القُبَيسيّات .. وأوّلُ ثلاث سنواتٍ من الثّورة (9)
بقلم الشيخ محمد خير موسى
في آذار عام 2011م اندلعت شرارة الثّورة السّوريّة، فلم يكن النّظام السّوري هو المتفاجئ الوحيد باشتعالِها بل شاركه ذلك كلّ الجماعات الدّينيّة التي وجدت نفسها أمام مشهد لا مناص لها من التّعامل معه.
عموم الجماعات الدّعويّة ومنها القُبيسيّات لا سيما الدّمشقيّة منها وجدت نفسَها في موقف محرج، فهي محاصرةٌ بينَ نيران عدّة؛ نارِ النّظام الذي واجه الثّورة الشّعبيّة بقمع غير مسبوق ولن يقبل من هذه الجماعات إلّا الانحياز الكامل لخياره وقراره، ونارِ المبادئ التي طالما قدّمتها هذه الجماعات لأتباعها من إعلاء شأن كلمة الحقّ في وجه السّلطان الجائر، ونارِ الأتباع الذين يضغطون على قياداتهم الدّعويّة لأجل الحصول على موقف.
لم تكن القُبيسيّات عبرَ تاريخهنّ الطويل في موقفٍ أشدّ إرباكًا من موقفهنّ في أوّل سنوات الثّورة، وحاولنَ تجاوزَ الإرباك عبر التّعميم على حلقات الجماعة بضرورة عدم التّدخّل في السّياسة والإكثار من الأوراد والأدعية لكشف الغمّة ورفع البلاء.
اتّخذت القُبيسيّات في بداية الثّورة قرارًا واضحًا بالصّمت وعدم إعلان أيّ موقف، سواء في تأييد الثّورة أو النّظام، وهذا ينسجم عمومًا مع نهج الجماعة العام، ولكنّ هذا الصّمت لن يكون مقبولًا من النّظام والأتباع على حدٍّ سواء لا سيما مع امتداد الثّورة إلى الرّيف الدّمشقيّ بغوطتيه الشّرقيّة والغربيّة والتي تشكّل حاضنةً لأعداد كبيرة من طالبات الجماعة، ولتمتدّ المظاهرات عقب ذلك إلى عددٍ من الأحياء الدّمشقيّة مثل المزّة والميدان وكفر سوسة وأحياء دمشق الجنوبيّة.
صمتُ الجماعة الرّسميّ تجاه الثّورة التي تزداد اشتعالًا وتتمدّد بسرعة كان سببًا رئيسًا في انقسام الأتباع من آنساتٍ مشرفاتٍ وطالبات إلى أقسام ثلاثة كما هو الحال في عموم الجماعات الدّعويّة التي اتّخذت موقف الصّمت نفسه.
القسم الأوّل: انخرط في العمل الثّوري بأشكاله المختلفة من المشاركة في المظاهرات والإغاثة أو العمل الإعلامي.
وهذا القسم رأى صمت آنسات الجماعة نوعًا من الخذلان والانحياز الصّامت للنّظام، كما نظرت هؤلاء الطّالبات حولهنّ فوجدن بعض الأصوات الدّعويّة النّسائيّة قد ارتفعت في دعم صريحٍ للثّورة، وكانت أكثر الشّخصيّات تأثيرًا في هذا القسم هي الدّكتورة حنان اللّحّام التي كانت تمثّل توجّهًا دعويًّا خاصًّا قريبًا من توجّهات أستاذها جودت سعيد، حيث رأتها الطّالبات تتقدّم الصّفوف في مظاهرات داريّا في وقتٍ مبكّرٍ وتقف خطيبةً في جموع المتظاهرين بلا خوفٍ ولا وجل؛ فكان هذا المشهد ذا أثرٍ كبيرٍ في نفوس العديدِ من القُبيسيّات اللّواتي كنّ ينتظرنَ قدوةً تتقدّم الصّفوف.
القسم الثّاني: اتّخذ موقف الصّمت والحياد وكان يلتزم سياسة الجماعة، وهذا هو القسم الأكبر.
القسم الثّالث: أعلن تأييده الصّريح للنّظام وانحيازَه له مستدلًّا بموقف الدّكتور محمّد سعيد رمضان البوطي الذي انحاز للنّظام من بداية الثّورة، فهو عندهنَّ العالم الذي كشفَ الله عن بصيرته فتوقّع البلاء والغضب الإلهيّ قبل حدوثه فكان من الواجب التزام موقفه لتجاوز هذه النّقمة الإلهيّة.
وهنا لا بدّ من التّأكيد على أنّ الموقف الرّسميّ للجماعة في هذه السّنوات كان الحياد والصّمت؛ فلا المنخرطات في الثّورة ولا المؤيّدات للنّظام يمثّلن الموقف الرّسميّ للجماعة في هذه السّنوات.
في الشّهر الأخير من عام 2012م ظهر بشّار الأسد محاطًا بالعشرات من الدّاعيات السّوريّات، وثارت ثائرة المجتمع الثّوري على القُبيسيّات حينها، وتمّ اعتبار هذا اللّقاء موقفًا رسميًّا من القُبيسيّات في الانحياز للنّظام والوقوف ضدّ الثّورة.
وهنا لا بدّ من ذكرِ أمرين مهمّين لفهم دلالات هذا اللّقاء وترتيب الأحكام عليه:
الأوّل: اللّقاء لم يكن خاصًّا بالقُبيسيّات بل ضمّ عموم الدّاعيات من مختلف المدارس الدّعوية، وكان العدد الأقلّ في الحاضرات هنّ القُبيسيّات؛ فقد ضمّ اللّقاء داعيات من جماعة كفتارو ومن معهد الفتح ومن معهد الشّام ومدرّسات في كليّة الشّريعة، ولكنّ الماكينة الإعلاميّة للنّظام نجحت في وصم كلّ النّساء المشتغلات بالدّعوة بوصف القٌبيسيّات.
الثّاني: من خلال تتبّع ظروف اللّقاء فإنَّ عموم الحاضرات أكّدنَ أنّهن لم يكنّ على علم مطلقًا بأنَّ اللّقاء هو مع بشّار الأسد، وأنّهن دعين لاجتماع مع وزير الأوقاف للحديث عن ترتيبات إداريّة للعمل الدّعوي المسجديّ، وبعد وصولهنّ مكان الاجتماع أحاط بهنّ أفراد الأمن وأخذوا هويّاتهنّ وأحضروا باصاتٍ وتمّ نقلهنّ إلى قاعة أحد الفنادق في دمشق ليتفاجأن بدخول بشّار الأسد عليهنّ.
شخصيًّا أقتنع بهذه الرّواية لمروري بتجربة مشابهةٍ عام 2011م بعد اندلاع الثّورة بأشهر يسيرة إذ اتّصل بي أحد مدراء الأوقاف وكنت في دمشق حينها يطلب مني الحضور لاجتماع مع وزير الأوقاف للحديث في شؤون متعلّقة بالعمل الدّعوي، واعتذرت حينها فعاود الاتّصال بي أكثر من عشر مرّات يؤكّد لي بأنّ الوزير يريد أن يتعرّف إليّ مباشرة وأنّه مصرّ على حضوري الاجتماع، فبقيت مصرًّا على الاعتذار، ولتعرض نشرات الأخبار مساء ذلك اليوم لقاء لبشّار الأسد مع مجموعةٍ من العلماء والدّعاة؛ فسألت بعض الحاضرين فذكروا لي رواية تطابق ما ذكرته الدّاعيات والقبيسيّات عن لقائهنّ الأوّل مع بشّار الأسد.
وهذا التّفصيل ومعرفة الظّروف المحيطة باللّقاء يفيدُ في الحكم على القُبيسيّات بأنّ هذا اللّقاء وحده لا يصلح دليلًا لاعتباره موقفًا صريحًا مؤيّدًا أو داعمًا لبشّار الأسد، وهو لا يعدّ حتّى اللّحظة انقلابًا في الموقف المعتمد من الجماعة باتّخاذ الصّمت موقفًا.
في عام 2013م كانت الآنسة فاطمة الخبّاز المنحدرة من مدينة عربين من الغوطة الشّرقيّة والتي تعدّ من أكثر الآنسات الكبيرات قربًا من الآنسة منيرة قبيسي تمرّ على حاجزّ أمنيّ في منطقة المزّة، وبعد أن تحقّق الحاجز من هويّتها سمح لها بالمرور بسيّارتها وما أن انطلقت حتّى عاجلها الحاجز بإطلاق الرّصاص في عمليّة اغتيال أقرب إلى الإعدام الميدانيّ.
كانت هذه رسالةً واضحةً للجماعة بأنَّ النّظام لن يتهاون مع أيّ سلوكٍ يخالف توجّهاته أو يظهر التّعاطف مع الثّورة، فكان الانتقام من آنسة وداعية كبيرةٍ مسنّةٍ فقط
لأنّها ساهمت بإغاثة أهلها المهجّرين بفعل إجرام النّظام.
كما أنّها رسالةٌ بعدم رضى النّظام عن التزام الشّريحة الكبرى من الجماعة الصّمت وعدم تبرّئها العلنيّ من القُبيسيّات اللّواتي انخرطن في أعمال ثوريّة فاعتقلن أو قُتلن.
والجدير بالذّكر أنَّ العشرات من القُبيسيّات تمّ اعتقالهنّ وأشهرهنّ على الإطلاق عالمة الفيزياء النّوويّة السّوريّة الدّكتورة فاتن رجب التي تنتمي للقبيسيّات والتي اعتقلت في نهاية عام 2011م بتهمة الإرهاب، وهي من أبرز ناشطات الثّورة في مدينة دوما، وكان لاعتقالِها أثر كبير على سمعة النّظام.
ولكن؛ هل حدث انقلابٌ في موقف الجماعة بعدَ ذلك؟ وماذا عن اللّقاءات التاليّة لبشار الأسد مع القُبيسيّات؟ وهل كانت بترتيب معهنّ وعلم مسبقٍ منهنّ؟ ومن هي سلمى عيّاش وما دورها في موقف القُبيسيّات من النّظام؟ ومن هي خلود السّروجي وما علاقتها بالقُبيسيّات؟
نجيب عن هذا بإذن الله تعالى في المقال القادم.
(المصدر: الجزيرة مباشر)