مقالاتمقالات المنتدى

المدنية والبداوة

المدنية والبداوة

 

بقلم د. أنور الخضري (خاص بالمنتدى)

 

قصص الأنبياء عليهم السلام هي قصص إنسانية محكومة في جوانبها الطبيعية بالسنن البشرية والظروف والسياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وفهمها لا يمكن أن يكون بعيدا عن السنن التي حكمتها والظروف التي أحاطت بها.
وآيات القرآن الكريم كما تقدم لنا الأحداث فإنها بألفاظها ترسم ظلال الظروف والطبيعة المحيطة بهذه الأحداث كي لا تنتزع الأحداث عن سياقاتها السننية والظرفية.
وكمثال على ذلك حادثة تآمر أبناء نبي الله يعقوب عليه السلام وهم الذين نشؤوا في بيت النبوة على يوسف عليه السلام. هذا التآمر فسر فقط في بعده الفطري والقدري، وأن الذنب وارد على الصالحين، وأن للشيطان مداخله عليهم. وهذا وجه من وجوه التفسير لكنه يصلح تفسيرا مجملا، لا مفصلا، وعاما لا خاصا. ومن ثم فيجب قراءة العوامل الأخرى التي أحاطت مسرح الجريمة وأشخاصها حتى وقع ما وقع.
ابتداء علينا أن نستعرض بعض الألفاظ المتعلقة بالقصة في شأن يعقوب وبنيه:
البدو: وهي حالة السكنى المتنقلة خارج العمران والمدينة، والتي تعتمد الرعي كمنشط للعيش.
الجب: وهو البئر. والدلو ما يغترف به الماء من البئر، وفي ذكره إشارة إلى عمق البئر وبعد الماء عن السطح.
السيارة: هي إما قافلة سفر أو عير تجارة، ما يعني أنهم كانوا على منطقة عبور معتادة. لذلك قالوا لأبيهم: ((والعير التي أقبلنا فيها)).
الذئب: وهو حيوان بري مفترس.
يرتع: قيل يرعى، وقيل: ينشط ويتحرك. ويلعب: أي يلهو.
نستبق: قيل: بالرمي، أو بالفرس، أو بالأرجل، والأظهر أنهم أرادوا تبرير ابتعادهم عن أخيهم، فيكون بالفرس أو بالأرجل حتى غاب عن ناظرهم.
المتاع: هو ما يحمل حال الرعي أو السفر، من ثياب، أو طعام، أو آنية وأداة.
البضاعة: هي ما يُتَّجر فيه من سِلَع ومصنوعات وغيره.
الرحال: ما يوضع على ظهر الخيول أو البغال أو الإبل من سرج يجلس عليها الراكب أو جيوب تحمل فيها الأمتعة.
العير: هي قوافل التجارة غالبا.
مزجاة: رديئة.
الكيل: هو معيار لما يكال ويدخر من الأطعمة المزروعة، وعادة ما يكون للحبوب. أي أنهم طلبوا مقابل بضاعتهم طعاما مدخرا من الحبوب.
….
من هذه الألفاظ المختلفة في سورة يوسف يمكننا أن نرسم صورة الجغرافيا والطبيعة التي كانت تحيط بيعقوب وبنيه، ونمط الحياة الذي كانوا يعيشونه، والنشاط الذي كانوا يمارسونه، والاحتياجات التي كانت لازمة لعيشهم.
فهم عاشوا البداوة في بيئة خارجة عن المدنية، وكانوا يستوطنون منطقة تعبر فيها قوافل السفر والتجارة، على مقربة من مصر. في بيئة شحيحة بالماء، ولا تسمح إلا برعي الغنم أو الإبل. وكان لديهم كغيرهم من البدو ما ينتجونه من منسوجات صوفية أو وبرية، أو جلود، أو مستخلصات الألبان، ويبادلون بها لشراء ما يلزمهم من البضائع والطعام.
ليس معلوما بالتحديد سبب وجود يعقوب وذريته في هذه الرقعة الجغرافية التي يغلب الظن أنها في فلسطين أو سيناء أو الأردن، كونها كانت الجغرافيا التي تحرك فيها إبراهيم عليه السلام ولوطا عليه السلام بعد هجرتهم. وهي القريبة لمصر حيث دارت أحداث قصة يوسف عليه السلام. وهذا ما ذهب له المفسرون: أنهم كانوا يسكنون بالعربات من أرض فلسطين، من غور الشام، وقيل: بالأولاج من ناحية الشعب أسفل من حسمى.
هذا الانقطاع عن المدنية بظننا كان نتاج ظروف طارئة سادت تلك المنطقة وكانت تتهدد أهل الإيمان، إذ ساد فيها الشرك وغلب عليها الجبروت، ما دفع إبراهيم للفرار من قومه، وتوجه إلى مصر، ثم فر من مصر كذلك إلى أرض فلسطين. وبعث لوط في قرى سدوم بين الأردن وفلسطين، وهي محل البحر الميت اليوم حيث خسف بهم، وأراد قومها إخراجه وأهله منها كونهم أناس يطهرون. وبالفعل خرج منها قبل هلاكها. وعليه فلم يكن هناك مجتمع مسلم، أو حتى مجتمع متقبل للتعايش مع دعوة الإيمان، إذ كان الشرك والظلم والفساد هو الطاغي على المنطقة (العراق والشام ومصر والجزيرة). فكانت البداوة هي الخيار الأسلم للبقاء، مع مزاولة أنشطة تسهم في ضمان العيش واستمراره. والراجح أنهم كانوا رعاة غنم لا إبل.
في هذه الأجواء الموحشة طبيعة وبيئة وبشرا نشأ أبناء يعقوب عليه السلام، حيث لا شيء سوى الحياة البدائية والاشتغال واللعب بعيدا عن الناس. في بيئة صعبة نائية كهذه تكتسب النفس الإنسانية الطبيعة الحيوانية نظرا للاحتكاك الأكثر بها، حيث لا يوجد مجتمع بشري ملهم ومؤثر.
ومع طول فترة الرعي إما أن تكتسب طبيعة الغنم وإما أن تكتسب طبيعة الذئب، فهو العدو الدائم للغنم.
والذئب حيوان مفترس، لا يأكل الجيف، ويمتاز بالذكاء والمكر، والقوة والشراسة، ويعيش في قطعان متجانسة، وهذه القطعان حقودة على من ينافسها، ولا تقبل به في منطقتها، لذلك تهاجمه وتقضي عليه.
وكما أنها تحمل شكلا جميلا وجاذبا، وصفات حسنة، إلا أنها تحمل الحقد والشراسة. ومن يقع في محبتها سيأخذ عنها هذه الطباع جملة.
وعندما ضرب يعقوب عليه السلام المثال بالذئب في تخوفه من حقد إخوة يوسف عليه، لم يكن يشير فقط للمخاطرة الحقيقية في بيئته المحيطة، لكنه كان يرمي لما هو أبعد من ذلك معنى، وهو الذي أبدى تخوفه منهم بقوله: ((لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا)). فقد شعر بحقد إخوته عليه وهم الذين يخالطون الذئاب في البرية ويرون شراستها! لذلك كان أول اقتراح يحضرهم في تآمرهم عليه: ((اقتلوا يوسف))! وكانت العلة: ((أحب إلى أبينا منا))!.
لم تكن بيئة البداوة لتوفر ميادين مختلفة لكسب الوجاهة والعلاقات الودية وإظهار القدرات والمواهب، فما هو إلا التنافس على منزلة القرب من الأب أو الأم. فليس هناك تحديات خارجية ومهددات أجنبية تصرف الأبناء للتلاحم والتآزر، ما يدفع النفس للمشاحنات الداخلية والخلافات الأسرية.
لذلك يكثر التحاسد وتزداد الأحقاد في البيئات الصغيرة والمغلقة والبدائية حيث لا تستفرغ النفس أحمالها في علاقات متعددة وتجارب متنوعة وأشغال تستوعب المواهب والطاقات. وبالتالي تكثر العين ويستخدم السحر كي يفرق بين الناس، أو يجمع بينهم، على غير إرادة ورغبة.
كما أن الاجتماع الإنساني يخفف وطأة التوحش والعنف غالبا، إذ تظل هناك موانع دينية وأخلافية وقانونية وعرفية تحجز الإنسان عن الشر إذا ورد في نفسه. لهذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن البداوة، ولهذا بعث الأنبياء عليهم السلام في حواضر الناس، ولهذا دعا يوسف عليه السلام أهله لدخول مصر رغم اختلاف العرق والدين، فالمدنية خير من البداوة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى