مقالاتمقالات مختارة

المرابحة والربا بين الشبهات والمتشابهات

المرابحة والربا بين الشبهات والمتشابهات

بقلم د. أشرف دوابة

رغم أن الاهتمام بالاقتصاد الإسلامي في بلادنا الإسلامية بدأ في النصف الأخير من القرن الماضي انطلاقا من مصر الكنانة، فإن الوعي بالاقتصاد الإسلامي ما زال متواضعا، لا سيما حصره بقصد أو دون قصد في المصارف الإسلامية التي تمثل إحدى مؤسساته؛ ضمن منظومة متكاملة من مؤسسات أخرى كالزكاة والوقف والشركات الإسلامية المتعددة والمتنوعة.

وكان من نتيجة قلة الوعي بالاقتصاد الإسلامي عامة والعمل المصرفي الإسلامي خاصة؛ تلبيس بعض الأمور على شريحة من الناس في المجتمع، وهذا التلبيس قد يكون قصدا أو بغير قصد، لا سيما وأن البعض يستخدم بعض أخطاء المصارف الإسلامية لتبرير ذلك التلبيس، علما بأن المصارف الإسلامية ليست منزهة، فالقائمين عليها بشر يصيبون ويخطئون، فمنهم السابق بالخيرات ومنهم المقتصد ومنهم المسيء.

ومن هذا التلبيس ما يردده البعض بأنه لا فرق بين المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية والقرض بفائدة في البنوك التقليدية، مبررين ذلك بأنه حينما يتم شراء سلعة بالمرابحة يضيف البنك عائدا قد يفوق العائد الذي يحصل عليه البنك التقليدي ممثلا في سعر الفائدة، وفي النهاية الحصيلة واحدة هو شراء واستلام سلعة في كلا الأمرين.

ومدعو المنطق في هذا التبرير يفتقرون في الحقيقة إلى المنطق، لا سيما وأن ذلك التلبيس أثاره المشركون من قبل في عهد الرسالة، وسطر ذلك القرآن الكريم في قوله تعالي: “ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا” (البقرة: 275).

فالمشركون ادعوا أن البيع مثل الربا، وبمنطقهم المغلوط قاسوا (حتى) البيع على الربا، وليس الربا على البيع، وكان منطقهم أن البيع الآجل فيه زيادة وكذلك الربا فيها زيادة، فلا فرق بينهما. وهذا منطق لا تقبله القواعد الشرعية فضلا عن القوانين الاقتصادية، وهو نفس المنطق الذي يدعيه المبررين لمعاملاتهم الربوية.

إن من أولى الأبجديات في علم الاقتصاد تعريف النقود بأنها أي شيء يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل، ويصلح في الوقت ذاته مقياسا للقيم وحفظ الثروة وتسوية الديون والالتزامات. فالنقود بطبيعتها لا تنتج منافع ذاتية بحيث يتولد عنها قيمة مضافة، بعكس ما هو عليه الحال في السلع الحقيقية. ووظيفتها الأساسية كمقياس للقيم ووسيط للتبادل يتطلب استقرار قيمتها، فإذا تحولت إلى سلعة يتاجر فيها لا بها، كما هو عليه الحال في القرض بفائدة، خرجت عن وظيفتها وأفسدت على الناس حياتهم. وهذا هو نتاج ما يحصده العالم اليوم من الربا من أزمات متلاحقة وتخبط يشهد به الغربيون غير المسلمين قبل المسلمين أنفسهم.

وشتان بين بيع النقد من نفس الجنس آجلا بزيادة وبين بيع السلعة بالنقد آجلا بالمرابحة بزيادة، فالأول يجعل النقود سلعة للاسترباح مما يخرجها عن وظيفتها، أما الثاني فهو يراعي طبيعة النقود والسلع وما يختص به كل منهما. فبيع سلعة بنقد بزيادة آجلا بالمرابحة يتم فيه تسليم سلعة وليس نقدا، كما أن الزيادة في ثمن السلعة هي زيادة في أصل حقيقي وليس نقدا بنقد. والصادق المصدوق (صلى الله عليه وسلم) يقول: “إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم”. كما أن المبلغ المؤجل ممثلا في ثمن السلعة يصبح دينا في الذمة، ولا تجوز الزيادة عليه بأي صورة من الصور، سواء أكان ذلك بشرط أو بدون شرط، بعكس ما هو عليه الحال في القرض الربوي.

كما أن بيع سلعة بنقد له آثار إيجابية على الاقتصاد الكلي، بعكس الآثار السلبية لإخراج النقود عن وظيفتها وتحويلها لسلعة تفسد على الناس معايشهم، حيث إن بيع السلع آجلا يؤدي إلى زيادة الطلب عليها، مما يؤدي إلى دخول منتجين منافسين جدد لسوق السلعة، يترتب عليه توظيف عمالة جديدة، فضلا عن حرص هؤلاء المنتجين المنافسين علي تقديم السلعة بأفضل جودة وأقل سعر، وهو ما يعود نفعه في نهاية المطاف على أفراد المجتمع ككل.

إن المسلم الذي في قلبه ذرة من إيمان يحب أن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، فكيف بمن يتجرأ على أكل الربا وهو من الكبائر التي أعلن الله تعالى الحرب علي مرتكبيه، وجعل اللعنة محيطة به، وصيرورة أمره إلى قلة؟! فالنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: “اجتنبوا السبع الموبقات. قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات” (رواه البخاري)، كما “لعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء” (رواه مسلم). وجعل الإسلام الربا أشد من الزنا، وفي هذا يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): “الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم” (رواه الحاكم).. “درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية” (رواه أحمد).

وأضرار الربا لا تقتصر على أطراف تلك المعاملة المقيتة فحسب، بل تمتد لتشمل النواحي الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع. فمن الناحية الأخلاقية يعمل الربا على تكريس العبودية للمال والتكالب على المادة، وتحجر القلب، وقتل مشاعر الشفقة والرحمة، ونحو ذلك من رذائل. ومن الناحية الاجتماعية، يعمل الربا على تفسخ علاقات المجتمع، وزيادة الأحقاد والضغائن نتيجة لما يؤديه من تركز الثروة عن طريق الظلم والجشع. ومن الناحية الاقتصادية، يعمل الربا على خفض الاستثمارات، وزيادة البطالة والتضخم، وسوء تخصيص الموارد بصفة عامة، إضافة إلى ما يؤديه سعر الفائدة من اختلالات هيكلية مزمنة في الاقتصاد، وسيادة الشركاء النائمين الذي يعتمدون على توليد النقود من النقود.

إن الإسلام في تحريمه الربا يقصد إلى بناء اقتصادي فاضل يقرر أن رأس المال لا يعمل وحده، وأنه لا ربح من غير مخاطرة، بعكس النظام الربوي الذي يفرض مكسبا لرأس المال من توليد النقد للنقد من غير جهد ولا عمل ولا مخاطرة.

وتبقى بعد ذلك أهمية أن تتقي المصارف الإسلامية الله تعالى في معاملاتها، وتفر بنفسها عن الشبهات والتقليد المذموم، ولا تكون فتنة للناس، وذلك بأن تحرص في تعاملها بالمرابحة على شراء السلعة بنفسها، ومن ثم تملكها وتحمل مخاطرها قبل بيعها للعميل، والحرص على تسليمها للعميل من خلال مندوب خاص بها.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى