مقالاتمقالات مختارة

المرأة والجاسوسية.. هل عملت النساء لخدمة المخابرات في تاريخ الإسلام؟

المرأة والجاسوسية.. هل عملت النساء لخدمة المخابرات في تاريخ الإسلام؟

بقلم أحمد إبراهيم

نشأت المخابرات في تاريخ الدولة الإسلامية منذ العصر النبوي نتيجة وجود العداوات المتنامية من القبائل العربية في الجزيرة العربية ضد المسلمين والإسلام، فضلا عن الجغرافيا الإقليمية التي كان يحتلها الفرس والروم، وقد انصبَّ اهتمام المخابرات الإسلامية التي كانت تُعرف باسم “العيون” و”الجواسيس” في الحصول على المعلومات عن العدو، وفرز هذه المعلومات وفحصها وتقسيمها وتقدير مدى صحتها، وتفسير هذه المعلومات واستخلاص النتائج منها، وكثيرا ما يُطلق على هذا الأمر مصطلح “الاستخبار” أو “الاستخبارات”[1].

 

والناظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحاديثه سيجد أن هذا العمل قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزواته وسراياه وغير ذلك في علاقاته الداخلية والإقليمية، فقد رُوي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث عبد الله بن جحش -رضي الله عنه- في السنة الثانية من الهجرة في اثني عشر رجلا من المهاجرين، وزوّده بكتاب مختوم، أمره ألّا ينظر فيه حتى يسير يومين ويصل إلى موقع معلوم حدّده له، فلما وصل ذلك المكان وآن وقت فضّ الكتاب والنظر فيه، فإذا فيه: “إذا نظرتَ في كتابي هذا فامضِ على اسم الله وبركاته، لا تُكرهنَّ أحدا من أصحابك على السير معك، وامضِ فيمن تبعك حتى تأتي (منطقة) بطن نخلة فترصدَ بها عير قريش وتعلمَ لنا من أخبارهم”[2].

 

والأمثلة من السيرة النبوية والسنة وتاريخ الراشدين ومَن تلاهم من الأمويين والعباسيين وحتى العثمانيين مليئة بالأخبار والقصص التي تُدلِّل على تطوُّر هذا الجهاز الذي أصبح إحدى الأدوات المهمة لهذه الدولة سِلْما وحربا، وقد تطورت مصطلحاته ومضامينه وآليات العمل داخله، وتوسّعت أنشطة أعضائه، وكان البعض منهم يُقيم السنين “عينا” و”جاسوسا” لخدمة دولته في الدول المناوئة الأخرى.

 

لكن الأمر اللافت أن المخابرات أو الاستخبارات في تاريخ الإسلام قد استعانت بالمرأة لتأدية هذه الوظيفة في بعض الأوقات، ونُشير إلى أنها حافظت على حيائها وعفافها واتخذت هذه الغاية ابتغاء لرفعة دينها، وإظهار الحقيقة أمام السلطات، فضلا عن الاستعانة بنساء الأعداء أنفسهنّ، وعلى الرغم من قِصَر هذا الدور وقلة الأخبار حوله، فإن من المفيد أن نُشير إليه. فكيف عملت المرأة في جهاز المخابرات في تاريخ الإسلام؟ وكيف أسهمت في كشف الحقيقة وإفادة السُّلُطات؟ ذلك ما سنراه في سطورنا التالية.

 

إذا أردنا أن نفهم نشاط عمل المخابرات فعلينا أن نُدرك أن عملها الأساسي ليس جمع المعلومات وتحليلها بُغية الاستفادة منها للنواحي الإستراتيجية أو الهجومية فقط، بل هناك مخابرات “وقائية”، وهي المخابرات التي تهدف إلى حرمان جواسيس العدو من الحصول على المعلومات والأسرار ومقاومة الجاسوسية والتتبُّع[3]، بالتضليل أو بالقبض على هؤلاء العُملاء.

 

وقد تَمثَّل هذا الدور فيما لعبه الصحابي عامر بن فُهيرة الذي كان يأخذ غنم أبي بكر ليمحو بها آثار النبي وأبي بكر أثناء هجرتهما من مكة إلى المدينة، وقبله السيدة أسماء بنت أبي بكر (ذات النطاقين) التي كانت تُعِدّ الطعام وتأتي به خفية إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبيها أثناء تلك الهجرة، كما كانت تتتبّع أخبار كفار قريش لتخبر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأباها، ولا تُدلي بأية معلومة يمكن أن تُفيد الأعداء في تلك اللحظات العصيبة، وقد نالت من هذا أذى كبيرا من أبي جهل، تحكي قائلة: “لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، أتانا نفر من قُريش، فيهم أبو جهل ابن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجتُ إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنتَ أبي بكر؟ قالت: قلتُ لا أدري والله أين أبي. قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدّي لطمة طُرح منها قُرطي”[4].

 

وقُبيل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي أثناء حروب الردة في خلافة أبي بكر (11- 13هـ) نجحت الاستخبارات الإسلامية في تجنيد زوجة الأسود العنسي “بادان” للقضاء عليه بعدما ادّعى النبوة في اليمن، وتبعه كثير من الناس قُبيل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد استفحل خطره، وقد لقيت هذه المرأة من أذاه الشيء الكثير مما جعلها تُرحّب بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الداعي إلى التخلُّص من فتنة زوجها، فدبرت خطة بالتعاون مع أبناء عمها فيروز الديلمي وقائد جيش العنسي، ثم قدَّمت معلومات تفصيلية عن زوجها وكيفية الوصول إلى مخبئه في قصره الحصين وكثرة حرسه الذين يحيطون به، قائلة: “وليس في القصر مكان إلا والحرس محيطون به غير حُجرة نائية، فإن ظهرها إلى مكان كذا وكذا على البرية، فإذا أمسيتُم فانقبوها في عتْمة الليل، وستجدون في داخلها السلاح والمصباح وستجدونني في انتظاركم”[5].

 

وقد ظلّت زوجة العنسي تنتظر الجنود المسلمين وأميرهم الذين تأكدوا من صحة هذه المعلومات وأهميتها، بل وعملت على مشاغلة حرس القصر، حتى تمكّن المسلمون من إحداث فتحة يستطيعون المرور منها، حتى أسدل الليل ستاره وأوى العنسي إلى فراشه، وساد السكون المكان، تسللوا ووجدوها بانتظارهم، فأشارت إليهم بالدخول وهو نائم، فدخلوا فقضوا عليه، وتخلّص المسلمون من فتنته وشرّه[6].

 

كما قام الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بتجنيد امرأة مسلمة للكشف عن جريمة قتل وقعت في المدينة المنورة أثناء خلافته، فقد أُحضر إلى عمر فتى أمرد وُجد مقتولا ومُلقى على وجهه على قارعة الطريق ولم يُعرف قاتله ولا سبب مقتله، الأمر الذي أرهق الخليفة ومعاونيه، وبعد عام من وقوع تلك الجريمة وُجد طفل ملقى بموضع ذلك القتيل، وشعر عُمر بفراسته أن ثمة رابطا بين الجريمتين، وهنا استدعى امرأة من ساكني المدينة وقد كلّفها بتربية الصبي ورعايته، وفوق ذلك عليها أن تراقب حركات النساء اللواتي قد يأتين لزيارة هذا الصبي، فأيما امرأة أظهرت اللهفة والشوق في الضم والتقبيل عليها أن تأتي فورا وتخبره عنها، وذلك مقابل أجر حدّده لها.

 

وبالفعل، لم يمر وقت طويل حتى جاءت جارية صغيرة قالت لتلك المرأة المربية والمخبِرة: “إن سيدتي بعثتني إليك لتبعثي بالصبي لتراه وتردّه إليكِ”. لكن المرأة المجنّدة من قِبَل عُمر -رضي الله عنه- أصرّت على مرافقة الصبي لتلك المرأة التي تريد رؤيته، فجاءت إليها، وأخذت الجارية الصبي وأعطته لسيدتها، فلما أخذته حضنته وقبّلته وضمّته إليها، فإذا هي ابنة شيخ من شيوخ الأنصار في المدينة المنورة، وعلى الفور تحرّكت هذه المرأة المخبرة السرية إلى الخليفة عمر وأمدّته بتلك المعلومات المهمة[7].

تحقق الخليفة من هذه المعلومات، ثم أخذ الإذن من والد هذه المرأة الأنصارية الذي كان من كبار شيوخ الأنصار والصحابة لاستجوابها، وعلى الفور واجهها الخليفة عمر، وألقى عليها تهمة القتل، وهدّدها بالقتل إن لم تعترف، وبالفعل انهارت تلك المرأة، واعترفت أنها هي التي قتلت ذلك الشاب الذي وُجد مُلقى على قارعة الطريق قبل عام، وبيّنت له أنها قتلته مضطرة دفاعا عن نفسها وشرفها، وبيّنت له أنها وقعت ضحية عجوز ماكرة كانت تتردد عليها وكانت تقوم من أمرها مقام الوالدة، وكانت لها بمنزلة البنت، حتى مضى لذلك حين، ثم إن هذه العجوز استأذنت في الرحيل، وطلبت أن تضمّ إليها ابنة لها حتى عودتها من سفرها، فعمدت إلى ابن لها أمرد دون لحية، فهيّأته كهيئة الجارية وأتتها به وهي لا تشك أنه جارية، فكان يرى منها ما ترى الجارية من الجارية، واغتفلها يوما وتعدّى عليها وهي نائمة فقتلته، وألقت به إلى الطريق، لكن أثر هذا الاعتداء كان ذلك الصبي الذي وضعته ثم ألقته في موضع القتيل، وأقسمت له أنها صادقة في روايتها، فصدّقها ثم أوصاها ودعا لها[8].

 

وفي عصر الدولة الأموية تنبّه كثير من القادة السياسيين والعسكريين لدور المرأة وتجنيدها مخابراتيا لخدمة مشروعه، فحين أرسل عبد الله بن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- (ت 73هـ) أخاه مصعب بن الزبير إلى العراق وقد تمكَّن من الاستيلاء عليها والوقوف بصلابة ضد الدولة الأموية، كان بعض كبار قادة القبائل، وعلى رأسهم الأحنف بن قيس زعيم وسيد قبائل بني تميم كثيرة العدد والعُدّة، قد تردد في استمرار تأييد عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب أمير العراق ضد عبد الملك بن مروان، وهنا أرسل مصعب إلى جارية الأحنف الأثيرة لديه الزبراء تُحفا وهدايا وألف درهم من أجل إقناع الأحنف بالانضمام إلى عسكره ضد الأمويين، فجاءت تلك الجارية بذكاء ودهاء إلى الأحنف وأخذت تبكي، فقال: ما يُبكيكِ؟ قالت: عيّرتني النساء، فقُلنَ خرجَ رجالُنا وجبُنَ سيدُك، ففزع، وخرج لنُصرة مصعب[9].

 

وفي العصور التالية اعتنت الدولة العباسية والأيوبية بالمرأة وتجنيدها في العمل في جهاز مخابراتها، نظرا لكثرة الثورات والفتن والحروب الأهلية فضلا عن الأعداء الخارجيين، كل ذلك استدعى أن تتوسَّعَ أنشطة تلك الأجهزة للاستعانة بالنساء لأنهن كُنّ الأقدر على دخول البيوت ومعرفة أسرارها ومخالطة نسائها وجواريها. وقد ذُكر أنه كان للخليفة العباسي المأمون ألف وسبعمائة عجوز يتفقّد بهنّ أحوال الناس، لا سيما من المجرمين والمعاندين ومَن يُفسد حُرم المسلمين، وكان يجلس إلى دار الخلافة حتى تأتيه أخبارهن[10].

 

وعندما قامت الدولة الأيوبية في مصر والشام وأخذت على عاتقها مقاومة المد الصليبي وتطهير البلاد الإسلامية من براثن هذا الاحتلال، أخذ صلاح الدين الأيوبي وأعوانه في تجنيد كل الطاقات من أجل تحقيق هذا الهدف، فأخذت المرأة مكانة مهمة في أجهزة مخابراتها، ولم يقتصر الأمر على تجنيد النساء المسلمات فقط، بل تعداه إلى النساء الأوروبيات من الصليبيين الموثوق بهنّ، فيُذكر أن الملك المعظّم عيسى بن الملك العادل الأيوبي (ت 625هـ)، أمير دمشق، كان يستعين ببعض نساء الجنود الصليبيين لمعرفة أخبار جيوشهن ورجالهن مقابل دفعات مالية ضخمة، فكُنّ يُرسلن إليه أخبار تحرك الجيوش الصليبية أولا بأول، مما فوّت على الصليبيين في كثير من الأوقات مباغتة الجيوش الأيوبية في الشام، بل إن إحداها كشفت عن مخطط عسكري خطير للإمبراطور فردريك الثاني ملك ألمانيا وزعيم الصليبيين في الحملة الصليبية السادسة كان يستهدف من خلاله مباغتة الجيوش الأيوبية واحتلال دمشق، وبفضل هذه المعلومة استطاع المعظّم عيسى حماية مدينته بهجوم مُتقدِّم على العدو[11].

 

بل إن السلطان صلاح الدين الأيوبي استطاع أن يُجنِّد زوجة واحد من أهم زعماء الصليبيين وأمرائهم قُبيل معركة حطين وتحرير القدس سنة 583هـ، فقد استطاع أن يستميل السيدة سيبل زوجة أمير أنطاكية الصليبي بوهيموند الثالث، فكانت لها اتصالات سرية مع صلاح الدين، وكانت تُطلعه على خطط الصليبيين أولا بأول، وكان هو بدوره يُقدِّر لها هذه المعلومات ويُهديها أنفس الهدايا وأغلاها[12].

 

تلك بعض اللمحات من إسهامات المرأة في جهاز الاستخبارات في الدول الإسلامية المتعاقبة منذ عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وحتى زمن صلاح الدين الأيوبي، ولا شك أنهن لعبن أدوارا بارعة في كشف تحرُّكات العدو للمسلمين، وإظهار مكامن ضعفه، وكان لهنّ أعظم الأثر في نجاح هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن ثم انتصار الإسلام فيما بعد، بل وفي تحرير بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي، وتلك أدوار قلّما تناولها المؤرخون وعموم القراء وتنبّهوا لأهميتها!

—————————————————————-

المصادر

[1] ابن منظور: لسان العرب، مادة استخبر، ومادة جسس.

[2] ابن هشام: السيرة النبوية 3/18.

[3] محمد جمال الدين محفوظ: المدخل إلى العقيدة والإستراتيجية ص149.

[4] ابن هشام: السيرة النبوية 1/487.

[5] صور من حياة الصحابة ص273.

[6] الاستخبارات في الدولة الإسلامية ص54.

[7] ابن الجوزي: مناقب عمر بن الخطاب ص79، 80.

[8] ابن الجوزي: السابق ص80.

[9] الثعالبي: تحفة الوزراء ص92، 93.

[10] المنجد: بين الخلفاء والخلعاء ص93.

[11] المخابرات في الدولة الإسلامية ص192.

[12] السابق.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى