مقالاتمقالات مختارة

“القول المعتبر”.. التدرج في تطبيق الشريعة مثالاً

بقلم وائل البتيري

 

لو أجرينا عملية استقراء لتطبيقات الفقهاء المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين؛ فإننا سنخلص إلى أن القول غير المعتبر عند عامتهم؛ هو القول الذي خالف النص الصريح، أو الإجماع الثابت، أو القياس الجلي، أو القاعدة الشرعية، والقول القائم على حديث موضوع أو ظاهر الضعف، أو النابع من الاجتهاد المحض مع وجود نص لم يصل ذاك المجتهد، أو المعتمِد على تضعيف حديث صحيح بغير دليل قائم، أو المتكئ على حكم منسوخ، أو مخالف لحقيقة علمية ثابتة.

وإن غاية ما يترتب على وصف قولٍ ما لمجتهد مشهود له بالعلم والتقوى بأنه “غير معتبر”؛ هو إهدار ذلك القول، لا إهدار قائله.

بيد أنه ليس من العلم في شيء؛ أن أهدر أقوال الآخرين بحجة أنها غير معتبرة، لمجرد أنها خالفت ما أظنه حكماً قطعياً ثابتاً، فقد أحكم على حكم ما بأنه منسوخ، وأنازَعُ في ذلك.

وقد أقول إن هذا حديث ظاهر الضعف، من غير أن أحيط علماً بجميع طرق الحديث، أو أحكم على حديث بالوضع لوجود راوٍ وصفَه بعضُ أهل العلم بالوضع، ووثقه آخرون!!

وقد أهدرُ قولاً لأنه في نظري يخالفُ الإجماع الثابت، وعند النظر والتأمل أجد أن هذا الإجماع المدّعى أمرٌ ظني لا يمكن إثباته حتى أصفه بالثابت!!
وقد أرى أن قولاً ما مخالفٌ للنص الصريح، في حين يراه آخرون موافقاً للنص لقرينة ما…

وهكذا..

هذا هو العلم.. لا يقبل الجمود، ويمقت التعجّل في إصدار الأحكام، وإهدار الأقوال بلا حجة شرعية بينة لا تقبل الشك أو اللبس.

قد يقول بعضهم: أنت تريد أن تفتح الباب على مصراعيه ليصبح كل قول معتبراً غير مهدور!

فأقول: كل قول يحتمله نص القرآن والسنة العربي، أو يحتمله الواقع الذي نريد أن نسقط النص عليه؛ هو قول معتبر، حتى لو كان قائله من حزب غير حزبك، أو طائفة غير طائفتك. ولو أن المعتزلة – مثلاً – قالت قولاً دل عليه الكتاب والسنة؛ أترانا ندَع دلالة الكتاب والسنة نكاية بهم، ومخالفة لهم؟! هذا من أبطل الباطل.

كل قول يحتمله نص القرآن والسنة، أو يحتمله الواقع الذي نريد أن نسقط النص عليه؛ هو قول معتبر، حتى لو كان قائله من حزب غير حزبك، أو طائفة غير طائفتك

ويقرر الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه “الموافقات” أن الخلاف الذي لا يُعتد به هو “ما كان من الأقوال خطأ مخالفاً لمقطوع به في الشريعة”، وهو تعريف معتبَر، يضيّق دائرة الخلاف، ويقرب المسافات، وبه يمكن أن نقرر أن الخلاف غير المعتبر بين علماء الشريعة قليل جداً، وأن أكثر ما يُدَّعى بأنه قول غير معتبر؛ هو في الحقيقة ليس كذلك.

أرأيتَ عالماً يحلّ الخمر مثلاً؟ أرأيتَ عالماً يحلّ هتك الأعراض؟ أرأيت عالماً يقول إن الطيبات من الرزق محرّمة؟ أو آخر يقول إن الكذب حلال، وإن الصدق حرام؟ لا أحد من أئمة الدين وأهل العلم يقول ذلك، بيد أن أحدهم لو أجاز الكذب في حالة أو حالتين؛ فإنما يجيزه نظراً لملابسات الفتوى وما يترتب عليها من مصالح أو مفاسد، أما أن يجيز الكذب المقطوع بتحريمه فكلا، وعليه فلا يجوز أن يُقال إن هذا العالم يجيز الكذب، كذا بإطلاق!

في السنوات الأخيرة؛ عادت مسألة التدرج في تحكيم الشريعة إلى الواجهة، وسمعنا بعض الأفاضل يقول إن الحكم بغير ما أنزل الله كفر، وإن التدرج في تحكيم الشريعة هو في حد ذاته حكمٌ بغير ما أنزل الله، إذ فيه تركٌ للحكم ببعض الشريعة، والله تعالى أمر بالحكم بكل ما أنزل لا ببعضه، ويبني على هذا القول الحكم بتضليل أو تكفير من يتدرج بتطبيق الشريعة، واصفاً إياه بأنه من الحاكمين بغير ما أنزل الله!

المقدمة الأولى، وهي وصف الحكم بغير ما أنزل الله بأنه “كفر” أمرٌ مقطوع به في الشريعة لا خلاف عليه، وإنْ كان هناك خلافٌ في الحاكم بغير ما أنزل الله نفسه؛ متى نسقط عليه بعينه وصف الكفر، ومتى لا نسقطه.

أما المقدمة الثانية؛ فهي مما ينازَع القائل بها، فإن التدرج في تحكيم الشريعة قولٌ معتبر يقول به أكثر العلماء المعاصرين على أنه حكمُ الله تعالى في المسألة، وبالتالي هم حينما يطبقون هذا التدرج إنما يحكّمون ما دلت عليه الشريعة ولا يخالفونها، فكيف يوصَفون حينئذ بـ”الكفر” و”الطاغوتية”؟!

قد يصرّ هؤلاء على قولهم بحرمة التدرج، أو الاعتراض على لفظة “التدرج” أحياناً.. هذا حقهم؛ طالما أنهم حققوا شروط الاجتهاد الذي أوصلهم إلى هذه النتيجة، وقولهم – لا شك – معتبر، بيد أنهم في نظر الآخرين حينما يطبّقون الإسلام دفعة واحدة على مجتمع ما؛ هم في الحقيقة لا يحكمون بما أنزل الله، فحكم الله يقتضي – عندهم – أن ننظر إلى مآلات الأفعال، فما رجحت مصلحته قدّمناه، وما رجحت مفسدته أرجأناه، ويستدلون على هذه القاعدة بأدلة شرعية كثيرة. فهل يصح أن يصف الطرفُ الأول الطرف الثاني بأنه “طاغوت” لأنه لم يحكم بالشريعة (على حد وصفهم) دفعة واحدة؟ وهل يصح أن يصف الطرفُ الثاني الطرف الأول بأنه “طاغوت” لأنه لم يحكم بالشريعة من خلال التدرج، إذ التدرج لمصلحةٍ في نظره هو حكم الله تعالى؟

وهكذا تصبح الأمة كلها “طواغيت”، ويتربع العلمانيون والشياطين على عروشهم، يتلهّون ويتندّرون بنا، ويسخرون من خيبتنا!!

وإن مما يجب تأكيده هنا؛ أن الذين ترجّح لديهم أن التدرج في تطبيق الشريعة هو الصواب الذي جاءت به النصوص؛ لا ينبغي لهم أن يَعْدِلوا عن هذا القول الذي ترجح لديهم أنه هو حكم الله تعالى، فيطبّقوا الشريعة دفعة واحدة، إلا لمصلحة راجحة، كوحدة صف المسلمين، أو إذا ترتب على عدم العدول عن رأيهم مفسدة أكبر من مصلحة عدم العدول نفسه، وتقدير هذا الأمر مرجعه إلى علماء الشريعة العدول.

وكذا يُقال في حق الذين لا يرون التدرج، فالأصل أن العالم ملتزمٌ بالعمل بما ترجّح عنده، لا بما ترجح عند غيره. والله تعالى أعلم.

على كل حال؛ لن يصغي كثيرٌ من الطيبين أو المتعصبين إلى كلامنا، وسيسارعون في إنكاره وإهداره.. وليكُن! فهذا شأنهم!

وشأننا نحن هو النصح لهم، وتبصيرهم بأن العالم الذي عُلمت عدالته؛ إذا عثرت قدمُه، وزل لسانه، وقال قولاً غير معتبر عندنا وعندكم؛ فإن ذلك لا يبيح عرضه، وإن الواجب يقتضي النصح له، والرفق به، وعدم التشنيع عليه.

إن العالم الذي عُلمت عدالته؛ إذا عثرت قدمُه، وزل لسانه، وقال قولاً غير معتبر عندنا وعندكم؛ فإن ذلك لا يبيح عرضه، وإن الواجب يقتضي النصح له، والرفق به، وعدم التشنيع عليه

قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في “الموافقات”: “إن زلة العالم لا يصحّ اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليداً له، وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عُدَّت زلة، وإلا فلو كانت معتدّاً بها لم يُجعل لها هذه الرتبة، ولا نُسب إلى صاحبها الزللُ فيها، كما أنه لا ينبغي أن يُنسب صاحبُها إلى التقصير، ولا أن يشنَّع عليه بها، ولا يُنتقَص من أجلها، أو يُعتقَدُ فيه الإقدامُ على المخالفة بحتاً، فإن هذا كلَّه خلافُ ما تقتضي رتبته في الدين”.

ثم يشير – رحمه الله – إلى قول معاذ بن جبل رضي الله عنه حينما سُئل: كيف زيغة الحكيم؟ فقال: “هي كلمة ترُوعكم وتنكرونها، وتقولون ما هذه؟ فاحذروا زيغته، ولا تصدنّكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق”.

والمسلم مطالَبٌ بإحسان الظن بإخوانه، وخصوصاً أهل الفضل والدعوة والعلم، وحمل أقوالهم على أحسن المحامل، والظن فيهم أنهم لم يقصدوا بما قالوا محادة الله ورسوله، فإنه كما قال ابن تيمية رحمه الله في “مجموع الفتاوى”: “وليُعلم أنه ليس أحدٌ من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً، يتعمّد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سننه، دقيقٍ ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وُجد لواحد منهم قولٌ قد جاء حديثٌ صحيح بخلافه؛ فلا بد له من عُذر في تركه”.. وراح يعدّد أصناف الأعذار، رحمه الله تعالى وأجزل مثوبته.

المسلم مطالَبٌ بإحسان الظن بإخوانه، وخصوصاً أهل الفضل والدعوة والعلم، وحمل أقوالهم على أحسن المحامل، والظن فيهم أنهم لم يقصدوا بما قالوا محادة الله ورسوله

كفانا – يا إخواني – فرقة وحقداً وسوء ظن بالدعاة والعلماء المشهود لهم بصدق التدين، لمجرد أنهم خالفوا أقوالاً نراها من الثوابت التي نعقد عليها قلوبنا.. فليس كل ما تراه ثابتاً هو ثابتٌ عند غيرك، فلا تشطط في إلزام الآخرين بمذهبك، فمذهبك هو مذهبك أنت، والآخرون لهم مذاهب محترمة؛ طالما أنها تصدر عن علماء مجتهدين، ولا تخالف قطعيات الشريعة.

 

 

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى