المحركات الحقيقيَّة الخَفِيَّة للإلحاد
بقلم عايض بن سعد الدوسري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أي موقفٍ يتخذه الإنسان، ينتقل فيه من توجهٍ لآخر ومن فكرة لنقيضها، فهو يتخذه لسببٍ أو دافعٍ، واضحٍ أو غامضٍ ومبهمٍ. والإلحاد حينما يتم اختياره، من قبلِ شخصٍ ما، بعد الإيمان فهو انتقالٌ من الشيءِ إلى نقيضه وضده، لا يكون بلا دافعٍ أو سبب محركٍ ونقلٍ لذلك التحول.
ومن أهم الأمور، التي يجب أن يدركها الأب والأم والمربي والمتصدي لحوار الشباب والفتيات من الذين طرأت عليهم أفكار الإلحاد أو الشك، هو معرفة المحركات الحقيقيَّة للإلحاد، فمنها ما هو خَفِيٌّ مُسْتَتِرٌ ومنها ما هو مُصرَّحٌ به ومُعلن. تكون بمثابة الجبل، عشره في الظاهر وتسعة أعشاره في باطن الأرض.
ويُمكن هنا أن نُعيد محركات الإلحاد الحقيقيَّة إلى ما يلي:
أولاً: المحرك النفسي:
وهو ما سنركز عليه في هذا المقام، وهو محركٌ خفيٌ، لا يُصرح به الملحدُ عادةً، وهو ينبع من تجارب مؤلمة وقاسية تعرض لها هذا الإنسان في صغره أو في مرحلة مبكرة من حياته، وأصبحت تلقي بظلالها على بقية حياته، مع توفر محفزات أخرى كفرط الحساسية ونحوها. وهذا المحرك من المحراكات الخَفيَّة.
وهذا لا يعني أن كل من مرَّ بتجارب شخصيَّة قاسية ومؤلمة سيقوده ذلك للإلحاد، بل قد تقود البعض من هؤلاء للإيمان، أو قد لا تؤثر بشكلٍ جذريٍ في البعض الآخر، مع ندرة ذلك، إذ هي مرتبطة –مع شدتها وقساوتها- بهشاشة وحساسية النفس التي وقع عليها ذلك الألم وتلك القسوة، وضعف الإيمان وعاطفة السخط.
ثانيًا: المحرك العاطفي:
وهو مُحركٌ مرتبطٌ بشكلٍ محوري بمشكلة وجود الشر في العالم والعدالة الإلهيَّة. والفرق بينه وبين الأول -في الغالب- أن الأول هو تجربة شخصية أخلاقيَّة قاساها الشخص نفسه في مرحلة مبكرة من حياته في العادة، أما الثاني فهو تجربة غير شخصية في العادة، مرئية ومسموعة لوجود الشر في العالم.
ويشترك الأول والثاني في أن النفسية متقاربة، وتتصف بالحساسية المفرطة، والعاطفة الجياشة المفعمة بقدرةٍ قائلةٍ على رؤية الآلام وتحسس المآسي وتذوق الأحزان، والقابلية السريعة على اجتذاب الشكوك الخاصة بقضية العدالة الإلهيَّة. فنظرتهم لمآسي العالم المنظور لديها القدرة على تشكيكهم في إيمانهم وزعزعة يقينهم.
وهذه المحرك الثاني في العادة هو من المحركات الخفيَّة التي لا يُصرح بها الملحد أو المتشكك بشكلٍ واضح وأنها من دوافعه ومحركاته للإلحاد. لكن يسهل اكتشافه بشكلٍ سريعٍ من خلال كلامه عن الآلام والشرور، والحكمة منها، والغاية من ورائها، وعلاقتها بالعدالة الإلهية. فهو دائم الطعن والتشكيك في الحكمة الربانيَّة.
ثالثًا: محرك الشهوات والنـزوات:
وهو من المحركات الخفيَّة إلى الإلحاد، والشخص هنا يميل إلى ممارسة الشهوات والانجراف نحو نزواته والتحلل من واجباته الدينية ومسؤولياته. وغالبًا ما كان هذا الشخص يعيش سابقًا موقفًا متناقضًا بين قناعته الإيمانية وبين ممارساته الحياتية، ينغص حياته. وكان هذا التناقض يُمثل له أكبر عائقٍ كما أنه يُنغص حياته فإنه يسبب له وخزات ولسعات في الضمير تجاه تحلله الأخلاقي، ولذلك يختار الإلحاد لفك هذا التناقض ولإخماد وإيقاف تلك اللسعات والوخزات التي تذكره بما بقي من إيمان في قلبه.
رابعًا: محرك الشبهات العقليَّة:
وهذا غالبًا من المحركات المُعلنة بعد استقرار الإلحاد، وإن كانت مخفيَّة قبل ذلك أو تظهر على شكلِ أسئلة حيرة وشك متتابعة ومتزايدة.
ويحسن التنبيه هنا إلى أن هذه المحركات الأربعة، وغيرها مما سنتحدث عنه بإذن الله لاحقًا، لا توجد غالبًا في إنسانٍ منفردة بشكلٍ خالصٍ، بل قد توجد كلها أو بعضها، فالظاهرة الإنسانية معقدة ومتداخلة جدًا. لكن الفرق هو أن هناك محركٌ أساس ومحركات تابعة ومسوغة للبقيَّة.
وإدراك الفرق بين هذه المحركات من الأهمية بمكان، فإذا لم تكتشف المحرك الأساس فيمن تحاوره من الملحدين فأنت كما يصارع طواحين الرياح، ومهما بذلت من جهدٍ علميٍ مع من محركه الأساس إلى الإلحاد هو المحرك النفسي أو العاطفي أو الشهوات فأنت تهدر طاقة هائلة بلا فائدة ولا محصل من ورائها.
ولأنَّ الموضوع أطول وأعمق من أن يتم تناوله بشكلٍ وافٍ ومستفيضٍ هنا، لذا سوف أتعرض بإذن الله بالحديث الموجز فقط للمحرك الأول وهو المحرك النفسي، لأهميته ولخفائه على كثيرٍ من الآباء والأمهات والمربين والمحاورين، إذ معرفته هو قطب الرحى وحجر الزاوية في التعامل مع حالة الإلحاد الملتبسة به.
المحرك النفسي، كما قيل سابقًا، وهو محركٌ خفيٌ، لا يُصرح به الملحدون عادةً، وهو ينجم من تجربة مؤلمة وقاسية يتعرض لها الإنسان في مرحلة مبكرة من حياته، وتلقي بظلالها عليه. وهي غالبًا تتعلق بالمشكلة الأخلاقيَّة.
ولحساسيَّة هذا الموضوع في العالم العربي والإسلامي؛ ستكون معالجة هذا الجانب من خلال الحديث عن بعض النماذج الغربية لأنها نماذج مُعلنة وقد صرح أصحابها وكُتَّاب سيرهم عن هذه الدوافع النفسيَّة.
مع العلم فإنَّه فيما يخص العالم العربي فإنَّ القصص التي تم الوقوف عليها من خلال حوارات بعض المهتمين مع الملحدين أو تصريح بعضهم تُشير إلى وجود هذا المحرك وحضوره. فمثلاً: أحد الشباب الملحدين العرب المشهورين كتاب رواية تمثل قصته، حكا فيها تفاصيل تعرضه لحادثة اغتصاب في طفولته قادته للكفر بالله تعالى.
المحرك النفسي محركٌ قد ينتج من عدة أشياء، قد ينتج من فقد الطفل لأبيه الحبيب مثلاً، أو على النقيض من وجود أبيه الشرير، أو من تعرض الطفل للاضطهاد والمهانة الشديدة، أو من تعرضه للاغتصاب، أو لعيشه في وسطٍ منحلٍ أخلاقيًا، وكل واحدة منها لها مثال من حياة أحد الملحدين، تقود الإنسان للانتقام –بزعمه- من الإيمان!
وقد خصَّصَ البروفيسور (بول فيتز) عالم النفسي الغربي، الذي كان مُلحدًا ثم آمن بوجود الله، كتابه (نفسية الإلحاد) لاستعراض أسماء كثيرٍ من الملحدين الغربيين، وجود محرك النفسي لديهم يتمثل في علاقتهم بالأب وفقده. يحس الرجوع إليه، وقد ترجم إلى العربية.
في مقابلة تلفزيونية مع فتاة قال إنها ألحدت وأصبحت شاذة جنسيًا وتكره وتمقت الرجال كثيرًا؛ لأنها تعرضت للاغتصاب وهي طفلة صغيرة من جدها لأبيها المصاب بالخرف، وأنَّ والدها بعد أن اختبرته لم يفعل شيئًا وإنما طلاب منها أن تلتزم الصمت، مما ولد لديها عقدة نفسية ومن ثم ردة فعلٍ معاكسة!
فتاة أخرى تترك التدين والالتزام وتلحد في بداية العشرينات بسبب تعرضها لاغتصابٍ في طفولتها من أحد محارمها، ولم يستيقظ ذلك الانتقام إلا في ذلك العمر. وفتاة أخرى تترك الدين، مع أنها كانت متدينة، بسبب تعرضها للاضطهاد والظلم من زوجها، مما سبب لها كرهًا له وللتدين ومن ثم للدين! وشاب في العشرينات يلحد لأنَّ والده، الذي يظهر بمظهر المتدين، كان في غاية القسوة والغلظة، وكان يُمثل نموذج المتدين الزائف الفاسد، فانتقل الابن من كراهية والده “المتدين” إلى كراهية الدين نفسه، وانتهى به المطاف إلى الإلحاد.
يحكي رجل الدين (إيد بولكلي) قصة فتاة غربية كانت فائقة الجمال اسمها (أنيت بيرسون)، أتت إلى قس غربي اسمه (كليفورد تشيس)، الذي لم يخف ارتباكه وإعجابه بجمال تلك الفتاة التي وقفت أمامه وهي تحمل همومًا أثقلتها كالجبال العظيمة، قائلة: كيف يُمكن لله أن يساعدني؟!
ثم قالت الفتاة: لا أحد يفهم ما حدث لي وأنا طفلة يؤثر عليّ. لقد تحرش والدي بي جنسيًا منذ أن كان عمري ثمان سنوات حتى أتممت الرابعة عشر. وعندها فقط جاءتني الشجاعة لأخبر أمي، لكنها لم تصدقني ونعتتني بالكاذبة الدنيئة وصفعتني بشدة.
وتقول: “عندما لاحظت إحدى المعلمات الكدمات في وجهي سألتني عن سببها، فبدأت أبكي وأخبرتها بما يفعله أبي معي. فقدمت المعلمة تقريرًا للخدمات الاجتماعية ووضعوني في ملجأ للرعاية. وكانوا ينقلونني من ملجأ إلى ملجأ، وخلال هذا التنقل تم اغتصابي ست مرات من قبل الرجال في هذه الملاجىء”.
لتنتهي قصة تلك الفتاة مع ذلك القس بنهاية مأساوية بعد أن عجز أن يجيبها عن أسئلتها عن ما حصل لها في طفولتها. ومثل هذه القصة وما يشابهها تتكرر كثيرًا في حكايات الملحدين والملبدات في الغرب، حيث تنتهي قصة مؤلمة في طفولتهم بالكفر بالله والإلحاد.
ومن أشهر الملحدين في الغرب (آرثر شوبنهاور) المعروف باسم فيلسوف التشاؤم، فبجوار إلحاده وكفره بالله تعالى، نجده شديد التشاؤم والقنوط، وكذلك موقفه شديد الكراهية والاحتقار للمرأة، يصفها بصفات رديئة، مثل قوله: “ينبغي تدمير المرأة”، “أكرههنّ”، “خُلقت المرأة لتنبذ”، “النساء أعداء الفطرة”…إلخ
ولعل مما يُفسر هذه الكراهيَّة، أنه كان يحب والده كثيرًا وكان متعلقًا به، وفي مراهقته سقط والده من أعلى السطح في محاولة للانتحار، وترك فيه إعاقة. وكانت والدته عديمة الاهتمام بهما، بكل كانت مشغولة بفساتينها وعشّاقها ولياليها الحمراء، مهملة زوجها المسكين الوحيد وابنها الصغير!
يقول آرثر شوبنهاور: “كانت أمي تقيم السهرات في المنـزل، فيما كان والدي غارقًا في الوحدة، وكانت تتسلى فيما هو يقاوم المعاناة غير المحتملة”. ولما مات والده ترك ذلك أثرًا عميقًا في نفسه وولد انتقامًا من أمه وكرهًا للعالم ومن فيه، ولد في نفسيته التشاؤم الأسود والإلحاد.
هناك أيضًا آرثر رامبو، كاتب وأديب غربي شاب مشهور، شهدت حياته في البداية طفولة في أسرة هادئة، وأمًا مؤمنة قوية الشكيمة حريصة عليه، مسئولة عنه، وتخاف من كل شيء عليه. كان آرثر رامبو طفلاً جميلاً، حسن السلوك، تلميذًا ممتازًا في المدرسة، مطيعًا، مثقفًا، تنبأ أساتذته بأنه سيكون إنسانًا عظيمًا!
تغيرت حياة آرثر رامبو، الطفل الجميل المهذب، رأسًا على عقب حينما حاول أن يخرج من حياة أمه ليتعرف على العالم الخارجي، فغادر بلدة وذهب لباريس مع ضعف خبرة وقلة حيلة وهو في عمر الخامسة عشر. وفي باريس تشرد لمدة أسبوعين بلاد نقود، مما اضطره لقضاء ليلة في ثكنة جنودٍ فرنسيين.
هذه الليلة بالنسبة له كانت مفصليَّة وجذرية، تحول فيها من آرثر رامبو الطفل الوسيم والتلميذ المهذب صاحب المستقبل العظيم إلى مخلوقٍ مختلفٍ مشوهة النفسية. حيث تعرض لاغتصابٍ قهري جماعي من جنود الجيش في تلك الثكنة، وذاق الأمرين على يد الجنود الذين استغلوه جنسيًا، فكتب عن تلك الليلة قصيدته (القلب الطائر)!
تحول آرثر رامبو بعد تلك الفاجعة إلى مشردٍ بنام في الشوارع ويأكل من الزبائل، يمتنع أن يحلق شعره، وكفر بالله وألحد، وأخذ يهاجم الكنيسة والدين، وأخذ يبحث في كتب السحر الشيطانية، وبدأ تلوح له فكرة عبادة الشيطان، ثم أصبح في نهاية المطاف شاذًا جنسيًا (مخنثًا) وملحدًا بل داعية إلى الإلحاد، استطاع أن يقنع عدة أشخاص بالكفر بالله!
إنَّ الداعية أو المربي أو المفكر الذي سيتعامل مع هؤلاء الشباب والشابات الذين ألحدوا، ودوافع ومحركات إلحادهم نفسيَّة مخفيَّة، بالحجج العقلية والبراهين العلمية يخطئ الطريق ويبعد النجعة كثيرًا، وسيبذل جهوده المخلصة وسيفاجئ أنها ستذهب ضياعًا وهدرًا، وأنه كلما تقدم خطوة معهم رجع خطواتٍ وكأنه وهو يدورون في حلقة مفرغة. لأنَّ مشكلة هؤلاء ليس علميَّة ولا عقليَّة، بل نفسية بالدرجة الأولى، وإشكالاتهم العلميَّة وشبهاتهم ليست إلا قناعًا ظاهريًا. وكما تقول أنيت بيرسون: “إنهم يحاولون علاجي عن طريق تغيير أفكار الرأس، بينما المشكلة في قلبي“.
وبالفعل، فإنك مهما حاولت أن تتفلسف بالكلمات أو تستعرض البراهين لتخاطب عقلاً محاولاً تغيير قناعته، ومشكلته تنبع من قلبه، حيث المشاعر العمياء التي لا تتعقل، فإنك بالأخرى ستخسر تلك المحاولات كلها. فالقلوب لا تتحرك بمنطق، والنفوس المحطة لا تستنهضها الجدل العقلي!
في نهاية هذا الحديث المقتضب، أتمنى من كل مربي ومعلم ومحاور ومن كل أبٍ وأم وأخ كبير وأختٍ كبرى، أن ينتبهوا قبل أن يتصدوا بالحوار والنقاش مع حالات الإلحاد التي يصادفونها إلى معرفة وتحديد محرك الإلحاد الحقيقي ما هو، فهذه الخطوة هي أهم خطوة في خطوات العلاج.. وفق الله الجميع لكل ما يحبه ويرضاه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
(المصدر: موقع مداد)