المحاربون لأجل القيمة.. طوبى لهم وحسنُ مآب
بقلم أحمد التلاوي
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [سُورَة “الزُّمَر” – الآية 30].. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [سُورَة “آل عمران” – الآية 144].. “مَن كان يعبد محمَّدًا؛ فإن محمَّدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله؛ فإن اللهَ حيٌّ لا يموت” [أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) بعد ذيوع خبر وفاة الرسول الأكرم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”].
هذه بعض الآيات القرآنية والعبارات التي قيلت في أعظم خلق الله عز وجل؛ الرسول الكريم، محمد “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”.
ولعله من المهم قبل البدء في الوصول إلى الرسائل المراد إيصالها من هذا الحديث، أن نؤكد على أمرَيْن مهمَّيْن تطرحهما عبارة أبي بكر الصديق (رضي اللهُ عنه). الأمر الأول، هو أنها تعكس فهمًا عميقًا لرسالة المسلم في هذه الحياة، وأنها لا ترتبط بأشخاص، حتى بشخص حامل الرسالة نفسه.
الأمر الثاني، أن هذه النظرة أو الفهم العميق، لم تأتِ من فراغ، وإنما نتاج تربية نبوية حرص عليها الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، ويبدو هذا الحرص في أنه قضى من سنين الدعوة 13 عامًا في تربية بضعٍ وسبعين رجلاً وامرأة في مكة المكرمة، أصبحوا بعد أقل من ثلاثة عقود من الزمان، أمة ناهضة، هزمت القوى والإمبراطوريات التي كانت موجودة في ذلك الزمان، كلها.
وتطرح هذه الآيات وعبارة الصديق (رضي اللهُ عنه) الكثير من الدلالات على واقعنا المعاصر الذي يحياه مسلمون كُثْرُ في هذه الآونة، وليست من قبيل الترف أو التناول الفكري.
وهذا الأمر ينطبق أكثر ما ينطبق على حال الحركة الإسلامية، بعد سلسلة الأزمات والهزائم التي تلقتها على المستوى السياسي والمجتمعي في كثير من مجتمعاتنا العربية في السنوات الأخيرة.
ولسنا هنا في معرض تقييم سياسات ومواقف الحركة الإسلامية، ولا انحرافات بعض قياداتها عن المنهج الموضوع، أو عن فقه الواقع والمصالح المرسلة، ولا في صدد تقييم سلوك شريحة من الشباب التي نحت إلى مناحٍ أبعد ما تكون عن مرامي الصحوة الإسلامية.
إنما الفكرة الأساسية لهذا الحديث، تكمن في تصويب مشكلة ربما تُعتبر مرتكزاً أساسياً لمشكلات كبيرة هددت تماسك بنيان الصحوة الإسلامية المعاصرة.
ونعني بذلك مشكلة تفكُّك العديد من هياكل العمل الإسلامي التي كانت قائمة على ثغور كثيرة ومهمة، مثل العمل المجتمعي والخيري، والدعوة في أوساط الأقليات المسلمة، وفي المجتمعات غير المسلمة في بلدان الجنوب، على خلفية الأزمات التي تعرضت لها بعض الحركات، مثل “الإخوان المسلمون”، في بلدان ما يُعرَف بثورات الربيع العربي، وكانت لقيادات وسياسات بعينها، دورٌ في ذلك، بجانب ما يُعرَف بإجراءات “الثورة المضادة”.
جاء التفكك مرافقًا لحالة من الانفضاض عن الفكرة والمنهج، بل وتحوُّل البعض إلى حربٍ ونارٍ على المشروع الإسلامي، وليس على الرموز والشخصيات التي أخطأت أو ثبت تلاعبها، أو أي اعتبارٍ آخر.
وهذا منطق خاطئ من أصحابه، فأنت عندما بدأت في الانخراط في أي مجالٍ من مجالات العمل الإسلامي؛ إنما كنت تخدم دينك بالأساس ، وتخدم عموم المسلمين في المجتمع الذي تعيش فيه، وهذه الأمور قيمية، ولا يتعلق تمسكك بها، وبرسالتك فيها، بشخوص أو جماعات، وإنما هي في الأساس تتعلق برسالتك أنت في الدنيا، وما الحركة أو الجماعة أو الجمعية.. إلخ، التي تتحرك في إطارها، إلا أداة أو وسيلة لخدمة دينك، وخدمة مجتمعك.
عندما بدأت في الانخراط في أي مجالٍ من مجالات العمل الإسلامي؛ إنما كنت تخدم دينك بالأساس، وتخدم عموم المسلمين في المجتمع الذي تعيش فيه، وهذه الأمور قيمية، ولا يتعلق تمسكك بها، وبرسالتك فيها، بشخوص أو جماعات، وإنما هي في الأساس تتعلق برسالتك أنت في الدنيا
فحتى على الأقل لو لم تعُد لديك قناعة بأن الإطار الذي تعمل من خلاله لا يقوم بهذه المهام بالصورة السليمة، أو لا يرتاح إليه قلبك؛ فلا ينبغي ذلك أن يصرفك عن دورك كمسلم في هذه الحياة؛ حيث أنت – بالإخوان أو بالجماعة الإسلامية أو بالدعوة السلفية، أو من دونها – في النهاية أنت مُكلَّف بأمور في هذه الدنيا، سوف تُحاسَب على تقصيرك فيها، ولا علاقة لذلك بأنك جزء من هذه الجماعة أو الحركة أو تلك.
وأنت يا مَن تفعل ذلك، أنت الخاسر الوحيد من هذا السلوك، فلا الإسلام ينتظرك، ولا انفضاضك عن دعوة الله تعالى، سوف يضر الله تعالى شيئًا، حاشاه سبحانه وتعالى.
وهي نقطة مهمة ربما تغيب في المناهج التربوية الحركية؛ فحماسك لخدمة دين ربِّك، إنما وقع أجره على الله تعالى لك، ولكن الدين له سياقات وصيرورات، والدنيا بالكامل، لها سياقات وصيرورات، قدَّرها اللهُ عز وجل قبل الخلق والزمن، ولن يستطيع إنس أو شيطان، أن يمس بها.. يقول تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سُورَة “الصَّف” – الآية 8].
كما أن ربطك لأدائك وإنجازك في هذه الدنيا بمشروع حركي، أو بشخوص؛ هذا خطأ، وكما تقدَّم؛ فإنما هي أدوات لخدمة القيمة، والمحاربون لأجل القيمة، والذين يعيشون بها، ولها، لا ينهزمون، لأن القيمة باقية، وحاكمة، وما يفعله الإنسان لأجلها، سواء أَسْتَطاع، أو خسر؛ هو محسوب له.
إن ربطك لأدائك وإنجازك في هذه الدنيا بمشروع حركي، أو بشخوص؛ هذا خطأ، وكما تقدَّم؛ فإنما هي أدوات لخدمة القيمة، والمحاربون لأجل القيمة، والذين يعيشون بها، ولها، لا ينهزمون، لأن القيمة باقية، وحاكمة، وما يفعله الإنسان لأجلها، سواء أَسْتَطاع، أو خسر؛ هو محسوب له
في ديننا الحنيف هناك معانٍ كثيرة في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية تقول بذلك، مثل حديث الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، الذي يقول فيه: “عجبًا لأمر المؤمن. إن أمرَه كلَّه له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. إنْ أصابتْهُ سرَّاءُ شكر وكان خيرًا له وإن أصابتْهُ ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا له” [أخرجه مسلم في الصحيح].
والحرب لأجل القيمة، والحياة بها، من بين الأمور الشديدة الأهمية لحفظ كرامة الإنسان ؛ حيث ذلك ينأى به عن الدنيا وما فيها، مما يمتهنه، وينزل به إلى مرتبةٍ أدنى.
بالقيمة؛ حياتك تزهِر، ويكون له أنت في حد ذاتك، قيمة، ويستمر ذكرك وحضورك، حتى بعد مماتك، وتجد اللهُ تعالى يدعمك، وإلى جوارك دائمًا، لأنك تخلَّيت لأجله، ولأجل ما وضعه من قواعد عمران وقيم أخلاقية وإنسانية تحكمها.
يقول تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [سُورَة “الرعد” – الآية 29].. إن كلمات ربي واضحة في هذه الآية العظيمة؛ حيث الإيمان وعمل الصالحات – أي القيمة في صورتها الخالصة – هي معيار التطويب في الدنيا، وحسن المآب في الآخرة.
(المصدر: موقع بصائر)