الحداثة في طورها العربي ترفض ثبات النموذج أو مثاليته، وتشتغل بالبحث عن كل جديد، معتقدة التضاد بين النص والواقع، وتحاول إيجاد تبرير لحالة الفوضى التي تتسم بها التجربة الآنية، ومن هنا جاء التقابل بين اللحظة العابرة والقانون الثابت الذي يتحكم بها ويمنحها نظاما مستقرا أبديا، فاختلقت الحداثة صراعا مفتعلا بين الواقع والقيم، والثابت والمتحول.
ولم تقف به عند الحدود الأدبية والفلسفة النظرية، بل مارسته في جميع شؤون الحياة مما جعلها تستهدف الدين بالقراءة التأويلية التي تهدف إلى نفي الأصول واعتبارها عوائق أمام التقدم الحضاري؛ فكانت المحكمات الشرعية وقواعد التفسير هي العقدة العلمية التي تحبط المشروع الحداثي، فاستهدفها الحداثيون بالتشكيك والنفي، وربطوها بالتخلف والسيطرة على العقل وتقييده، كما ربطوا بين تركها وبين التقدم الحضاري والتقني.
ودورنا في هذا المقال أن نقوم بفحص دعوى نفي المحكمات ومن ثم نناقش الدعوى في مستنداتها لنبين الخلل المنهجي الذي بنيت عليه.
نفي المحكمات عند الحداثيين ومبناه: لقد ظهرت أزمة الحداثيين مع النص في التعامل مع المحكمات من خلال منطلقاتهم التي لا تراعي مقصد الشريعة بقدر ما تراعي المناهج التي ترعرعت على أيدي المستشرقين، فأقبلوا على القرآن من موقع ترك العلوم والمعارف والأدوات التي تعد آلة معيارية لفهمه فهما صحيحا، وظنوا أن القواعد التفسيرية هي مجرد وضع وضعه علماء الإسلام مستعملين في ذلك قياس الشبه بين علماء الدين والكنيسة _مع الفوارق_ واعتبروا النص الديني صنعا بشريا تشكل مع الواقع في جميع مراحله([1]) فهو عندهم نص لغوي مرتبط ثقافيا واجتماعيا ببيئته التي نشأ فيها، وليس لقضاياه أي قيمة قدسية أو علمية([2])؛ ولذلك فإن قراءته تتم عبر آليات (العقل التاريخي للإنسان) وليس طبقا لآليات العقل الغيبي الغارق في الخرافة والمنطق الأرسطي([3])؛ وعليه فإنه كما يقول محمد أركون: “لا توجد أصول دائمة وأبدية وإنما هناك أصول متغيرة بتغير العصور، ومن ثم فتأسيس النهائي للحقيقة والعقل شيء مستحيل، لأن الحقيقة أصبحت نسبية، ولم تعد مطلقة وأبدية، كما يتوهم الأصوليون من كل الأنواع والأجناس”([4]).
ويرى جمال البنا أن أهم ما ينبغي التوجه إليه وتغييره هو الثوابت لأنها وإن كانت تحافظ على استقرار المجتمع وتعصمه من الانزلاق؛ إلا أن عدم مناقشتها يجعلها تتجمد وتَتَوَثَّنُ، وتأخذ قداسة المعبود([5])، وأول هذه الثوابت التي ينبغي أن يطالها معول الهدم والتشكيك ــ في نظر هؤلاء ــ هي العقائد فمحمد أركون يرى أن أكبر عائق للعقل العربي أمام الإبداع هو التسليم للعقائد وعدم اعتبارها مجرد قضايا تاريخية([6]).
ومُجمل العمل عند هؤلاء يُقدَّمُ باسم الاجتهاد، ولم يسلم الاجتهاد من لَيِّ مفهومه، فهو يمارس ب “العقل” بعيدا عن النقل الذي هو مبرر مشروعيته، مستخدمين في ذلك ما قدروا عليه من الالتواءات الفكرية، ومسارات التحليل المتعسف، الذي يجعل من النص الديني خلفية احتياطية وثانوية، فإذا تعارض مع العقل رُدَّ وإذا تعارض مع معطيات التاريخ قدم التاريخ عليه، وإذا تعارض مع الواقع ألغي النص.
ويتعاملون مع القرآن بعيدا عن جميع الآليات المختصة به ويدعون أنه ليس بحاجة إلى شيء منها، بل يمكن التعامل معه بمعزل عنها، فهو لا يحتاج إلى شيء إلا إلى الفكر الحداثي لكي يُفْهَمَ في إطاره.
وعند عرض الرؤية الحداثية على الفحص المعرفي نجدها تتسم بالهشاشة، ولا تتفق مع مدلولات النصوص الشرعية فضلا عن كونها معارضة للدلائل العقلية، والشواهد التاريخية.
فالقارئ للمنتج الحداثي يدرك بوضوح أنه لا يمتلك الجدية البحثية في التعامل مع ظاهرة الوحي، ولم يعطها قدرها من النظر والتدقيق، فقد تعامل معها كظاهرة مغمورة في التاريخ الإسلامي، وكأن المسلمين لم يهتموا بها ولا بتفاصيلها وظروفها، وأن الأدوات المعرفية لفهمها لم تكن محل تمحيص وتدقيق من طرف نظار المسلمين، بل يكفي أن يتكلم المهتم بالعلوم القرآنية بالكلمة فتكون قاعدة عند المختصين، وتؤخذ على أنها مسلمة.
وللتدليل على أن هذا الكلام لا يستقيم، فلنأخذ مفهوم المحكمات ونعرضه على الميزان، فهل كان مفهوم المحكمات وضعا من العلماء أو اصطلاحا خاصا بهم؟ أم كان منهجا وجد مع القرآن؟
الذي يقرأ القرآن يجد لفظ المحكمات حاضرا في أوائل السور وفي ثناياها، ويُقَدَّمُ على أنه معيار في التفسير يُرَدُّ إليه المشكل ليتضح معناه، فاللفظ كمعيار من الناحية التاريخية سابق للتدوين وسابق للعلوم، فهو ميزة للقرآن وجمالية تجعله منفردا عن غيره قال تعالى:{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب} [سورة آل عمران:7].
فالمحكمات من خلال النص بعيدا عن أي تفسير هي المرجع، وهي الأساس فلا تتغير ولا تتبدل، وغيرها متشابه يُعَدُّ اتباعه ضلالا، ونقصا في العقل وسعيا للفتنة، وهذه المحكمات لها ميزة وهي أنها معظم الكتاب وأغلبه، وعلى هذا حملها جميع المفسرين ولم يختلفوا في معناها المتبادر إلى الذهن عند قراءتها([7]).
ونجد أن القرآن لم يقف عند لفظ المحكمات بل يزيد وصفا آخر وهو التفصيل، وهو وصف زائد على الإحكام، ليبين أن القرآن لا بد أن يكون مرجعا وأساسا فيما تكلم فيه وأن هذا التفصيل ذاتي للقرآن وليس من عند البشر {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير} [سورة هود:1]. وهذا التفصل المذكور بعد الإحكام يراد به تفصيل الحلال والحرام والوعد والوعيد([8]).
ونجد آيات أخرى تتحدث عن أوصاف القرآن وأن من أهمها البيان {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} [سورة النور:34]. والبيان إظهار المقصود بأبلغ لفظ([9]) {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُون} [سورة العنكبوت:49]. فكان هذا البيان الذي وصف به القرآن هو المعول عليه عند العلماء في معرفة الحق، ولمعرفة أن النظرة الحداثية لا تستقيم مع ذات الوحي بل هي بسيطة في مضمونها ساذجة في نتيجتها لك أن تنظر في مقصود القرآن من التشريع فإنه يتمحور حول حسم الخلاف، وتبيين الحق وهذا لا يتأتى مع القراءة اللامتناهية للمعاني، والتي تجعل النص مفتوحا ومتغيرا ليس له ثابت ولا كلي يتحاكم إليه، والله عز وجل يقول{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [سورة النحل:64].
فالنص القرآني ليس مفتوحا بهذه الدرجة بل هو مُبَيِّنٌ للصواب من الخطأ كما تقرر الآية، وحاكم ومهيمن كما وصفته بعض الآيات الأخرى، فالشريعة بهذا المعنى موضوعة للإفهام وهذا الإفهام يلزم منه أمور:
أولها: عربية القرآن: فالقرآن نزل بلسان عربي فهو على معهود العرب في خطابهم وألفاظهم، فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب، فكما لا يمكن فهم لسان العجم عن طريق لسان العرب لاختلاف الأساليب، فكذلك لا يمكن فهم لسان العرب عن طريق أساليب العجم لاختلاف الأوضاع والأساليب.
ثانيا: خصوصية اللغة العربية: فاللغة العربية لها خصوصيتها في حكاية الأخبار بحسب الخبر والْمــُـخْبِرِ والْمُـخْبَــرِ عنه، والْمُـخْبـَرِ به، ونفس الإخبار، في الحال والمساق، ونوع الأسلوب من الإيضاح، والإخفاء والإيجاز، والإطناب، وغير ذلك([10]) فلا بد من مراعاة كل ذلك أثناء البحث في النصوص ومحاولة الاستنباط منها.
ثالثا: القول بعدم ثبات معانيه وأحكامه يبطل حجيته؛ لأن القرآن رتب الثواب والعقاب على الأعمال والتصديق بالأخبار، فلا يمكن أن يكون التارك للعمل الْمُكذِّبُ للخبر معاقبا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مثابا على نقيض ذلك في هذا الزمن.
والقرآن جرى على أسلوب العرب في خطابهم، فأحيانا يأتي باللفظ الذي لا يحتمل سواه على مر العصور، وهو ما يسميه العلماء بالنص في بعض إطلاقاته مثل قوله:{وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم} [سورة البقرة:163]. ومثله الأخبار التي لا تحتمل إلا معنيين إما الصدق أو الكذب، والكذب مستحيل في حالة القرآن، فالقرآن إذ أخبر بإرسال رسل على مر العصور يبلغون رسالات الله للناس، وأنهم متواترون على معنى واحد للدين، وهو إفراد الله بالعبادة:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} [سورة الأنبياء:25]. فلا يمكن أن يفسر هذا المعنى بغير ما يظهر منه، ولذلك لم يختلف المسلمون على هذا المعنى، ولو أخذنا التفاسير من عهد الصحابة إلى يومنا هذا وجدناها متواترة على هذا المعنى، ومعتبرة أي تفسير يخالفه ضلالا وحَيْدَةً عن المعنى القرآني وابتعادا عن الأسلوب العربي في تقرير الألفاظ.
فمخالفة هذه الأساليب، أو عدم إتقانها يُفْقِدُ الباحث الأهلية العلمية للكلام في أَيِّ فَنٍّ من فنون الشريعة، وهذا ما وقع للحداثيين حين جهلوا أساليب اللغة وَطُرُقَهَا في الخطاب، ولم يُكَلِّفُوا أنفسهم عناء البحث، بل تجاوزوا الموضوع، فتناولوا الشريعة بآليات أجنبية عليها؛ ليتفقوا مع الرؤية الاستشراقية في النتائج والمنطلقات، ومن العجيب أن يربط بعضهم التقدم بترك الآليات التفسيرية للدين النابعة من ذاته لِيَسْتَقْدِمَ آليات أخرى دون أن يكلف نفسه أي مسؤولية أخلاقية أو علمية يفحص على أساسها دعواه، فها هي ذي الآليات التقنية تتطور على يد الياباني البوذي المشرك، كما تتطور على يد الروسي الملحد، وبنفس الدرجة تتطور على يد المسلم الباكستاني والإندونيسي، مما يدل على أن هذه التقنيات الحضارية لا تحمل ولاء لأحد، وليست طوعا لأي فكرة، وإنما هي تابعة للسنن الكونية التي لا تحابي أحدا، ولكنَّ النَّفَسَ الاستلابي الذي يسود على الطرح الحداثي كان محفزا لهم على هذه التفسيرات التي لم يقيموا عليها أي دليل علمي، بل في أحسن الأحوال يكتفون بالربط الصوري بين حالتي التدين المنحرف في الغرب وحالة الإسلام ليعلنوا البدأ من الصفر في التعامل مع القضايا الكونية وينشروا الحيرة المنهجية التي تنتابهم أثناء تقرير قواعد منهجهم.
فلذا كانت أزمتهم تكمن في قضية الاجتهاد خارج مقاصد النصوص والتعامل معها بآليات أجنبية عليها، هذا مع ما يعترى هذه الآليات من التناقض في نفسها، وكونها لم تكن محل تمحيص ولا تدقيق من واضعيها، فمن هنا جاءت الحيرة والتناقض المنهجي والتضارب الفكري؛ نتيجة لتطبيق آليات فكرية دون استيعابٍ لمسارها التاريخي فينتفي المطلق ليحل محله النسبي والإلهي ليحل محله الإنساني، وسط عملية من الاستهتار بالعقل البشري وإرجاعه للوراء ليعبث بالحقائق المطلقة، ويلغي الشرع، ويبدأ مسارا حائرا لا ينتهي فيه إلا إلى الشك، فالشك وحده هو الحقيقة الثابتة عند الاتجاه الحداثي، وهذه الغاية تكفي العاقل في إدراك بطلان القول في نفسه، فالحكم الذي يتناقض في نفسه لا يمكن أن يعتبر مصيبا مطلقا.
([1]) ينظر: هموم الفكر والوطن لحسن حنفي (1/23).
([2]) ينظر: نقد الخطاب الديني نصر أبو زيد (ص 136).
([3]) ينظر: نقد الخطاب الديني (ص 23).
([4]) معارك من أجل الأنسنة محمد أركون (ص 37).
([5]) الحرية في الإسلام جمال البنا (ص 12).
([6]) الفكر الإسلامي قراءة علمية أركون (ص 15).
([7]) ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/140) وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/320).
([8]) ينظر: تفسير القرآن العزيز لابن أبي زمنين (2/277).
([9]) لسان العرب لابن منظور (13/67).
([10]) ينظر: الموافقات للشاطبي (2/61_62).
(المصدر: مركز سلف للبحوث والدراسات)