المراجعة الذاتية وبعث مفهوم الأمة الواحدة
هذه الحلقات المتتابعة في أفكارها هي مجرد مُمَهِدَات مقدمة إلى الحركة الإسلامية في بنائها الجديد المنتظر؛ فأغلب أبناء الحركة والمتابعين لها يؤكدون على ضرورة تجديد البناء. والتجديد في فكرنا الإسلامي وتراثنا يرتبط بتغيير الأفكار لا بتغيير الهياكل أو الشكل – وإن كان ذلك مطلوبًا في وقت ما- ومن ثم جاءت هذه المُمَهِدَات المعرفية – والتي هي عبارة عن: استبطان ذاتي لأحد أبناء هذه الحركة الذي عاش فيها عن قرب تارة وبُعد تارة أخرى، ما يقرب من ربع قرن، واهتم بأمرها وشأنها وما زال يؤلمه ألمها، ويحزنه ما صارت فيه وإليه..
لذا فهذه الرؤية أو المُمَهِدَات المعرفية، تعتبر رؤية للإصلاح والتجديد من داخل الحركة وليست من خارجها.
(بَلِ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)
المراجعة الذاتية والتقويم المستمر
من الأفكار الأصيلة في النهج الإسلامي فكر “المحاسبة” و”المراجعة الذاتية” {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13]، والتي من أهم متطلباتها “مراجعة الذات” ونقدها ببيان عناصر “الصواب والخطأ” و”التقدم والتأخر” و”السداد والانسداد”، واتخاذ الكتاب (القرآن) ميزانًا ومعيارًا لتلك المراجعة إلا أن “العقل المسلم” تخلى – أيضًا – عن “الميزان” و”الوحي”، كمعيار حاكم منهجي ومعرفي وسلوكي ووجداني، واستبدل به معايير أخرى، وضعية، بقصد أو بجهل، فنتج عنها: الغفلة عن منهج الإصلاح وعن مساراته وسننه في الكون والإنسان، واختلال مبدأ التوازن بتقديس ما ليس بمقدس، وتعظيم ما ليس بمعظم، وتقديم ما لا يجب تقديمه، وتأخير ما لا يجب تأخيره.
ومن المفاهيم التي رُوِجَ لها -تقعيداً لإهمال المحاسبة والمراجعة- هو أنه “ليس علينا إدراك النتائج”، وأدى هذا القول إلى التراجع عن فكرة المحاسبة والمراجعة وفقد التصويب والاعتراف بالخطأ والقصور في العمل، فأصبحنا نرى كل عملنا حسناً سواء أدى إلى النتائج المرجوة أو لم يؤد، وهذا مخالف لنهج الراشدين وفهمهم للمنهج القويم وهو ما يتقعد في إجابة عمر بن الخطاب عندما تحول برعيه من الوادي المجدب إلى الوادي المخصب.. كيف تفر من قدر الله؟ قال: أفر من قدر الله إلى قدر الله.
ومن هنا فإننا نرى أن حركة الإصلاح الإسلامي المعاصرة تحتاج إلى “مؤتمرٍ إسلامي” عام لتحقيق ما تم التغافل عنه أو التقصير فيه، وهو ما تفرضه بشدة الظروف الحالية، هذا المؤتمر “العام” ينطلق من رؤية تقويمية تقوم على تشخيص حال الحركة المعاصرة وما وصلت إليه، وكيفية المحافظة على المكتسبات التي حققتها. والبحث في عوامل الإخفاق، وتأطير برامج للمرحلة الجديدة وغيرها مما يجب أن يكون على جدول أعمالها مما تفرضه الرؤى الإستراتيجية للحركة والأمة والمتغيرات اليومية الآنية والمستقبلية المتوقعة.
هذا المؤتمر ينبغي أن يقوم به مفكرون وباحثون مستقلون من كافة أنحاء العالم الإسلامي ودون استبعاد لأحد.. من جنس أو عرق أو مذهب. كذلك فإن الرموز الإسلامية التي ما زالت على قيد الحياة ينبغي أن يناط بها ذلك الدور المحوري. وليكن جغرافية المكان من الدول التي ما زالت تحمي الحريات مثل سويسرا والتي بدأت منها أعمال إسلامية كثيرة معاصرة. أما الوقت فهو الآن.. الآن.. الآن. على أن يكون هذا المؤتمر العام مستقلا عن الحكومات أو الأنظمة وعن الهيئات الإسلامية التي انضوت تحت تلك الحكومات والأنظمة.. مثل عدد من المنظمات الكبرى والاتحادات الإسلامية الذين تحولوا إلى مكاتب وظيفية أو بالأصل كذلك دون؛ حيث تغيب لديهم الوظيفة الرسالية.. ولا مانع من مشاركتهم أو ممثليهم دون فرض هيمنة فكرية أو إدارية أو تنظيمية.
(إِنَّهَٰذِهِأُمَّتُكُمْأُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)
بعث مفهوم الأمة الواحدة.. ومواجهة داء الشعوبية
سقطت الأمة الإسلامية في نسختها المعاصرة في داء الشعوبية الذي هو أخطر من المؤامرة الغربية المعاصرة، وتحولت دولها إلى حلفاء (على أفضل تعبير) للشيطان الأكبر (أمريكا) والأصغر ( روسيا).. وأصبحت الأمة أحزابا وشيعًا {كُلّ حِزْب بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53)، وتنوعت الشعوبية المعاصرة بين إحياء لشعوبية مذهبية فقهية، ومذهبية كلامية، ثم شعوبية داخل المذهب الواحد، ثم شعوبية اقتصادية (دول غنية بترولية تتحكم في مصير الأمة ويلعب بعضها دور الوكيل عن الغرب)، وظهرت هذه الشعوبية على وحدة الأمة وفتَّت في عضدها، فأصبحت الأمة تشبه {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ } (الحشر: 2). ومن ناحية أخرى يقوم الغرب بتخطيط شعوبي في العراق وسوريا واليمن، وغير ذلك من أقاليم الأمة، بالإضافة إلى ما هو تاريخي..
ووقعت الحركة الإسلامية في خطاب التفتيت والتجزئة وأصبح خطابها خطابًا عنصريًا غاب معه بل ضاع معه خطاب “الأمة الواحدة” المقترن بتوحيد الله والإيمان به وعبادته {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92). الذي نود التأكيد عليه هنا أن الأمة لن تستطيع أن تنهض من كبوتها أو مواجهة أي مؤامرة خارجية إلا بخطاب الأمة الجامع وغير ذلك ستظل الأمة سائرة إلى تقطع وتمزق.. أكثر فأكثر؛ حتى لا نجد منها في الواقع شيئًا {فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46).
- اقرأ في هذه السلسلة:
(المصدر: مجلة المجتمع)