مقالاتمقالات مختارة

الليبرالية المتهمة

بقلم ياسر الهواري – مدونات الجزيرة

يقف الرئيس الأميركي ليندون چونسون أمام نافذة كبيرة في إحدى قاعات البيت الأبيض مقر حكم الولايات المتحدة الأميركية، ملقيًا نظرة متفحصة على الحشود الواقفة في الساحة المقابلة للمبنى العتيد، ثم يِلفظ لفظًا خارجًا معبرًا به عن حنقه من أولئك الليبراليين البيض المتضامنين مع السود بعد ضرب مسيرتهم السلمية الشهيرة (Selma) بقيادة الأسطورة مارتن لوثر كينج زعيمهم التاريخي المطالب بإزالة العقبات أمام السود في حق الانتخاب، التي تناقض الدستور الذي يقضي بالمساواة والحريّة بين البشر بدون تفرقة على أساس الجنس أو اللون أو العرق أو الدين أو أي فارق آخر.

كان هذا أحد مشاهد الفيلم الأميركي الذي يحمل نفس اسم المسيرة الشهيرة.. ليندون چونسون الذي حكم أميركا في ستينيات القرن العشرين وحدث في عهده العدوان الإسرائيلي على الأراضي العربية في ١٩٦٧ والذي عرف بميوله المتعصبة الكارهة للآخر وبمواقفه المخزية ضد الشعوب العربية لم يكن إلا يمينيا آخر يكتظ بهم العالم يَرَوْن أن أولئك الليبراليين المتضامنين مع قضايا غيرهم ما هم إلا مجموعة من الحالمين وأن تضامنهم ربما تزايد في التمسك بمبادئ لا قيمة لها.

الحقيقة أن مفهوم الليبرالية في بلادنا مختلط بشدة على الكثير ممن يدعيها فضلًا عن من لا يعلم عنها إلا ما سمعه من بعض خطباء المساجد بأنها تعني إجبار الأمهات على خلع الحجاب كما ادعى نصًا أحد الدعاة (الشيخ حازم شومان)، ولا أعتقد أنني مضطر للقول إن كلمة إجبار كلمة غير موجودة من الأساس في القاموس الليبرالي بل إن مفهوم الليبرالية ضد الإجبار تمامًا، وأن أصل الأزمة قد يكون أن الليبرالي إذا ما أراد التمسك بقيمه الحقيقية فعليه الدفاع أولًا عن حقوق الأقليات من تغول الأغلبية عليها، وحماية حرية اختيار (الفرد) فيما يخص حريته الشخصية وحرية اختيار أسلوب حياته، وتلك هي البوصلة الحقيقية.

فلا يهم أن يُعرِّف أحدهم نفسه على أنه ليبراليا، المهم ما هو خطابه؟ وما هي بوصلته؟ وما هي قضيته؟ الليبرالية تدافع عن قيم الحرية بين البشر، الحرية لا تعرف الانتقاص، ولا تعرف الاستثناءات، ولا تعرف الشخصنة، والأهم مما سبق أنها لا تعرف الإقصاء، لا يصح أن تطلب الحرية لنفسك وتمنعها عن غيرك، ولا يصح أن تناصر الفاشية لأنها تعادي الإسلاميين (مثلًا) بدعوى أن خطابهم يناصبك العداء، المبدأ واحد ولا يتجزأ، سواء كان المستفيد من دفاعك من داخل تيارك أو ضده.

أعلم تمامًا أنه في ظل حالات الانقسام المجتمعي الحاد بتبني كل طرف خطابا حادا يقترب في كثير من الأحايين إلى درجة التشنج ويندرج في بعضها إلى خطيئة اختراع الأكاذيب لتشويه خصمه، ثم يدرك البعض فداحة ما انزلق إليه المجتمع حين تتنفذ الفاشية من خلال الخلافات لتحكم الجميع بالحديد والنار ويفقد الجميع حتى ترف الخلاف الحاد، ثم ماذا بعد؟

على الليبرالي الحقيقي ألا يكف عن بعث الدنيا ضجيجًا على ظلم يعاني منه غيره، فهذا واجبه، وإن لم يفعل فلا يدعي الليبرالية، ولنُعلن وفاتها

خطوة إلى الوراء لننظر جميعًا إلى الصورة بشكل أوسع وأشمل، نتأمل الصورة المفزعة ثم نواجه أنفسنا بأخطاء اقترفتها يدانا، ونواجه هوى أنفسنا بحزم ونتمسك بمبادئنا بحسم ثم نقف بشجاعة أمام أنفسنا نحاسبها أولًا، ثم لا نكتفي بالاعتذار شفاهةً أو تحريرًا بل تتجاوز تلك المرحلة إلى البحث عن طريق يصلح أن يكون بداية رأب صدع يهدد تفاقمه مستقبل وطن بأكمله.

نعم الجميع أخطأ بدرجات متفاوتة ونعم الجميع انزلق إلى ذلك المنحدر الذي سقطنا فيه جميعًا.. لم ينجح أحد ولم ينج أحد، على الليبرالي الحقيقي ألا يكف عن بعث الدنيا ضجيجًا على ظلم يعاني منه غيره، فهذا واجبه، وإن لم يفعل فلا يدعي الليبرالية، ولنُعلن وفاتها، جميعًا نتعلم من دروسنا وجميعًا نفوز إذا وفقط ما تمسكنا بما نؤمن به عالمين تمامًا أن هناك ثمنًا ندفعه حينما نرفض ذهب المعز ونعلن بدون مواربة أننا لا نهاب سيفه، فلا مهرب من فقدان بوصلتنا إلا بالتمسك بما نؤمن به والصبر على الضربات المتلاحقة من كل الأطراف، فالفرد يضعنا في مواجهة كل فاشية التاريخ بلا سند غير قوة إيماننا بمبدأ راسخ في نفوسنا، يضمن للمظلوم سندا في وقت شدته.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى