بقلم أحمد التلاوي
تُعدُّ دولة الفاروق عمر بن الخطَّاب رضي اللهُ عنه، واحدة من أهم النماذج المعيارية التي يقيس عليها المسلمون الكثير من الأمور والقضايا التي تُعرَض على الأمة في عصرنا الحالي، بما في ذلك قضايا #الإدارة و#السياسة، وحتى أمورًا مستحدثة مثل الموارد البشرية، ومعايير الاختيار السليمة، في مختلف المجالات، ولاسيما في الأمور ذات الأهمية، مثل المناصب الإدارية والسياسية الكبرى، والمناصب العسكرية، وغير ذلك.
ولعل من بين أهم الأمور والقضايا المعروضة في الوقت الراهن على الأمة، سواء على مستوى الحكومات -على قلة الحكومات الرشيدة في عالمنا الإسلامي المعاصر- أو على مستوى الحركات الإسلامية الطليعية، هي قضية حسن توظيف العناصر الأفضل، القادرة على القيام بأعباء الأمانات الموكولة إليهم، وأبعد ما يكونون عن ظواهر مثل نفاق الحاكم، أو وضع الاعتبارات الذاتية الضيقة فوق المصالح العامة، وهي الأمراض الأخطر التي ضربت مجتمعاتنا المسلمة في فترة الانحطاط الحضاري الأخيرة التي تمر بها الأمة.
وفي دولة عمر -في حقيقة الأمر- كل ما يمكن أن يجيب أو يعالج الكثير من المشكلات في هذا الصدد، ولكن قبل تناول ذلك بشيء من التفصيل، فإنه ثمَّة نقطة شديدة الأهمية وجب التنويه إليها في هذا الأمر.
من بين أهم الأمور والقضايا المعروضة في الوقت الراهن على الأمة، هي قضية حسن توظيف العناصر الأفضل، القادرة على القيام بأعباء الأمانات الموكولة إليهم، وأبعد ما يكونون عن ظواهر مثل نفاق الحاكم، أو وضع الاعتبارات الذاتية الضيقة فوق المصالح العامة
هذه النقطة تتعلق بالمصدر الأساسي الذي صنع من خلاله عمر رضي الله عنه، دولته، وأقام عليها -بشكل عام- أركان معجزته، سواء كصحابي لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أيّد القرآنُ الكريم والوحيُ الإلهيُ فيه الكثيرَ من مواقفه وآرائه، أو كأمير للمؤمنين وحاكمٍ لهذه الأمة.
فالمصدر الأساس لهذا كله هو الإسلام، من مصادره الأساسية القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة، وعلى وجه الخصوص التربية النبوية التي حرص الرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أن تتأسس عليها دولة الإسلام الأولى، قبل إقامة أركانها السياسية.
أضف لذلك الكثير من السمات الشخصية التي كان يتمتع بها عمر بن الخطاب “رضي اللهُ عنه”، والتي من خلال السُّنَّة النبوية، من الواضح أنها اصطناع إلهي صرف.
فعندما دعا رسول الله “عليه الصلاة والسلام”، ربَّه عز وجل، بأن يعزَّ الإسلام بأحد العُمَرَيْن؛ اختار الله تعالى عمر بن الخطاب، وهو ما يعني أن هناك حكمة إلهية، واصطناعاً إلهياً لشخص عمر، بقدراته العقلية والبدنية، وكل ما اتصف به من صفات في مرحلة ما قبل إسلامه؛ دفعت النبي “عليه الصلاة والسلام” لأن يتمنى إسلامه لعزة الدين الوليد، وما بعد البعثة، مما كان له أبلغ الأثر في قيام وتوسع دولة الإسلام، في عهد النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، أو ما بعد ذلك، في عهد أبي بكر “رضي الله عنه”، وفي عهد عمر ذاته.
لننظر الآن إلى موقف لاثنين من الصحابة الكرام، رضوان الله تعالى عليهم جميعًا، مع عمر بن الخطاب بعد توليه منصبه مباشرة، وهما أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل؛ حيث كتبا إليه رسالة بعد السلام عليه: “فإنَّا عهدناك وأمر نفسك إليك مهم، وقد أصبحت قد وُليت أمر هذه الأمة، أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع، والعدو والصديق، ولكل حصة من العدل، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر؛ فإنا نحذرك يومًا تعنى فيه الوجوه إلى الله وتجف فيه القلوب وتنقطع فيه من الحجج لحجة ملك قهرهم بجبروته فالخلق داخرون له، يرجون رحمته ويخافون عقابه، وإن كنا نحدث أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة، وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا إليك سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا؛ فإنما كتبنا به نصيحة لك.. والسلام عليك”.
تلقى عمر “رضي الله عنه”، الرسالة، وكان على ما نعهد من عدل؛ وقرأ ما فيها من قيم، لعل من أهمها ما لا ينتبه إليه الكثيرون فيها، وهي أنها من بين أهم الأدبيات السياسية في تاريخنا الإسلامي، وربما في التاريخ الإنساني، في عظة الحاكم، ودعوته إلى أهم مبادئ الحكم الرشيد التي تتكلم عنها أدبيات الأمم المتحدة ومُطبَّقة في الأمم المتقدمة في وقتنا الراهن، مثل الشفافية والعدل والتزام القانون -الشريعة في حالتنا هنا- والإعلاء من شأن المصلحة العامة.
كما أن الرسالة فيها إشعارات مهمة -كذلك- عن شعيرة مهمة معطلة في عصرنا الحالي في الغالب، في الممارسة السياسية والاجتماعية في الأوساط المسلمة، وهي شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في إطار المناصحة الواجبة من المسلم للحاكم، وهو هدي نبوي شريف، وتوجيه لكل مسلم حرص النبي “عليه الصلاة والسلام”، على التأكيد عليه؛ فيما يخص النصيحة للحاكم، ولعامة المسلمين.
فما كان من عمر إلا أن رد عليهما بالقول: “ولابد لكما من الكتاب لدي؛ فإنه لا غنى بي عنكما”.
وفي حقيقة الأمر، فإنه مما ندركه من السيرة الجهادية لكليهما، سواء في عهد النبوة، أو في وقت أبي بكر الصديق ودولة عمر بن الخطاب “رضي الله عنهما”؛ يقول بأن التربية وآثارها، هي كلٌّ متكامل.
فالتربية والتأسيس التربوي والفكري الذي تلقياه في عهد النبوة؛ جعلتهما على نسق القدوة في كل المجالات؛ الأخلاقية والفكرية والاجتماعية، وكذلك السياسية والقدرات الإدارية، وكانا يتعاملان -وغيرهما من الصحابة الذين تأسسوا في مدرسة التربية الإسلامية السليمة- مع كل موقف بما يتطلبه؛ تمامًا كما في موقف ولاية عمر بن الخطاب لخلافة المسلمين.
وما جرى في هذا الموقف فيه جانبان: الجانب الأول- أن عمر بن الخطاب “رضي اللهُ عنه” استشعر كلامهما، وأخذه على محمل الجد، ثم ولاهما من الولايات العسكرية والإدارية في دولته، فكانا على رأس جيوش المسلمين التي فتحت الشام، ثم تولى أبو عبيدة ولاية الشام، ولما قُبِض في طاعون عمواس الشهير تولى معاذ بن جبل محله، حيث علم من خبرته معهما وقت النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، ومن رسالتهما هذه، أنهما خيرٌ له، وسيكونان خيرًا وأنفع له وللأمة لو تمت توليتهما.
الجانب الثاني- هو الجانب المتعلق بمعاذ وأبي عبيدة، حيث إنهما أثبتا أنهما أهلٌ للأمانة التي حملاها، وأهل لتنفيذ وصايا وتعاليم النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، حتى أنفاسهما الأخيرة! فأبو عبيدة “رضي اللهُ عنه” نفَّذ تعاليم النبي “عليه الصلاة والسلام”، التي أثبت العلم الحديث صحتها، في التعامل مع الأوبئة؛ فلم يخرج من الشام وقت انتشار الطاعون، حتى مات، وكذلك فعل معاذ “رضي اللهُ عنه”، فلم يخرج برغم أن زوجتيه وولديه قد ماتا في نفس الطاعون، قبل أن يموت هو ذاته فيه.
في المقابل؛ فإننا نرى اليوم قادة الأنظمة والحكومات في بلداننا المسلمة، يعلون من شأن أهل الثقة والمنافقين الذين تربيتهم الدينية والأخلاقية ضعيفة فقادتهم إلى خصلة المداهنة والنفاق؛ فكانوا ضعافًا في كل شيء؛ فأضاعوا الأمانة بعدم الكفاءة والتفرغ للفساد والإفادة من الوظيفة العامة لمصالحهم الخاصة.
في بعض حركاتنا الإسلامية، نجد من يفضل “أهل الثقة”؛ لأنه أطوع له! بينما لو علم هؤلاء ما في منهج الإسلام في التربية والإدارة من خير لأقاموا لأهل الكفاءة من المخلصين لدينهم، العاملين عليه، ولوجه الله تعالى، كل الممكنات التي تعينهم على خدمة دعوة الله عز وجل
وفي بعض حركاتنا الإسلامية، نجد من يفضل “أهل الثقة”؛ لأنه أطوع له! بينما لو علم هؤلاء ما في منهج الإسلام في التربية والإدارة من خير لأقاموا لأهل الكفاءة من المخلصين لدينهم، العاملين عليه، ولوجه الله تعالى؛ كل الممكنات التي تعينهم على خدمة دعوة الله عز وجل.
ولا نبالغ لو قلنا إنها الآفة الأولى التي أضاعت الأمة وطليعتها الحركية، وبالتالي فإن أولى الأمور هو معالجة هذه الإشكالية؛ لأنه لو وصل أهل العلم والكفاءة إلى المراكز التنفيذية والاستشارية الأهم؛ لعولجت كل قضايا الأمة بشكل كامل.
وبرغم أن هذه مشكلة قد تبدو سياسية، إلا أنها تبقى في الأخير قضيةَ تربيةٍ بالدرجة الأولى كما رأينا!
(المصدر: موقع بصائر)