مقالاتمقالات مختارة

المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.. قيادةٌ جديدةٌ وأملٌ جديد

المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.. قيادةٌ جديدةٌ وأملٌ جديد

بقلم د. خالد حنفي

في مدينة لندن كان اللقاء التأسيسي للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وذلك في 21 من ذي القعدة 1417هــ، الموافق 29 من شهر آذار/ مارس 1997 م. والمجلس هو أول وأهم مرجعية إفتائية بحثية على الساحة الأوروبية، وقد قام هذا المجلس على الاحتساب، وما أنجزه بالنظر إلى حجم إمكاناته يُعدّ إنجازاً كبيراً وضخماً، وقد مر على إنشائه عقدان من الزمان، قدم خلالهما خدمة جليلة للفقه الإسلامي ولمسلمي أوروبا؛ وخلال مسيرة المجلس العلمية المباركة أنتج إنتاجا علميا كان له أبلغ الأثر في ترشيد مسلمي أوروبا ومساعدتهم على أن يعيشوا إسلامهم في ظل مجتمعات غير إسلامية باعتدال ووسطية تنأى بهم عن الإفراط والتفريط.

كما كان المجلس بحمد الله تعالى مرجعاً للمؤسسات الأوروبية العلمية والمدنية، وكان نتاجه العلمي محل اهتمام الباحثين والدارسين في الجامعات والمعاهد العلمية الشرعية في أوروبا وخارجها؛ وقد أحدث المجلس باجتهاداته الجديدة الصادرة عنه حراكاً فقهياً تجديدياً تفاعلت معه المجامع الفقهية الأخرى قبولاً ونقداً؛ وقد انتُخب العلامة الفقيه الدكتور/ يوسف القرضاوي رئيساً له منذ تأسيسه، رغم اعتراضه وطلبه وقتها أن يكون الرئيس من المقيمين على الساحة الأوروبية، إلا أن الحضور أصروا على انتخاب الإمام القرضاوي لعلمه ومكانته ورمزيته عند العلماء، وعامة المسلمين.

وقد تَشكَّل المجلس من عددٍ من الفقهاء والباحثين أغلبهم من المقيمين على الساحة الأوروبية، وبعضهم ممن يقيم خارجها لكنه على صلة بواقعها وأسئلة المسلمين الفقهية فيها، وقد كان لوجود هؤلاء العلماء من خارج أوروبا في المجلس دور كبير في رسالة المجلس، وكسب ثقة المسلمين فيه منذ تأسيسه، وهؤلاء العلماء هم رموز في الفقه والفتوى في العالمين العربي والإسلامي، كالشيخ الدكتور/ على القره داغي، والشيخ الدكتور/ عبد الستار أبو غدة، والشيخ الدكتور/ عجيل النشمي، والشيخ الدكتور/ حسين حامد حسان وغيرهم من أهل الثقة والاختصاص والعلم أعضاء المجلس. وفي الدورة الأخيرة للمجلس والتي انعقدت في اسطنبول 9 نوفمبر 2018م انتُخبت قيادة جديدة للمجلس فمن هي، وما دلالات انتخابها؟

الرئيس الجديد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث

انتُخب الشيخ الدكتور عبدالله الجديع رئيساً للمجلس خلَفاً للعلامة الشيخ يوسف القرضاوي، وقد وُلد الجديع في العراق سنة 1959م، ويقيم في بريطانيا منذ سنة 1993م ويحمل جنسيتها. وهو حاصل على الدكتوراه في الاقتصاد الإسلامي من جامعة ويلز في موضوع: نقد الآراء الفقهية الإسلامية المعاصرة في الفائدة المصرفية. سنة 2011م، والماجستير في فلسفة الدراسات الإسلامية من جامعة لامبيتر ويلز سنة 2006م. وقد بلغت تصانيفه وبحوثه وتحقيقاته المنشورة وقيد النشر قرابة سبعين مصنفاً. كما أَشرف وترأس الفريق الشرعي الذي أصدر أول برنامج للحديث الشريف بتقنية الحاسوب، والذي أنتجته شركة (صخر)، والمعروف بموسوعة الحديث الشريف.

عُرف الشيخ الجديع بمكنته في الحديث والفقه حتى قال شيخه القرضاوي عنه: هو أعلم بالفقه والحديث منى، وشَهد له بصنعته الحديثية ودِقة بحثه وتحقيقه المحدِّث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله فقال عن كتاب الجديع (أحاديث ذم الغناء والمعازف في الميزان): “وجدتُه كتاباً قيماً جامعاً لأحاديث هذا الباب وآثاره جمعاً لم يُسبق إليه فيما علمت، مع النقد العلمي الحديثي لكل فردٍ من أفرادها، الأمر الذي يندر وجوده حتى في كتب التخريجات المتقدمة، مع التزامه لقواعد هذا العلم الشريف”، كما أثنى عليه الشيخ الفقيه محمد الصالح بن عثيمين رحمه الله، وأوصى بكتاب الجديع (العقيدة السلفية في كلام رب البرية) وكان يوزعه على بعض طلابه بنفسه. وقد عرفتُ الشيخ الجديع عن قربٍ فوجدتُ فيه سمتَ العالِم وروحَه، وألفيتُ فيه تواضعاً مفطوراً لا تكلَّف فيه، وهو لا يأنف أن يتعلم حتى من تلاميذه، ويقبل النقد ويرحب به، ولا يستكبر أن يتراجع عن رأيه إن بدا له خطؤه.

نائبا رئيس المجلس

كما انتُخب نائبان للرئيس وهما: الأستاذ الدكتور أحمد جاب الله عميد المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس، وهو واحدٌ من أهم وأنجح المؤسسات التعليمية الجامعية على الساحة الأوروبية، وجاب الله التونسي المقيم في فرنسا منذ عام 1980 م حاصل على الإجازة العالية من كلية أصول الدين جامعة الزيتونة بتونس، والماجستير والدكتوراه من جامعة السوربون في باريس، لذا يتحدث الفرنسية كما العربية، وهو خبيرٌ بصناعة وتطوير الخطاب الإسلامي على الساحة الأوروبية.

 

والشيخ الدكتور/ صهيب حسن الأمين العام للمجلس الشرعي الإسلامي بلندن، المولود في الهند سنة 1942م، وهو حاصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة برمينجهام، والدبلوم من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة. له أكثر من ثلاثين بحثا بالعربية والإنجليزية، وقد قام بمراجعة ترجمة وتفسير عبدالله يوسف علي للقرآن الكريم، وهو عضو في مجلس فقهاء الشريعة بأمريكا. يتحدث العربية والإنجليزية والأردية.

وأما أمانة المجلس

فانتُخب فضيلة الشيخ الدكتور/حسين حلاوة أميناً عاماً للمجلس، وهو رئيس المجلس الأيرلندي للأئمة، وخطيب المركز الثقافي الإسلامي في أيرلندا، وقد درس في الأزهر وحصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة إسلام اباد. باكستان، وهو عضو في المجامع الفقهية بأمريكا والهند، ويقدم برنامجاً أسبوعياً للفتوى المباشرة على قناة الحوار بلندن. وأما الأمين العام المساعد فالعبد الفقير كاتب هذه السطور.

لماذا تُشكِّل هذه القيادة المنتخبة وِلادةً جديدةً للمجلس؟

انتخاب هذه القيادة للمجلس يُشكِّل نقلةً نوعيةً في تاريخ المجلس، ويبشِّر بمستقبلٍ واعدٍ وانطلاقة جديدة له يكمِّل فيها ما نقص، ويتمِّم فيها ما بدأ، ويستدرك فيها ما فات، ويؤكد عملياً على أن الإمام القرضاوي يترك رئاسة المؤسسة في حياته لكفاءات علمية قادرة على المضي بها قُدماً إلى الأمام وأنها إلى قوةٍ لا إلى ضعف وذلك لما يلي: الأوروبية، والعلمية، والتنوع، وعدم التطلع.

أولاً: الأوروبية أكد الإمام القرضاوي في كلمته الافتتاحية على أوروبية المجلس من أول يوم وأن الأصل أن يعقد المجلس دوراته داخل أوروبا، وأن تكون قيادته أوروبية، وأن ما حدث فيما مضى هو استثناء من الأصل لاعتبارات زمانية وواقعية، والآن نعود إلى الأصل فتصبح قيادة المجلس رئاسةً وأمانةً أوروبية، وتعود دورات المجلس للانعقاد في أوروبا، والمتأمل في التعريف بالقيادة الجديدة للمجلس يلحظ طول عهدهم ومكثهم في أوروبا، وهو ما يجعلهم أقدر على إدراك الواقع، وإدارة شؤون المجلس بما يلبي متطلبات هذا الواقع، وإدراك التحديات التى تواجه المجلس والسبيل الأمثل للتعامل معها.

ثانياً: العلمية فقيادة المجلس شخصيات علمية أكاديمية درست وحصلت على أعلى الشهادات العلمية في التخصصات الشرعية من جامعات معروفة أوروبية وعالمية.

ثالثاً: التنوع وأعنى به تنوع الأقطار والبلدان سواء الأوطان الأصلية أو الحالية، فالقيادة الجديدة للمجلس إقامةً: بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وأيرلندا، ومولداً: العراق، تونس، الهند، مصر، وتنوع العمر والسن، وتنوع المعرفة باللغات، وهذا التنوع يعطى ثراءً وشمولاً في الرؤية والتصور، وتناغماً في العمل.

رابعاً: عدم التطلع

فكلُّ من رُشِّح لمسؤوليةٍ اعتذر عنها، وودَّ لو أن الآخر كفاه وتحمل عنه، فالشيخ الجديع رَشَّح الدكتور أحمد جاب الله لرئاسة المجلس، ود/جاب الله صرَّح بعد إعلان النتائج أن صوته كان للجديع، وبعد إعلان الجديع رئيساً للمجلس قال باكياً: ما تصورتُ نفسي يوماً في هذا المكان، وما كنتُ لأقبل رئاسة المجلس لولا أنْ خوّفني أحد إخواني من خطر الاعتذار عنها. وتحدث الشيخ الدكتور عصام البشير عضو المجلس والداعية الفقيه المعروف قائلاً للرئيس: لك علينا ثلاثة:” الدعاء لك ولإخوانك، العون والإسناد، والنصح والإرشاد”. فاستشعار الجميع للمسؤولية، وعدم تطلعهم إليها، وخوفهم من تبعاتها، وشيوع تلك الروح الشورية مع نقاء النفوس وصفائها، أمورٌ تبشِّر بكل خير وتُبيّن أن الجميع حريصٌ على المجلس ورسالته وأن الجماعية والمؤسسية والتعاونية لا الفردية هى السمة العامة المجلس.

 

فقهُ المراجعة لا التراجع

خصَّصَ المجلسُ غالبَ أيام دورته لمراجعة الفتاوى والقرارات الصادرة عنه منذ تأسيسه إلى الدورة السابعة والعشرين؛ لتكون صالحةً للنشر في مدونته الفقهية، وتلك المراجعة لا تعنى تراجع المجلس عن منهجيته التي تقوم على الاجتهاد الفقهي لمسلمي أوروبا بما يتوافق مع خصوصياتهم الزمانية، والمكانية، والقانونية، والعرفية، وفق أصول وضوابط الاجتهاد التي قررها علماء الأصول.

وهذه المراجعات وتلك التعديلات على الفتاوى والقرارات سنةٌ حسنة سنّها المجلس، وقد قلتُ في نفسي: إذا كنا نعدل بعض الفتاوى والقرارات اليوم بسبب مستجداتٍ طرأتْ، أو مآلٍ خفىٍّ ظهر، أو مصلحةٍ معتبرةٍ غلبتْ، والفاصل بين صدور القرار وتعديله أقل من عشرين سنة، فكيف يُصر البعض على استصحاب تراثٍ فقهي أُنتج قبل قرونٍ طويلة لعصرنا اليوم دون نظرٍ أو تعديلٍ أو مراجعة؟! ولا يخفى على ذي لُبٍ أنَّ هذا لا يعني هدم أو نقض تراثنا الفقهي أو التقليل من أقدار أئمتنا العظام، وإنما أن نجتهد لزماننا وعصرنا كما اجتهدوا لزمانهم وعصرهم، ولن يستقيم أو يصح التجديد دون استيعاب التراث واتخاذه مرجعاً أصيلاً.

مشروعان جديدان أقرَّهما المجلس

اعتمد المجلس في دورته الأخيرة مشروعين مهمين:

المشروع الأول: تطبيق {الدليل الفقهي للمسلم الأوروبي}، وهو تطبيق هاتفي يشتمل على جميع القرارات والفتاوى التي أصدرها المجلس منذ تأسيسه إلى دورته السابعة والعشرين، وقد تم الفراغ منه وهو الآن قيد المراجعة وسيصدر قريبًا بحول الله. الإصدار الأول منه باللغتين العربية والإنجليزية، والإصدار الثاني بست لغات أوروبية غير الإنجليزية، وقد تم تنفيذه بأحدث التقنيات الإلكترونية بميزات كثيرة منها: يعمل دون الاتصال بالأنترنت، يمكن للمستخدم أن يرسل سؤاله مباشرة للمجلس إذا لم يجد جوابه في التطبيق، إمكانية البحث السريع مع ترتيب نتائج البحث حسب الموضوع، التحديث التلقائي بالفتاوى الجديدة دون الحاجة إلى تحديث التطبيق. تعريف بأهم المساجد في المدن الأوروبية الكبرى.

المشروع الثاني: {الدائرة البحثية للمجلس}، وهو مشروع واعد يهدف إلى ضم وتوظيف الكوادر العلمية الشبابية على الساحة الأوروبية رجالاً ونساءً، والانفتاح على المؤسسات العلمية والجامعية والرسمية الأوروبية، والاستفادة من وسائط الإعلام الحديثة بصورة أفضل لإيصال رسالة المجلس لمسلمي أوروبا وأئمتهم، بل لعامة المجتمع الأوروبي، كما يهدف المشروع إلى دعم ملف الترجمة وتحسينه وتطويره، وتقديم الدعم الواقعي والميداني للمجلس كعمل استطلاعات الرأي، أو تقويم عمل المجلس، أو النظر العلمي لمآلات القرارات والفتاوى التي صدرت أو ستصدر عن المجلس، والإسهام الفعلي في تجديد الفقه من خلال الجمع بين المناهج العلمية الحديثة التي درسها هؤلاء الشباب في الجامعات الأوروبية، وبين التراث الفقهي من خلال اتصالهم بالمجلس، وإعداد رموز فقهية شبابية بمنهج عملي، ومحاصرة الغلو والتطرف بصورة علمية وعملية.

إن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بمكانه ومكانته، ونتاجه البحثي، والرسوخ العلمي لأعضائه، يُنتظر منه الكثير لمسلمي أوروبا، ولمسيرة تجديد الفقه والاجتهاد بشكل عام. حفظ الله الرئيسَ السابق للمجلس العلامةَ المجدد الشيخ/ يوسف القرضاوي وأطال في الخير بقاءه، وجزاه الله خيراً عما قدم للمجلس ولمسلمي أوروبا، وقوى ظهر الرئيس الجديد للمجلس الشيخ الدكتور عبدالله الجديع وأدام النفع به وبعلمه، وجمع به الكلمة إنه سميع مجيب.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى