مقالاتمقالات مختارة

المؤامرة على المسجد الأقصى المبارك امتداد لجريمة إحراقه

المؤامرة على المسجد الأقصى المبارك امتداد لجريمة إحراقه

بقلم د. تيسير التميمي

في صبيحة يوم الخميس السابع من جمادى الثانية عام 1389 للهجرة النبوية ، الموافق 21/8/1969م استيقظ العرب والمسلمون على نكبة جديدة حاول إيقاعها صهيوني إرهابي مجرم ، فقد امتدت يده الغادرة إلى مسرى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وقبلتهم الأولى فأضرم فيها نيران حقده بعد فشل محاولته السابقة بتاريخ 21/8/1968م أي قبل عام كامل ، فبفضل الله سبحانه وتعالى وبفضل يقظة وانتباه حراس المسجد الأقصى المبارك يومها باءت محاولته الحاقدة بالفشل ، وتظاهرت حينها سلطات الاحتلال بإلقاء القبض عليه لبعض الوقت لكنها سرعان ما أطلقت سراحه ليعاود المحاولة من جديد.

     أدان العالم أجمع هذه الجريمة ببيانات الاستنكار ، الجريمة التي فجرت موجة من المظاهرات واحتجاجات شعبية غاضبة في القدس وفي فلسطين وكافة أرجاء العالم الإسلامي . وفي اليوم التالي للحريق أدى آلاف المسلمين صلاة الجمعة في الساحة الخارجية للمسجد الأقصى المبارك وانطلقت المظاهرات بعدها في القدس.

     رفعت سلطات الاحتلال حالة التأهب متوقعةً رداً عربياً يوازي حجم الجريمة ، لكن ردود الفعل العربية والإسلامية جاءت باهتة ضعيفة مخيبة للآمال كما في كل مرة ، فقد اكتفى القادة بالشجب وتبادل الرسائل فيما بينهم ، وتداعَوْا لعقد مؤتمر القمة ، وعقد وزراء الخارجية العرب اجتماعاً طارئاً لرسم الطريق المؤدي إلى إنقاذ فلسطين ومقدساتها من قبضة الاحتلال وبالأخص بعد إعلان الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز الجهاد المقدس.

     خلال شهر من الكارثة تم عقد مؤتمر القمة الإسلامي في مدينة الرباط بالمغرب ، وكان من أبرز قراراته تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي بتاريخ 25/9/1969م باقتراح من الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز ، والتي تضم في عضويتها سبعة وخمسين دولة عربية وإسلامية ، واختيرت مدينة جدة مقراً مؤقتاً للمنظمة بانتظار تحرير مدينة القدس المحتلة حيث سيكون فيها المقر الدائم للمنظمة.

     تضمَّن ميثاق المنظمة العهد على السعي بكل الوسائل السياسية والعسكرية لتحرير مدينة القدس المباركة وإنقاذها من قبضة الاحتلال الصهيوني ، حيث تم طرح مبادئ الدفاع عن شرف وكرامة المسلمين المتمثلة في مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك ، أرض الإسراء والمعراج وقبلة المسلمين الأولى ومهاجر سيدنا إبراهيم ومبعث أنبياء الله ورسله.

     عقدت مجموعة من الدول العربية والإسلامية عدة اجتماعات للاتفاق على مشروع قرار لعرضه على مجلس الأمن الدولي يتضمن المطالبة بإرسال حرس دولي إلى مدينة القدس بهدف حماية الأماكن المقدسة ، وتشكيل لجنة خماسية للتحقيق في الظروف التي أدت إلى الحريق ، وتشكيل لجنة ثانية لتقدير الأضرار التي لحقت بالمسجد الأقصى المبارك والإشراف على الترميمات اللازمة فيه بالتعاون مع المجلس الإسلامي الأعلى في مدينة القدس.

      في 9/9/1969 اجتمع مجلس الأمن الدولي للبحث في الشكوى التي قدمها مندوبو 25 دولة إسلامية وعربية والمتعلقة بحريق المسجد الأقصى المبارك ، وأصدر المجلس القرار رقم 271 بتاريخ 15/9/1969م بإدانة إسرائيل لحرق المسجد الأقصى المبارك ، ودعاها إلى إلغاء جميع الإجراءات التي من شأنها تغيير وضع القدس ، والتقيد بنصوص القانون الدولي واتفاقيات جنيف المتعلقة بما يترتب على الاحتلال ، وفي 8/10/1969 أصدر المجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو أيضاً القرار رقم 83 بإدانة حريق المسجد الأقصى المبارك ، ونعلم ويعلم العالم أن هذين القرارين وما سبقهما وما تلاهما من القرارات الدولية كانت دوماً مجرد حبر على ورق فلم تنفذ إسرائيل منها شيئاً ، ولم يحاسبها المجتمع الدولي على ذلك لا في الماضي ولا في الحاضر ولا يتوقع منه ذلك في المستقبل.

     ثم انبثقت عن منظمة المؤتمر الإسلامي لجنة القدس عام 1975م برئاسة العاهل المغربي ، وجاء في بيانها التأسيسي أن من مهامها إنقاذ المسجد الأقصى المبارك والدفاع عنه وتحرير مدينة القدس المحتلة ، ومن مهامها أيضاً متابعة تنفيذ القرارات التي تتخذها منظمة المؤتمر الإسلامي والهيئات الدولية المؤيدة لها أو المتعاطفة معها ، والاتصال مع أية هيئات أخرى ، واقتراح المناسب على الدول الأعضاء لتنفيذ المقررات وتحقيق الأهداف ، واتخاذ ما تراه من إجراءات.

     توالى عقد المؤتمرات العربية والإسلامية على مدار سنوات باسم هذه المنظمة من أجل مدينة القدس ومن أجل المسجد الأقصى المبارك ، لكن خطوة عملية جادة لتحريره وإنقاذه من الأسر لم تتخذ ، فلم يثمر إنشاء هذه المنظمة ولا اللجنة التي انبثقت عنها ، ولم نر أي تقدم ملموس على أرض الواقع ، ولم تعد على القضية الفلسطينية أية فائدة تذكر ، وإنما هي أموال أهدرت وأنفقت على السفريات والبروتوكولات ، بل إن هذه المنظمة غيرت اسمها وشعارها في عام 2011 أي بعد اثنين وأربعين عاماً فأصبحت تسمى بمنظمة التعاون الإسلامي ، فكل المؤامرات  لها ذات البداية ، مؤتمرات واجتماعات وندوات ولقاءات ولجان ومؤسسات وبيانات وتغطيات إعلامية خطابية تتمخض عن لا شيء.

     إن الناظر اليوم إلى القضية الفلسطينية يرى بوضوح المنعطفات الجديدة التي دخلت فيها ، ونقاط تحول الأنظمة الحاكمة تجاهها ، ويدرك بأن التراجع الذي أصابها إنما هو نتيجة حتمية لتجريدها من عمقها الإسلامي والعربي ، فهذه القضية أصلاً هي القضية المركزية الحية التي لا تموت للأمة كلها ، ولن يعود لها وهجها إلا بعودتها إلى وصفها الحقيقي الصحيح ، فقد تكونت القضية نتيجة اغتصاب جزء كبير من فلسطين التاريخية ووقوعها تحت الاحتلال عام 1948 بقوة السلاح وبتآمر القوى العالمية ، ثم بوقوع الجزء الباقي منها بما فيه مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك تحت الاحتلال الغاشم عام 1967. ومن هنا أخذت القضية الفلسطينية بُعدها الديني والعقائدي ، فأرض فلسطين مقدسة باركها الله سبحانه وتعالى وقرر هويتها الإسلامية من فوق سبع سماوات  في قرآن يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

     إذن علم المسلمون ما تمثله مدينة القدس المباركة في عقيدتهم ودينهم ، لذا فقد تعلقت بها قلوبهم ، واعتبروا التخلي عنها تفريطاً في العقيدة لا يمكن أن يصمتوا عليه لأنه طعنٌ لعزتهم وكرامتهم ومظهرٌ لهوانهم ، ولنقرأ التاريخ جيداً ولننظر كيف هب الخلفاء والأمراء والسلاطين والقادة والعلماء والجيوش من أمتنا في كل مرة تعرضت فيها القدس وفلسطين للغزو والاحتلال . ومن أقرب صور الدفاع عن القدس وهويتها لهذا الجيل أن القرن بداية الماضي شهدت ثورة البراق سنة 1929م أول ثورة ضد الصهاينة الطامعين حماية للقدس والمسجد الأقصى المبارك ، وأن مطلع القرن الحالي شهد في بدايته انتفاضة عام 2000م ضد الصهاينة المحتلين دفاعاً عن القدس والمسجد الأقصى المبارك.

     إن النيران التي أشعلها الحقد الصهيوني منذ أكثر من خمسين عاماً في المسجد الأقصى المبارك وأتت على أجزاء كبيرة منه وعلى منبر صلاح الدين لا زالت مشتعلة فيه ، ولا زالت تتجدد أساليب وصور المؤامرة عليه ويتجدد رموزها ورافعوا لوائها ، فاقتحام الجماعات اليهودية المتطرفة لساحاته لم يتوقف ، ومنع المسلمين وصوله وأداء عبادتهم فيه وتحديد أعمار من يسمح لهم بدخوله ما زال سارياً ، ولا يتوقف الصهاينة عن انتهاك قدسيته وتدنيس حرمته ، واستهداف بنيانه من القواعد وصولاً إلى هدمة وتدميره هدف قائم دائم لم يتغير.

     ومن الصور الجديدة للمؤامرة على القضية تغير الثوابت الأساسية لدى النظام السياسي ، فلم يعد العدو الحقيقي هو العدو ، وأصبحت القضايا القُطْرِيَّةُ مقدمة على المصالح العامة للأمة وقضاياها ، فها هم المهرولون والزاحفون يتسابقون في نيل رضا أمريكا ومكافأة الاحتلال على جرائمه ضد الشعب الفلسطيني من خلال اتفاقيات التطبيع ، فقد نجحت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بشق الصف العربي الإسلامي ، وباختراق جدار الحماية الواقي للقضية الفلسطينية ، وتم تجنيد الإعلام وغيره من المؤسسات لشرعنة هذا النهج الجديد وبثّه في الجماهير لإيجاد المناصرين له منهم.

     لكننا نؤكد أن مؤامرات ومخططات الاحتلال الصهيوني مهما عظمت فلن تنال من مكانته عند الأمة جميعاً لأنه جزء من عقيدتها ، ولن تنال أيضاً من مدينة القدس ومكانتها ، فهي مدينة عربية إسلامية قبل كل شيء ، ثم هي العاصمة الأبدية للشعب الفلسطيني وطنياً وسياسياً وروحياً.

     إن الحكم الشرعي الواجب على الأمة تطبيقه اليوم هو العمل الجدي على حماية المسجد الأقصى المبارك والدفاع عنه بكل إمكانياتهم المادية والسياسية ، والاستجابة للأمر الإلهي بحرمة التفريط فيه والحفاظ على هويته الإسلامية بجميع أبنيته وساحاته وأسواره وقبابه وأبوابه وأساساته وفضائه ، وأما التخاذل الناتج عن ترهّل النظم السياسية في العالم العربي والإسلامي فهو الذي أوصل القضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه ، وهو الذي يقوي عين إسرائيل في عدوانها على المسجد الأقصى المبارك ، وهو الذي يجرّئها

علينا وعلى حقوقنا المشروعة ، لأنه يمنحها ترياق البقاء.

     لذا فإننا نعوّل على الجماهير العربية المسلمة فقط ، ونعول على شعبنا الفلسطيني البطل ، فهو رأس الحربة في الدفاع عن قضيته وتراب وطنه ومقدساته بالغالي والنفيس ، فهو الذي قدم وما زال يقدم قوافل الشهداء والجرحى الذين قتلهم جنود الاحتلال الغاشم بدم بارد فروت دماؤهم الزكية ثراها ، وهو الذي عانى أبناؤه الأسرى وما زالوا يعانون في الزنازين والسجون ، ومن وراء هؤلاء جميعاً الماجدات من الثكالى والأرامل والأيتام . فشعبنا لن يتماهى مع أية خيانة تستهدف تصفية قضيته العادلة ، ولن يتوقف أبداً عن المقاومة حتى تحرير أرضه من الاحتلال ونيل الحرية والاستقلال ، ولن يرضخ لإملاءات الإدارة الأمريكية في تنفيذ صفقة القرن ، قال صلى الله عليه وسلم { لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك ، قالوا يا رسول الله وأين هم ؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس } رواه أحمد وغيره بسند من الثقات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى