مقالاتمقالات مختارة

المدارس الإسلامية بين الأمس واليوم

المدارس الإسلامية بين الأمس واليوم

بقلم الأستاذ محمد أجمل القاسمي (*)

     الجد الفاعل، والنشاط المتصل، والركض الدؤوب، والحركة المستمرة، والتفاني للتوصل إلى الغاية، والاستماتة في سبيل تحقيق الأهداف المنشودة، والهيام بها هيام العاشق بليلاه: معانٍ شريفة تعبِّر عن الحياة؛ فمتى تتمتع الحياة بهذه المعاني تستحقّ أن تسمّى حياةً، وإذا تخلّت عنها فإنها ورم يستسمنه الرائي، أو سراب يحسبه الظمآن ماءً إذا وُجدت هذه المعاني في الفرد فالفرد متمتع بالحياة، وإذا وُجدت في المتجتمع فالمجتمع ينبض بالحياة. وقديمًا وُجدت هذه المعاني في المدارس الإسلاميّة كأحسنِ ما تكون، فشعرت بالحياة، وأشعرت العبادَ والبلاد بحياتها، ضربت بمعولها في جميع الساحات التي لها صلة بالدين الإسلاميّ أو حياة المسلمين فكان لها دور أيُّ دور في الحفاظ على الشخصيّة الإسلاميّة المخوف عليها من داخل الصفوف وخارجها، ونشر التعاليم الإسلاميّة الصحيحة النقيّة من الشوائب في هذه الديار العريقة في الوثنيّة، وكان لها دور قيادي وريادي في تحرير البلاد عن براثن الاستعمار الإنجليزيّ الغاشم، وكانت هناك حركة الدعوة والإصلاح الواسعة النطاق، وحركة مستمرة لقمع الفتن التي ثارت في وجه الإسلام واستفحلت، مما يزيد الموقف خطورة أن هذه الإنجازات رغم ضخامتها وتشعُّبِها وتعدُّد مناحيها تمت كأحسن ما تكون بدون إمكانيات تُذكر وفي حالة عدم الاستقرار وانتشار الفوضى التي عمّت البلاد من أقصاها إلى أقصاها.

     هذه الإنجازات الهائلة والعمليات الجليلة والخدمات الجسيمة التي قامت بها المدارس الإسلاميّة في مدة وجيزة وفي حالة إعواز الإمكانيات والوسائل اللائقة والشخصيات العاملة وشح الموارد الماليّة إنّما تأتّت منها بفضل علمائها المخلصين القائمين عليها والعاملين بها الغيورين على حوزة الإسلام الذين شعروا بمكانتهم العظيمة في المجتمع البشري، واستشعروا المسؤولية الجليلة تجاه الأمّة التي ترد على كواهلهم بحكم تواجدهم في تلك المكانة، أما المكانة التي تحدثنا عنها فهي مكانة «وراثة الأنبياء» التي أبان عنها صلى الله عليه وسلم قائلاً:

     «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (رواه أحمد والترمذي وأبوداؤد، مشكاة، كتاب العلم ص:34)

     وهذه المكانة الجليلة تمنح من يحظى بها نوعًا من الامتياز في المجتمع البشريّ، إلاّ أنّ هذا الامتياز ليس لأجل انتماء والعرق والدم الذي يستوجب التمييز في الحقوق والواجبات العامة، فهو بالأرستقراطيّة أشبه ولا يتفق وطبيعةَ الإسلام؛ وإنّما هو امتياز يستوجب التمييز في الفضل والكرامة للفائزين به بحكم تضخّم مسؤوليتهم وخطورة مهمتهم وجلالة هدفهم، ويتّحدث صلى الله عليه وسلمعن هذا الامتياز وما يستتبع من الفضل والكرامة فيقول:

     «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليُصَّلون على معلِّم الناس الخير». (رواه الترمذي، مشكاة، كتاب العلم ص:34).

     وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإن العالم يستغفر له من في السماوات والأرض والحيتان في جوف الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب». (رواه أحمد، والترمذي وأبوداؤد، مشكاة كتاب العلم ص:34).

     وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي» (رواه البخاري، ومسلم، مشكاة، كتاب العلم ص:34).

     وعن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه» (رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن رقم:4836).

     وقد تَمثّل هذا الامتياز في قوله تعالىٰ في أوضح صورة فقد قال جلَّ وعلا:

     «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لَا يَعْلَمُوْنَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ اُولُوْا الْاَلْبَابِ» (سورة زمر الآية:9)

     كما أنّ هذه المكانة الساميّة تُحل الفائزين بها في محل الفضل والكرامة والإجلال فهي تنيط بهم مسؤوليّة كبرى وهي مسؤولية أداء المهمة النبويّة الجليلة التي تمثلت في قوله جلّ وعلا:

     «هُوَ الَّذِيْ بَعَثَ فِيْ الأُمِّيِّيْنَ رَسُوْلاً مِنْهُمْ يَتْلُوْا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيْهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوْا مِنْ قَبْلُ لَفِيْ ضَلاَلٍ مُّبِيْنٍ» (سورة الجمعة الآية:4)

     وفي قوله تعالىٰ:

     «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ اُمَّةٌ يَدْعُوْنَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُؤلٰئكَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ» (سورة آل عمران الآية 104).

     فالشعور بالمكانة ومالها من عظمة وقداسة وإجلال وما حُفَّ بها من فضل وكرامة، والشعور بخطورة تبعة المسؤوليّة وما أنيط من سعادة بشريّة؛ استثار من همم العلماء وعزمهم، وستحثّ فيهم روح الجد المصابرة لتحقيق الغاية المنشودة، والتضحية والتفاني لأداء المهمة الربانيّة الجليلة، وانطلاقًا من هذا الشعور النبيل تحرَّكوا لتعليم الكتاب والسنة ونشر العلوم الدينيّة، ونشطوا لتزكية القلوب وإصلاح الباطن من رذائل الأخلاق؛ لأنهم اعتبروا ذلك من وظيفتهم بصفة كونهم ورثة الأنبياء. ونهضوا لنشر دعوة الحق والخير والجمال وتبليغ الرسالة السماويّة التي جاءت لإسعاد البشريّة كافةً؛ فإنهم أكثر من يتّجه إليهم خطابُ الرسول؛ «ألا فليبلِّغ الشاهدُ الغائب» و«بَلِّغوا عني ولو آيةً». وتحمّسوا للذوذ عن حوزة الدين والدفاع عنه، وشمّروا عن ساعد الجد لقمع الفتن والأباطيل التي هدّدت الإسلام؛ لأنهم أبناء الإسلام بحكم وراثة الأنبياء، ومن واجبهم أن يغاروا على الدين غيرة الابن الأبيّ الغيّور على حمى أبيه.

     واتخذ هؤلاء لأداء هذه الفعاليّات والنشاطات المكثفة المتصلة نظامًا هائلاً كان خير نتاج لفكرتهم الخصبة، وقام هذا النظام المبتكر – بكثير اعتباراته – على التبرعات الشعبية، ولم يعتمد على تمويلات حكوميّة حتى تكون للحكومة فيه تدخّلات يضطر النظام للخضوع لها ولو على حساب بعض أهدافه، وعُرِف هذا النظامُ الجديد بـ«المدارس الإسلاميّة» التي اتُّخِذت معاهدَ لتعليم الدين الإسلاميّ والعقائد الصحيحة النقيّة من الشوائب وتربية النشء الإسلاميّ تربيةً إسلاميةً صرفةً بين أمواج الثقافة الوطنيّة الوثنيّة وتيّار المدنيّة الغربية الملحده، كما اتُّخِذت مراكزَ لقمع الفتن المتولّدة من بطن الدسائس الإنجليزيّة الخبيثة قامت بتوجيه البعثات والوفود للإغارة على وكر الباطل في عقر داره، بجانب القيام بمهملة الدعوة والتبليغ وتوجيه الغزال الهائم على وجهه إلى وجهة الحرم – على حد تعبير محمد إقبال الشاعر – ، إلى جانب اتخاذها – المدارس – منطلقات لشن الغارات على الحكومة الإنجليزيّة إذا خيف على الدين الإسلامي من قبلها. فكانت المدارس الإسلاميّة دوحةً ظليلةً باسقة القوام تقي الأمةَ المسلمةَ من لوافح الحر وهواجره في يومها القائظ القاسي؛ أو كانت بمثابة الينبوع المتفجّر الثر الذي لاينضب معينه والذي تخرج منه الجداول والأنهار وتذهب في اتجاهها طرائق قددًا ومناحي مختلفة تُروي زرع القلوب؛ أو بمثابة قلب قويّ خفّاق في جسم الأمة الإسلاميّة يمُدُّها كل حين بدم جديد طازج ويحافظ على حيويّة الجسم ونشاطه، ومصدر هذه الحركة الشريفة المتمثلة في خفقان القلب ذلك الشعور النبيل الذي سرى في العلماء سريانَ الروح في الجسم والذي جعلهم على أحر من الجمر: الشعور بعظمة المكانة التي تم إحلالهم فيها بإذن الله، وبعظمة المسؤولية والمهمَّة التي نيطت بهم لكونهم يشغلون ذلك المنصِب الجليل. وكل ذلك أحدث في حياة المدارس الإسلاميّة الحركة الدائبة، والنشاط المتصل، والسعي المثمر المستمر، والجد الفاعل، والاندفاع إلى الأمام، والتصاعد إلى العلى، والاجتهاد البالغ الذي يعصر دم الكبد القاني ويجعل اليابس مخضرًّا والعود المقطوع مثمرًا، وبسبب ذلك كانت للمدارس الإسلاميّة ثقة وثقل ونفوذ، وكانت قوة تُحترم وتُهاب، كان صوتها محفيًا به لدى الحكَّام وولاة الأمور، ونداؤها كان يجد آذانًا صاغيةً عند الشعب وكانت لها شعبية أيّ شعبيّة.

     إلا أنه بمرور الأيام ضَعُف هذا الشعور النبيل لدى المدارس الإسلاميّة وعلمائها الذي أمدّها بالحياة والحيويّة والحرارة، وبالقوة المعنويّة العجيبة التي جعلتها تندفع إلى الأمام، فتضاءلت الأهداف الساميّة، وفي كثير من الأحيان عاشت المدارس في غياب عنها، وأخذت المطامع الدنيويّة تتسرَّبُ إلى الأغراض الدينيّة الساميّة، مصحوبةً بالانحطاط في الأخلاق والعادات والسلوكيات، ورغب أهلها في عيشة الدعة والتبطل والراحة، وانصرف بعض القائمين على المدارس الإسلاميّة إلى تأمين المستقبل الاقتصادي أكثر من تأمين المستقبل الديني، وما كان يعيبهم ذلك إذا أعطوا الجانب الديني حقّه؛ فإن العلماء مهما كانوا فإنهم ليسوا كائنًا سماويًا لايحتاج إلى مال لتغطية حاجيَّاته، كما اتَّبعوا المنهاج الذي وضعه السلف في دقة وتصلب، ووقفوا منه موقف المحافظين أو موقف المحامي النشيط في الدفاع، وكان يحسن بهم أن يقفوا منه موقف المتبع الواعي المتبصر بالأمور، فيحافظوا على الجوهر والمبادئ، ثم يُدخلوا عليه التعديلات والإصلاحات كما تتطلبه الأوضاع وتدعو إليه الحاجة، فإن الدهر يتقلّب فتتغيّر المتطلّبات والحاجات وتتغيّر الطبائع والنفسيّات، ففي سالف الزمان كان التعليم يتم في الجوامع والمساجد، ولم يكن خاضعًا للنظام فلم يكن له المقرّرات ولا تحديد الصفوف والدرجات، وكان هذا المنهج مفيدًا بالنسبة لزمانه، ثم تقدم الزمان ولم يعد المنهج القديم مفيدًا فأُنشئت المدارس والجامعات، وهؤلاء سلفنا كانوا يتعلمون جميع العلوم معًا فيتقنون جميعها، ثم كثرت الهموم وضعفت المواهب، وسُلِبت الطبائعُ هوى الجد والصبر، فأُنشئت التخصُّصات، لكل علم تخصصٌ على حدة. وهذا عين شأن المنهج الذي وضعه سلفنا فإنه كان كفؤًا بالنسبة للزمن الذي وُضع فيه، والدليل على هذا أنه قد خرَّج أجيالاً من العلماء الأكفاء الذين بهروا العيون واستوقفوا الناس للإعجاب والتقدير لهم، وقاموا بالقيادة الدينية في عزم وحزم وثقة؛ بل وزاحموا كبار الرجال خارج نطاقهم في السياسة ومجالات الإنسانية العامة. ثم تغير الزمن واختلفت الطبائع، فعاد المنهج لايُسدّد حاجة المدارس الإسلامية إلى العلماء المتقنين الأكفاء فضلاً عن حاجة العباد والبلاد إليهم.

     هذا، وأكبر العنصر في المدارس الإسلامية وأكثرها خطورةً – وهو الطلبة – أسوأ حالاً من أي عنصر آخر وأكثرها باعثًا على الرثاء، فقديمًا كان طلَّاب المدارس الإسلامية هممهم بعيدةً وآمالهم في إصلاح المجتمع وتجنيبه من الخرافات واسعةً، ومن ثَمَّ كانت حياتهم تتمتع بالجد والجهد المتصل في هدوء. كانوا ينقطعون إلى الدراسة انقطاعًا تامًا، ولايركضون في كل مجالٍ، وكانوا يستسيغون ما يقرؤون ويعوون ما يسمعون ويتلقَّفون، ويستحلون المعاناة في سبيل العلم ويصبرون على ما يلقون من العذاب والأذى؛ فكانوا يخرجون أكفاء ومؤهَّلين يُسخّرون القلوب لطاعتهم ويملؤون والقلوب في كل نادي.

     أما اليوم فطلاب المدارس الإسلامية أكثر الناس فراراً من العكوف على الدراسة والصبر على المطالعة والمداومة على المدارسة والمذاكرة، شديدو التحاشي عن المشاركة في البرامج العلمية والثقافية، أكثر الناس تسارعًا فيما لايعنيهم من الأعمال، يضيّعون فُرَصهم ونقودهم – التي أرسلها إليهم أولياؤهم على حساب بعض حاجياتهم الضرورية – في المكالمة الهاتفية الطويلة، وإرسال الرسائل المضحكات، ومشاهدة الكوميديات (المسرحيات الفكاهية) على شاشة الجوال. كسالى متواكلون، ينقص حياتَهم الجدُ والنشاط والهدف، نظامهم فوضى وقلوبهم شتى، يركضون في كل مجال فلايُحسنون أي صناعة، يعيشون في حالة فقد الشعور بمكانتهم السامية، ولايتمتعون بروح وثّابة تدفعهم إلى الأمام، كما لايتقدمون في درب التعلم بعد كسب الكفاءات المطلوبة؛ وإنما يتقدمون في الغالب بحكم النظام الذي تسلمهم منه درجة إلى أخرى، وهي إلى التي تليها وهكذا دواليك، حتى يتخرجون ويُسمَّون «علماء» علماء لايعلمون عن دنياهم التي عاشوها؛ لإنهم فعلوا كل شيء فيها إلا التعلم، ولا يعلمون عن دنيا الناس؛ لأنهم لم يلجوا حماها.

     والآن هؤلاء الطلاب في أمسِّ حاجة إلى تصحيح النية، وتحديد الأهداف، وتجديد العزم، وتغيير مسار الحياة، وتعرُّفِ المسؤولية التي ترد عليهم من قبل الدين والأمة، والشعورِ بالمكانة التي هم فيها وما حُفّ بها من فضائل ومنها ماورد في الحديث:

     قال أبوالدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طـرق الجنـــة، وأن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العالم» (رواه أحمد والترمذي وأبوداؤد وغيرهم، مشكاة كتاب العلم ص34).

     وعن أنسٍ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع» (رواه الترمذي والدارمي، مشكاة كتاب العلم ص34).

     وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نضّر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها وواعاها وأدّاها» الخ (رواه الترمذي والدارمي، مشكاة كتاب العلم ص 35)

     وعن الحسن مرسلاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليُحيي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة» (رواه الدارمي، مشكاة ص 36).

     عن واثلة بن الأسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من طلب العلم فأدركه كان له كفلان من الأجر فإن لم يدركه كان له كفل من الأجر» (رواه الدارمي، مشكاة ص36).

     وليس هناك أكبر باعث من هذه الفضائل يبعث الطالب على العمل وإسداء الجهد في طلب العلم، وهذا الأسلوب يتّبعه رجال الدعوة في حمل أتباعهم على تقديم أكبر التضحيات، كما أنه الطريق الإلهي في توجيه الناس إلى العمل والإنابة إلى حياة الآخرة، وهو أيسر طريق وأكثرها نفعًا. كما أن الحاجة ماسَّة إلى وضع نظام يتم من خلاله العمل على عقد الاجتماعات في فترات متقاربة لإشعار الطلاب أهدافَهم ومكانتهم وغرسِ حب العلم والفضيلة في جناب قلوبهم وذكرِ ما لهم من فضائل إذا سدّدوا خُطاهم ومالهم من وعيدٍ إذا ضل بهم اتجاهُهم. كما ينبغي أن تكون هناك سلسلةٌ من المحاضرات المفيدة تقوم بها الشخصيات البارزة العاملة في مجالات العلم والدعوة والإصلاح على دعوة من مسؤولي المدارس الإسلامية؛ فإن الإنسان مهما كان جديًّا شاعرًا بالمسؤولية، فإنه يعتريه الكسل والغفلة، وهو دائمًا في حاجة إلى التشجيع والتحريص وتجديد النشاط والعزم.

     ومجمل القول إنّ المدارس الإسلامية أساتذةً وطلابًا ومسؤولين في أمسِّ حاجة إلى أن يكونوا في مستوى سلفهم الصالح في المعنويّات والسلوكيات والعلاقة مع الله، وحياة الإنابة والتقوى، وأخيرًا وقبل كل شيء في الشعور القويّ الدائم بمنصبهم ومكانتهم ومسؤوليتهم ممّا يدفع عجلتهم إلى الأمام، ويُسعدهم في الدنيا والآخرة، ويعيد إلى المدارس خيريّتها الأولىٰ.

     وبعد فأرى من الضروري أن أقول: إن الصورة التي قدمتها للمدارس الإسلامية لاتعكس جميع المدارس الإسلامية؛ وإنما تعكس أغلبيتها؛ فإن من المدارس ما تصدر في أداء واجباتها عن الشعور بالمسؤولية، كما أن من القائمين عليها والعاملين بها مِن العلماء مَن ينهض بعبء المسؤولية ويقوم بها خير قيام، ويؤدي دورًا مشكورًا يستوقفنا للإعجاب والتقدير، كما أن من بين طلابها من يسير في اتجاه سديد، ويوظف وقته فيما يعود عليه وعلى الأمة بالخير. هذا، وثم لا بد لي أن أؤكد أن نيتي من كتابة هذه السطور ليست مساهمةً في انتقاد المدارس الإسلامية مع كثيرين لايُحسنون إلا صناعة الانتقاد، أو التشفي من الغضب على نظامها؛ فإن للمدارس في أعناقنا منه كبيرة، ولها الفضل فيما نعرفه من الحرف والكلمة، وفيما نرى اليوم من الحياة الإسلامية في المسلمين في هذه الديار العريقة في الوثنية المحكومة من الهندوس الوثنيّين المتعصبين الحانقين على الإسلام؛ وإنما بغيت الإصلاح وتحرَّيت الصواب. «اِنْ اُرِيْدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوفِيْقِي إِلاَّ باللهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ اُنِيْبُ» (سورة هود، الآية: 88)

ذوالحجة 1431 هـ = نوفمبر- ديسمبر 2010م ، العدد :12 ، السنة : 34

 

(*) أستاذ بالجامعة القاسمية مدرسة شاهي بمدينة “مراد آباد” الهند.

(المصدر: مجلة دار العلوم ديوبند)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى