قال: (نعم إذَا كَثُرَ الخَبَثُ)[4]. كما أنَّه يَخرُجُ الدَّجَّالُ على قِلَّةٍ مِن العَرَبِ؛ فقد ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ جَهدًا يكونُ بين يَدَيِ الدَّجَّالِ، قالت عائشة –رضي الله عنها: فأَينَ العَربُ يَومَئذٍ؟ قال: (العَرَبُ يَومِئذٍ قَلِيلٌ)[5]. وتُخرِبُ الحَبَشَةُ الكَعبَةَ بعد “هَلَكَةِ العَرَبِ”[6]، خَرَابًا لا تُعمَّرُ بَعدَه أبدًا.

فهذا كُلُّه يُشيِرُ إلى مِحوريَّةِ العَربِ في المركَزِ مِن قضَايَا الأُمَّةِ. وفي دَاخِلِ المركَزِ مِن العَربِ تُعدُّ قُريشٌ هي النَّوَاةُ الصَّلبَةُ في المجتَمعِ العَرَبي؛ وفي الحديث: (النَّاسُ تَبَعٌ لقُرَيشِ في هَذَا الشَّأنِ، مُسلِمُهم تَبَعٌ لمـُسلِمِهم، وكَافِرُهم تَبَعٌ لكَافِرِهم)[7]. حتى قال أبو بكر –رضي الله عنه- في سقيفة بني ساعدة، للأَنصَار: “ما ذَكرتُم فيكم مِن خَيرٍ فأَنتُم له أَهلٌ، ولن يُعرَفَ هذا الأَمرُ إلا لهذا الحيِّ مِن قُريشٍ، هُم أَوسَطُ العَرَبِ نَسَبًا ودَارًا”[8]. وهلاك العرب بهلاك قريش، ففي الحديث: (أسرعُ قبائلِ العربِ فناءً قريشٌ ويوشكُ أن تمرَّ المرأةُ بالنعلِ فتقول إن هذا نعلُ قرشيُّ)[9].

مَركزُ الجُغرافَيا الصَّلَبِ:

جعل الله تعالى الأَرضَ لبَني آدَمَ مُستَقَرًا إلى حين، ومَحلًا للاستِخلَافِ. وجَميعُ الأَرضِ مَحلٌ لذَلك، إلا أنَّ الله مَيَّزَ مَنطِقَةُ القَلَبِ مِنها، والوَاقِعَةِ بين القَارَاتِ القَدِيمَةِ الثَّلاثِ، حيثُ جَزيرَةُ العَرَبِ والعِراقُ والشَّامُ، عن غيرها. فجَعَلَ فيها مُعظَمَ النُّبوَاتِ والممَالكِ الإسلامية الكُبرى عَبرَ التَّاريخِ. كما أنَّها شَهِدَت الكَثيرَ مِن الأَحدَاثِ التَّارِيخيَّةِ العُظمَى، وسَوفَ تَشهَدُ أحدَاثًا كُبرَى في مُستَقبَلِ العُصُور.

وفيها أَرضُ فِلسطَينَ المبَاركَةِ، وطُورُ سِينَاءَ، ومَكَّةُ المكرَّمَةُ والمدِينَةُ المنَوَّرَةُ، وهي جميعُها أَمَاكِنُ مُعظَّمَةٌ ولها مَكَانَتُها في العَقيدَةِ والشَّريعَةِ الإسلامية. ففيها أَعظَمُ المسَاجِدَ على الإطَلاقِ، وهي حَرَمٌ آمِنٌ، وقِبلَةُ المسلِمين في أنحاءِ العَالم.

لذلك روعي في هذا المركز المحوري أن يكون خالصا للمسلمين، كما قال –عليه الصلاة والسلام: (أَخرِجُوا المشرِكِينَ مِن جَزِيرةِ العَربِ)[10]. وقال الله تعالى قَبلَ ذلك في شَأنَ مكَّةَ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الـمُشرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقرَبُوا الـمَسجِدَ الحَرَامَ بَعدَ عَامِهِم هَذَا وإِن خِفتُم عَيلَةً فَسَوفَ يُغنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ))، التوبة: 28.

وقد عَصَمَ اللهُ تعالى هذه البِقاعَ الكَريمَةَ: مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والقدس الشريف، وجَبلَ الطُّور، مِن دُخُولِ الدَّجَالِ إليها. وقد رَغَّبَ الرَّسُولُ الكَريمُ في أَحَادِيثَ كَثيرةٍ بسُكنَى مَكَّة والمدِينَة وبَيتِ المقَدسِ، والهِجرَةِ إليها وعِمَارَتها كُونُها أَمَانٌ مِن الفِتَنِ، ومَحلٌ للبَركَةِ، ودَارٌ للإيمَانِ. وكي تَبقَى شَعَائِرُ الإسلامِ فيها ظَاهِرَةً حَيَّةً نَابِضَةً.

من هنا اختُصَّت هذه الأَمَاكِنُ بأَحكَامٍ وشَرَائِعَ ومَعَالمَ تقومُ بها ليُحَافَظَ عليها مَركزًا صَلبًا كما أنَّها نَواةٌ محوريَّةٌ.

مَركزُ الزَّمَانِ الصَّلبِ:

وإذا ما أَخَذنَا الخَطَّ الزَّمَني وَجدنَا أنَّ هنَاك كُتلَةٌ مَركزِيَّةٌ في الزَّمَن، وقد اختُصَّت بعِبَادَات كُبرَى، ومِن ذلك الأَشهُرُ الحُرمِ، وأَشهُر الحَجِّ ورَمضَان. يقول تعالى: ((إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثنَا عَشَرَ شَهرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَومَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرضَ مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلَا تَظلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُم وقَاتِلُوا الـمُشرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم كَافَّةً واعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَع الـمُتَّقِينَ))، التوبة: 36. ويقول سبحانه: ((الحَجُّ أَشهُرٌ مَعلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ ولَا فُسُوقَ ولَا جِدَالَ فِي الحَجِّ ومَا تَفعَلُوا مِن خَيرٍ يَعلَمهُ اللَّهُ وتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلبَابِ))، البقرة: 197. وقال عزَّ وجلَّ: ((شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وبَيِّنَاتٍ مِن الهُدَى والفُرقَانِ فمَن شَهِدَ مِنكُم الشَّهرَ فَليَصُمهُ ومَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُم اليُسرَ ولَا يُرِيدُ بِكُم العُسرَ ولِتُكمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ على مَا هَدَاكُم ولَعَلَّكُم تَشكُرُونَ))، البقرة: 185.

وفي الوَسَطِ مِن هذه الكُتلَةِ المركَزيَّةِ العَشرُ الأَيامُ الفَاضِلَةُ مِن ذي الحِجَّةِ، وفي النَّواةِ مِنها يَومُ عَرَفة. وفي الوَسَطِ مِن هذه الكُتلَةِ –أَيضًا- العَشرُ الليَالي الفَاضِلَةِ مِن رَمضَان، وفي النَّوَاةِ مِنها لَيلَةُ القَدرِ. فعَرَفةُ خَيرُ يَومٍ طَلَعَت عليه الشَّمسُ، ولَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ.

وهكذا حيثما اتَّجهنَا دِينًا وجِنسًا ومَكانًا وزَمانًا وخُلُقًا سَنجِدُ كُتلَةً مَركَزيَّةً صَلبَةً، وفي الوَسطِ مِنها نَواةً مِحوَريَّةً. والمحَافَظَةُ على المحِيطِ والأَطرَافِ مُحافَظَةٌ على الكُتلَةِ المركَزيَّةِ الصَّلبَةِ، وإفسَادُ أو تَدمِيرُ المركَزِ الصَّلبِ إفسَاٌد للمُحيطِ والأَطرافِ وتَدميرٌ لها. لذا فإنَّ الفِقهَ في الدِّينِ والمعَرِفَةِ والحيَاةِ ينبَغي أن يَنصَرِفَ لإدرَاكِ وفَهَم تلك الكُتَلِ الصَّلبَةِ والنَّواةِ المحوريَّةِ للانطلاقِ في فَهَم المحيطِ والأَطرافِ.

—————————————-

[1] في أَمرِه -عليه الصلاة والسلام- لعلي بن أبي طالب –رضي الله عنه- لما بعثه إلى خيبر. صحيح مسلم، الرقم: 2405.

[2] رواه البخاري ومسلم.

[3] الحديث عن مكانة العرب في وَسَطِ الأُمَّةِ ليس مِن قَبيلِ النَّعرَاتِ القَوميَّةِ الجَاهِليةِ أو التفاخر بالأنساب، بل لموقِعِ العَربِ مِن الرِّسالَةِ وحَمَل ِالأَمَانَةِ، لما لهم مِن خَصَائِصَ وصِفَاتٍ تَميَّزُوا بها، لذلك لما سُئِلَ رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- عن أيِّ النَّاسِ أكرَم؟ قال: (أكرَمُهم عِندَ اللهِ أتقَاهم)، فقالوا: ليس عن هذا نَسأَلُكَ! قال: (فأَكرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نبيُّ اللهِ، ابنُ نبيِّ اللهِ، ابنِ نبيِّ اللهِ، ابنِ خَليلِ اللهِ)، قالوا: لَيسَ عن هَذا نَسأَلُكَ! قال: (فعَن مَعَادِنِ العَربِ تَسأَلونَني؟)، قالوا: نعم! قال: (فخِيارُكم في الجَاهِليَّةِ خِيَارُكم في الإسلامِ إذَا فَقُهوا). رواه البخاري ومسلم. فهذا الحديث جمع بين الكرامة للمعنى الديني، ولمعنى النسب الشريف، ولمعنى الجبلة والأخلاق الحسنة.

[4] رواه البخاري ومسلم.

[5] انظر: السلسلة الصحيحة، الرقم: 7/212.

[6] انظر: مسند أحمد: ج15/35؛ وعمدة القاري: ج9/333. وذهب الوادعي في الصحيح المسند إلى صحة إسناده، الرقم: 1345

[7] رواه البخاري ومسلم.

[8] رواه البخاري.

[9] رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة: ج16/186، وقال عنه أحمد شاكر: إسناده صحيح؛ كما حكم بصحته الألباني، في صحيح الجامع: 962. وقال في السلسلة الصحيحة، رقم 738: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[10] صحيح البخاري ومسلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى